جاذبية التخلف
ممدوح عبد الغفور حسن
— سبق نشر هذا المقال فى الأهرام الصباحى منذ فترة طويلة، ويتناول تصنيف أو تسمية الدول فى المحافل الدولية، ولكن بعد ثورة 25 يناير رأيت أن الفكرة الأساسية فى المقال يجب تحديثها لتكون نظرة للشباب الذين حققوا حدثا تاريخيا فريدا فى مصر، وكان لهذا الحدث دويا شديدا فى العالم. وفى الوقت الحالى تدور معركة خفية بين ثوار 25 يناير ومن اعتنقوها من شباب مصر الناهض من ناحية، وفلول العهد البائد من الناحية الأخرى ، فلمن ستكون الغلبة؟ طريقين لا ثالث لهما: فهل ستنقلنا الثورة من دولة نامية إلى دولة ناهضة؟ أم سنظل دولة نامية؟ ففكرة هذا المقال تنطوى على تعريف الدولة النامية و الدولة الناهضة، من وجهة نظرى، ومن هذا المفهوم جاءت تسمية موقعى على كنانة أون لاين.
— تصنف الدول فى المحافل الدولية إلى صنفين: دول نامية developing countries، ودول تم نموها developed countries، وعلى ما أذكر كان أول ظهور هذا التعريف فى أوائل الخمسينات من القرن الماضى، وكان المقصود من "النمو" فى مفهوم أو تعريف "الدولة النامية" بصراحة هو "التخلف"، ولكن أرادت المحافل الدولية أن تغلف هذه الصراحة بشىء من الديبلوماسية فاختارت تعبير "النمو" ليدل على المعنى المقصود؛ فأصبح "النمو" هو الاسم الديبلوماسى للتخلف، و"التخلف" هو الاسم الحقيقى للنمو. أما إذا كنا نريد أن نعبر عن صحوة الدول النامية أو تحركها بعيدا عن التخلف فى طريق التقدم والرقى، أو سعيها للانتقال من مواقعها المتخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة، فيحسن بنا أن نستخدم تعبيرا ليس به لبس، وأقترح هنا أن نستخدم تعبير "النهوض" فنقول "دولة ناهضة ""progressing country لنعنى دولة تتحرك حثيثا نحو مصاف الدول المتقدمة وتقترب منها فعلا. وقد كنت أعتقد أن نهوض الدول النامية، أو على الأقل بعضا منها، لابد وأن ينقلها إلى مصاف الدول التى تم نموها ولو بعد حين، ولكنى بدأت أشك فى صحة هذا الاعتقاد، على الأقل بالنسبة لكثير من الدول النامية، فبالرغم من أن هذه الدول تعتقد أنها تنهض، إلا أن الحقيقة ليست كذلك. ولهذا فإننى أطرح سؤالا تنبع أهميته من أن ثلاثة أرباع سكان العالم، حسب تقديرات الأمم المتحدة، يعيشون فى الدول النامية: هل ستبقى الدول النامية نامية فى القرن الحادى والعشرين كما كانت فى القرن الماضى؟ أم يمكن أن تنتقل من حظيرة الدول النامية إلى مصاف الدول التى نمت، أو بمعنى أوضح الدول المتقدمة؟ ليس من السهل إجابة هذا السؤال ببساطة، ولكنى سأضع تشبيها من العلوم الفيزيائية لكى أبين مفهومى عن الإجابة السليمة لهذا السؤال؛ فهناك من علماء الاجتماع من يعتقد أن القوانين الفيزيائية تحكم أيضا الظواهر الاجتماعية. وسأستعير قانون الجاذبية بالنسبة للأجرام السماوية لكى أضع ردا واضحا على السؤال المطروح، وسأبدأ بشرح مبسط لهذا القانون.
— لكل كوكب جاذبية تتحدد شدتها بكتلة هذا الكوكب، فكلما زادت كتلة الكوكب كلما زادت شدة جاذبيته. وتعمل هذه الجاذبية على جذب أى جسم مادى يقع فى نطاقها إلى هذا الكوكب، وليس من السهل الإفلات من هذه الجاذبية؛ فالأرض مثلا تشد كل ما على سطحها أو فى مجالها بقوة مقدارها معروف ويطلق عليها اسم "عجلة الجاذبية الأرضية" وهى بالطبع تختلف عن عجلة جاذبية عطارد أو عجلة جاذبية زحل لاختلاف الكتلة. وعند انطلاق أى قذيفة من على سطح الأرض فى أى اتجاه أيا كان، فإن عجلة الجاذبية تعمل على إنحناء هذا الاتجاه بالتدريج لكى تعود هذه القذيفة إلى سطح الأرض مرة أخرى، أى أن مسار أى قذيفة لابد وأن يكون مسارا منحنيا ما بين نقطة الانطلاق وبين نقطة الارتطام، وكلما زادت سرعة القذيفة فى البداية، كلما زادت المسافة بين نقطة الارتطام ونقطة الانطلاق. ولكن ماذا لو أطلقنا القذيفة رأسيا إلى أعلا؟ كلنا يعلم أنها ستتباطأ بالتدريج إلى أن تصل إلى التوقف ثم تعود أدراجها لترتطم بالأرض عند نقطة الانطلاق. فهل معنى ذلك أن أى جسم على الأرض لا يستطيع الابتعاد عنها إلى الأبد؟ وكيف إذن أمكن إطلاق مراكب الفضاء إلى الكواكب الأخرى؟ ينص قانون الجاذبية على أن هناك سرعة معينة إذا تجاوزتها أى قذيفة من على سطح الأرض فإنها تستطيع أن تنطلق إلى أن تبتعد تماما عن تأثير جاذبية الأرض وتتحرر منها، وتسمى هذه السرعة بسرعة الانفلات من جاذبيـة الأرض، ويبلغ مقدارها حوالى 11 كم/ثانية، بمعنى أنه لو انطلقت قذيفة من على سطح الأرض بسرعة أكبر من 11 كم/ثانية، فإن هذه السرعة ستحملها بعيدا عن مجال الجاذبية الأرضية إلى الأبد. الخلاصة التى أريد الوصول إليها هى أننا إذا أردنا الفكاك من جاذبية الأرض فلابد أن نصل إلى سرعة لا تقل عن 11 كم/ثانية، وأى انطلاق بسرعة أقل من هذه السرعة لابد وأن يعود بنا إلى سطح الأرض.
— وهكذا "نمو" أو تخلف الأمم، فهذا التخلف أيضا له جاذبية كما للأرض جاذبية، وإذا وقعت أمة فى إسار جاذبية التخلف، فستعمل هذه الجاذبية على شدها دائما نحو التخلف فتصبح دولة نامية، وتظل دولة نامية بالنظرة الديبلوماسية لهذا التعبير طالما بقيت فى إسار جاذبية التخلف، ولا يمكن للأمة التى تقع فى مجال جاذبية التخلف الفكاك منه إلا إذا تسارع "نهوضها" بعيدا عن التخلف بسرعة تزيد على سرعة الانفلات من هذه الجاذبية البغيضة، وأى سرعة تقل عن سرعة الانفلات هذه، لابد وأن تعود بها إلى الارتطام بالتخلف مرة أخرى، وقد يكون هذا الارتطام مؤلما موجعا. وكلما زاد مقدار تخلف الأمة أو الدولة، زاد مقدار جاذبية تخلفها، وزاد مقدار السرعة المطلوبة للانفلات من هذه الجاذبية.
— والذى أقصده بالدولة هنا هو المجتمع البشرى الذى يعيش داخل حدود سياسية معترف بها، ومقومه الأساسى هو طاقته الذهنية ومجهوده الجسمانى أولا، ثم ثرواته المادية وموارده الطبيعية؛ فالدولة المتخلفة فى عرفى إذن هى الدولة التى أرادت أن تسير فى طريق النهوض ولكنها ضلت الطريق فبدلا من أن توظف مواردها وثرواتها وطاقات أفرادها فى الإنتاج الفعلى لرفع مستوى معيشتها وبناء حضارتها، بددت مواردها وأفسدت ثرواتها وأهدرت طاقات أبنائها، أما الدولة المتقدمة فهى الدولة التى سارت فى طريق النهوض الحقيقى فوظفت مواردها وثرواتها وطاقات أبنائها توظيفا جيدا رفع من شأنها ومن مستوى معيشة أفرادها وجعل لها وزنا فى المحافل الدولية وأعطاها القوة التى تستطيع بها أن تجور على غيرها إذا لزم الأمر، خاصة إذا كان هذا الغير ينتمى إلى العالم النامى. ولذا فإننى أعتقد أن تصنيف الدول فى القرن الحادى والعشرين سيكون دولا متقدمة ودولا ناهضة ودولا "نامية"، خاصة فى ظل ما يسمى النظام العالمى الجديد، وبعد 11 سبتمبر 2002.
ممدوح عبد الغفور حسن
رئيس هيئة المواد النووية سابقا
33442749
0105604772
.
ساحة النقاش