ماذا لو فات مصر قطار الطاقة النووية؟
د. ممدوح عبد الغفور حسن
هيئة المواد النووية
فى عام 1939 اكتشف الإنسان نوعا جديدا من الوقود يعطى كميات من الطاقة تعادل ملايين المرات الكميات التى يمكن الحصول عليها من نفس الوزن من الوقود التقليدى، وكان ذلك إيذانا ببدء عصر جديد فى مسلسل الحضارة البشرية وهو عصر الطاقة النووية، أو عصر اليورانيوم، وقود هذه الطاقة الجديدة. ومنذ الإعلان عن هذا المصدر الجديد تتابعت الدول فى دخول ذلك العصر، وبالطبع كانت الدول الكبرى هى الأولى فى هذا المحفل، ولكن تبعتها كثير من الدول النامية لما وجدته فى التكنولوجيا النووية من عائد هائل وسريع فى دفع عجلة التنمية. وكانت مصر من أوائل الركب فى حجز مكانها فى قطار العصر النووى بإنشاء لجنة الطاقة الذرية فى منتصف الخمسينيات، ولكنها تخلفت عن الركب كثيرا بعد تأجيل برنامجها النووى لإنشاء مفاعلات توليد الكهرباء وتحلية المياه. وكانت تثور فى ذهنى دائما التساؤلات حول حقيقة الدوافع التى أدت لهذا الانتظار الطويل على محطة القطار النووى، ليس بالنسبة لمصر فقط، ولكن بالنسبة للوطن العربى أيضا. وبعد حضورى لمؤتمرين متتالين عقدا فى القاهرة مؤخرا، ألحت على كثرة من الأفكار ووجدتها فرصة مناسبة للإجابة على بعض هذه التساؤلات. كان أول مؤتمر هو المؤتمر العربى الثانى للاستخدامات السلمية للطاقة النووية الذى عقد فى الفترة من 5 إلى 10 نوفمبر 1994، وبعدها مباشرة حضرت المؤتمر الثانى وهو مؤتمر البترول الثانى عشر للاستكشاف والإنتاج فى الفترة من 12 إلى 15 نوفمبر 1994، ومن متابعة المؤتمرين يمكن الخروج بنتائج هامة عن العلاقة بين البترول والطاقة النووية كمصدرين مهمين لتوليد الطاقة الكهربية على مستوى العالم كله؛ فالمعروف أن الطاقة الكهربية هى أفضل صور الطاقة لأغراض التنمية، وقد كان من المفروض أن يتضافر البترول والوقود النووى كمصدرى الوقود اللازم لتوليد الطاقة الكهربية فى محطات توليد الكهرباء المصرية ولكننا لازلنا نجد الوقود النووى محروم من الاهتمام الذى يستحقه حتى الآن، ليس فى مصر وحدها ولكن فى جميع الدول العربية أيضا. ومن يتابع مؤتمر البترول المذكور، بل مؤتمرات البترول بصفة عامة يشعر بأن هناك جفاء من مجتمع البترول نحو مجتمع اليورانيوم كوقود، وقد يبدو هذا الجفاء معلنا أحيانا، وأحيانا أخرى لا تحسه إلا بين السطور، هذا بالرغم من أن عائدات البترول ستساهم بنصيب الأسد فى تمويل محطة مصر النووية الأولى التى طال انتظارها. هذا فى مصر أما فى الدول العربية البترولية فهذا الجفاء يظهر سافرا لا مواربة فيه، بل يذهب بعيدا فى بعض الأحيان إلى حد العداء. ولصالح مصر ومستقبل التنمية فيها، بل ولصالح الأمة العربية كلها، خاصة فى إطار التغيرات السياسية التى تحدث فى الشرق الأوسط وتضطلع مصر بالدور الريادى فيها، يجب القضاء على هذا الجفاء وتضافر البترول والوقود النووى يدا بيد كمصدرى الطاقة الكهربية لتلبة متطلبات التنمية ورفع مستوى المعيشة وتزايد السكان فى مصر، بل يستطيع البترول المصرى أن يعتمد على الطاقة النووية لتعينه على سد حاجة مصر المتنامية و المتزايدة للكهرباء ردا لجميل مشاركته فى محطتها الأولى. وهناك الكثير من الأسباب التى تحتم علينا ركوب قطار العصر النووى دون إبطاء، وخاصة وأن مكاننا محجوز فيه، ومن هذه الأسباب ما يلى:
1- كانت الطاقة وما تزال أهم عوامل تطور ونمو الحضارة والمدنية، وفى ذلك تحتل الطاقة الكهربية مركزا فريدا بين صور الطاقة الأخرى حتى أصبح نصيب الفرد السنوى منها هو مؤشر التقدم والرقى بين الدول، ولذلك فإن الطلب العالمى على الكهرباء سيتزايد باستمرار، وخاصة فى الدول النامية ومنها مصر.
2- منذ عقد الخمسينيات احتلت الطاقة النووية مركزا مرموقا بين مصادر الطاقة الأولية فى توليد الكهرباء كما احتلت التطبيقات السلمية للتكنولوجيا النووية مركزا مرموقا بين التكنولوجيات الحديثة حتى أصبح العصر الحالى من مشوار البشرية يعرف باسم العصر النووى. ومن الواضح أن مواكبة هذا العصر يستلزم تقدما علميا وتكنولوجيا بصفة عامة لا يتحقق إلا بإنشاء المفاعلات النووية لتحلية المياه وتوليد الكهرباء، وليس الاقتصار على استخدام الإشعاع أو النظائر المشعة فى بعض المجالات؛ فالتكنولوجيا النووية تكنولوجيا متكاملة أساسها المفاعلات والوقود النووى وكل ما يستتبع التمكن منهما، بدءا من استخراج اليورانيوم إلى التخلص من النفايات. ولقد بينت الكلمات التى ألقيت من المنصة فى افتتاح مؤتمر الطاقة الذرية الرغبة الأكيدة لدى الدول العربية فى دخول العصر النووى، إلا أن وقائع المؤتمر بينت بوضوح التخلف النووى الذى نحن فيه.
3- من أهم نتائج المؤتمر المذكور هو أن أكبر التحديات التى ستواجهنا فى المستقبل القريب جدا هو تنمية مصادر الماء العذب، ومع بحث كل المصادر المنظورة من ماء النيل والمياه الجوفية نجد أن دخولنا مجال تحلية مياه البحر لا مفر منه لتلبية احتياجات التوسع الزراعى والصناعى ورفع مستوى المعيشة وتزايد السكان، وهنا نجد الطاقة النووية خير سند لنا فى ذلك التحدى، وأى تأخير فى دخول العصر النووى سيزيد من صعوبة هذا التحدى.
4- يعتبر حرق البترول الآن كوقود من الأمور غير المستحبة من ناحية المنتج والمستهلك على حد سواء بسبب التأثيرات البيئية وبسبب ما يسمى ضريبة الكربون، ولذلك من مصلحة البترول توجيهه إلى الاستخدامات التى لا تستطيع الطاقة النووية الدخول فيها مثل تسيير وسائل النقل المختلفة وصناعة البتروكيماويات، وكذلك حتى نمد فى أجل احتياطياتنا منه؛ فالبترول مصدر محدود يقدر له النفاد فى المستقبل القريب، ولا ننسى أنه من مصادر الدخل القومى الهامة.
5- أما على مستوى الوطن العربى، وخاصة فى الدول البترولية، فالخوف من الطاقة النووية كمنافس للبترول ليس له مبرر، فالطاقة النووية لا تشكل حاليا إلا 6% فقط من الطاقة الأولية المستخدمة فى العالم، ودخول الدول العربية العصر النووى ببضعة مفاعلات لن يكون له أى تأثير يذكر على المستوى العالمى خاصة إذا علمنا أن هناك 55 مفاعلا تحت الإنشاء فى الوقت الحالى، وأن تكتلات الدول الغربية والشرقية على حد سواء تعمل على تقليل الاعتماد على البترول إلى أقصى حد ممكن؛ فإن كان هناك خوف على البترول فهو من مصادر لا نتحكم فيها، وليس من رفع القدرات النووية للدول العربية أو بعضها على الأقل، وقد يكون هذا التخوف ايحائى لكى نتقاعس عن ركوب القطار النووى.
6- يملك الوطن العربى احتياطى هائل من خامات الوقود النووى لم تسلط عليه الأضواء بعد، فاليورانيوم، وهو مادة الوقود النووى الأساسية ولا طاقة نووية بدون اليورانيوم، يستخلص من الفوسفات كناتج ثانوى فى تصنيعه بدون تكلفة كبيرة، بل إن استخلاص اليورانيوم من الفوسفات يعتبر تنقية له ويزيد من قيمته فى الأسواق العالمية. وتملك معظم الدول العربية احتياطيات مختلفة من الفوسفات، وقد قدر أن محتوى الفوسفات العربى من اليورانيوم يساوى ضعف الاحتياطى العالمى من اليورانيوم فى خاماته التقليدية، ولو اهتمت الدول العربية بهذا اليورانيوم الفوسفاتى لأصبح لها رصيدا من الوقود لا يقل فى قيمته عن البترول؛ بل قد يزيد كثيرا، فالتطور البشرى الطبيعى لابد وأن يمر بعصر الطاقة النووية الذى نحن فى بداياته قبل الانتقال إلى المصدر التالى من الطاقة التى قد تكون الطاقة الاندماجية أو الطاقة الشمسية. وتؤكد البيانات التى تنشرها الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن العالم مقبل على فجوة خطيرة بين إنتاج اليورانيوم والطلب عليه لإمداد المفاعلات العاملة فى العالم والتى تحت الإنشاء، ويقدر لهذه الفجوة أن تبدأ فىالفترة ما بين 1996 و 2003 وتتزايد بعد ذلك، ولهذا ستعقد الوكالة الدولية للطاقة الذرية اجتماعا خاصا للمهتمين بالوقود النووى فى فيينا فى الفترة من 5-8 ديسمبر القادم لمناقشة هذا الأمر وإلقاء الضوء على المستجدات فى استكشاف اليورانيوم وإنتاجه.
7- قد يتسائل البعض: هل تقدر مصر على استيعاب التكنولوجيا النووية المتطورة والمعقدة؟ وهل تقدر على احتواء مخلفاتها ونفاياتها والحد من خطورتها؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يحتاج إلى أحاديث طويلة لا أريد الخوض فيها حتى لا أتجاوز المساحة المسموح بها للنشر، ولكن ربما تتاح لى فرصة أخرى أتناول فيها هذه التساؤلات، أما الآن فيكفى أن يتذكر القارىء يومين فى تاريخنا المعاصر: 5 يونيو و6 أكتوبر، فقد انتقلنا من هوة الهزيمة إلى قمة الانتصار فى ست سنوات فقط تعتبر ومضة فى تاريخ الشعوب؛ فبناة الأهرام يصنعون المعجزات إذا كان لديهم الدافع!
8- فماذا ننتظر إذن، لقد كان شعارنا فى الخمسينيات عند إنشاء لجنة الطاقة الذرية المصرية عصر الذرة" ولكن ها نحن بعد أربعين سنة نرى قطار العصر النووى يمر بنا سريعا، ولم يبق أمامنا إلا السبنسة، وإن لم نلحق بها، فلنستعد بشعار آخر نطلقة عندما تتوارى السبنسة عن أنظارنا نقول فيه "إذا كان قد فاتنا عصر البخار وعصر الكهرباء و عصر الذرة، فلن يفوتنا عصر.........؟؟؟؟"
نشرت فى الأهرام فى 30/11/1994
ساحة النقاش