<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]--><!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif"; mso-bidi-font-family:"Traditional Arabic";} </style> <![endif]--><!--<!--
八. زغــوان أمحمــد
جامعة سعيدة. الجزائر
مثال العربية اللغوي ولسان قريش
لا شك أن العربية التي قدر لها أن تكون سفيرا للقرآن والناطقة الرسمية باسمه كانت تحمل في طياتها ـ كما يرى مالك بن نبي ـ تلك القدرة الاستيعابية على احتمال النص المعجز والتسامي به إلى آفاق عليا بما يزيد على النص العربي ويتجاوزه إلى الحد الذي تنقطع معه أنفاس معارضيه عن ملاحقته والطمع في مجاراته، وتلك خصوصية من خصوصيات هذه اللغة التي تحولت في ظرف قياسي إلى أداة بحث لمسائل المعارف والمفاهيم المختلفة، وغدت مادة استنباط ومصدرا لقواعد وأصول الكثير من علوم الدين والدنيا، وعادت اللغة الرسمية للدولة الناشئة.
فكيف كتب لها أن تغدو كذلك ؟. وكيف رسّمت ؟
لقد قدّر لهذا النموذج اللغوي أن يتأسس فيما قام به الخليفة عثمانt يوم أن جمع الأمة على حرف واحد تحقيقا لهذا النموذج انطلاقا من مقررات النص القرآني الكريم، فخدم القرآن باللغة، وخدم اللغة بالقرآن إذ " لولا القرآن الكريم لكانت لغة العالم العربي لغات متفرقة يصعب التفاهم بين أصحابها كما صارت إليه اللغة اللاتينية بعد ذهاب دولة الرومان، فتفرق أصحابها أمما وطوائف، وامّحت الدولة الرومانية، والأمة الرومانية كما امّحت سواها من الأمم التي ذهبت جنسيتها بذهاب لغتها " (1).
فكيف تمّ للإمام تحقيق هذه الغاية ؟. وما المنهج العثماني المعتمد لإقرار هذه اللغة المشتركة وترسيمها ؟ وما طريقة التأصيل لها ؟.
رأى الخليفة عثمان أن اللسان العربي لم يكن متجانسا بما فيه الكفاية، وكان لهذا الواقع ما يبرره شرعة، ويسوغه مصلحة، وقد اختمرت هذه الفكرة في ذهنه في ضوء معايشة الفترة الماضية التي سبقت عهد توليه الخلافة.
فعلى المستوى الشرعي يمكن بيان ذلك بتوصيف الرسول r للواقع السائد صدر الملة بقوله: " أنزل القرآن على سبعة أحرف" أي سبعة أوجه من اللغات " (2).
قال ابن الجزري في هذا المعنى : " الأحرف هي اللغات المختلفات " (3).
وتمثل هذه اللغات أو اللهجات العربية المتعددة " المرآة الصادقة التي تعكس الواقع اللغوي الذي كان سائدا في شبه الجزيرة قبل الإسلام " (4) كما يفهم من قولهr في الحديث المتقدم وبيان ابن الجزري .
يقول ابن الجوزي (ت 597 هـ): " أما كونها سبعة أحرف دون أن لم تكن أقل أو أكثر، فقال الأكثرون: إن أصول قبائل العرب تنتهي إلى سبعة، وإن اللغات الفصحى سبع.. وقيل ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص بل المراد السعة والتيسير.. والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر "(5).
أما على مستوى المصلحة والترفق فالباعث عليه كون " العرب الذين أنزل القرآن بلغتهم كانت لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها أو من حرف إلى آخر بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولو بالتعليم والعلاج" (6)، ولاسيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابا كما أشار النبي r حين أتاه جبريل فقال له: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقال r أسأل الله معافاته، ومعونته إن أمتي لا تطيق ذلك.. فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع " (7)، " ولأدى ذلك إلى إقامة حواجز بين هذه القبائل وبين قراءة القرآن " (8).
وبمقتضى المصلحة الشرعية القاضية بـ " أينما كانت المصلحة فثم شرع الله " رأى العلماء أن تفعيل دور الأمة العلمي يمر عبر جمعها على حرف واحد مادام التعدد القرائي أوجبته مصلحة ظرفية مرحلية ارتفعت بانتفاء مبرراتها وملابساتها، فالوحدة اللغوية خير ضمان لنسيج الأمة من التمزق والتشرذم خاصة مع الوقت، والعاقل من يأخذ الأمر بقوابله .
وقد ترجم هذا الموقف في عمل إجرائي الصحابي عثمان t بعد استشارة واسعة لأهل الرأي والفضل فاستقر الرأي على أن حفظ لغة القرآن أفضل سياج يحوط القرآن، ويحول دون امتداد طائلة التحريف إلى حماه الشريف، ولا سبيل لذلك إلا بجمع الأمة على حرف واحد هو حرف المصحف الإمام" فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف السبعة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها "(9)، إذ أول انهدام الجدار يبدأ بشق …
ويلاحظ أن سيدنا عثمانt ثبت أصلا لغويا يقاس عليه بقوله: " للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القـرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا " (10).
" قال الإمام الزهري (ت 124 هـ) فاختلفوا في التابوت، فقال زيد: هو التابوه وقال النفر القرشيون هو التابوت، فرفع الأمر إلى عثمان، فقال اكتبوه بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم " (11).
وقد شكّ البعض في هذا القول، واعتبر أن هذا الرأي قد يكون موضوعا " لإعلاء شأن قريش في اللغة لأن رسول الله منهم، وقريش كانت تسكن مكة وما حولها، وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم، ولأنّ رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيرا من غلمان قريش في عهد محمدr كان يرسل إلى بني سعد لتعلم اللغة والفصاحة " * (12).
وقد ينضاف إلى هذا الاعتبار التاريخي اعتبار آخر ديني يتمثل في أنّ العرضة الأخيرة
للرسولr كانت على قراءة زيد بن ثابت، وزيد هذا أنصاري خزرجي من غير قريش،
فكيف نوفق بين الأصل القرشي الذي يقول الرواة أن الخليفة عثمان ثبته كمعيار يفزع إليه حال الاختلاف، وقراءة زيد الأنصاري وهو من غير قريش، فهل يمكن أن يكون الأصل العثماني موضع نظر، وتكون الرواية في صيغتها تلك غرضا للجرح والطعن عملا بموجب القاعدة القاضية ببطلان الاستدلال إذا دخل الاحتمال.
وما يترجح من تحري صحة هذا الأثر أنه نص مثبت في البخاري ولا غبار عليه من هذه الحيثية، وقد يحمل تأويله على أن القرآن نزل بأغلب لغات العرب بعامة دون تخصيصه أي " بعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن " (13).
قال القرطبي (ت 671 هـ) عن معنى قول عثمان المتقدم " نزل بلسان قريش يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط إذ فيه كلمات، وحروف، وهـي خلاف لغة قريش* وقد قال تعالى:) إنا جعلناه قرآنا عربيا( الزخرف [3]، ولم يقل قرشيا وهذا يدل على أنه منزل بجميع لسان العرب " (14) .
والحقائق على الأرض هي خير ما يحشد لتعزيز مثل هذا الطرح في هذا المقام تحديدا، ومنها ما يروى أيضا عن عمر t أنه سأل وهو على المنبر عن قوله تعالى:) أو يأخذهم على تخوف( النحل. [47]. فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص "(15) ، وأمثال هذه الحوادث كثيرة في الكتب التراثية .
قال ابن عبد البر (ت 671 هـ): " غير لغة القرآن موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز " (16).
ومن ذلك قراءة " لكم فيها معائش " * بتحقيق الهمز ومنه قوله تعالى جده في سورة يوسف: )وأخاف أن يأكله الذئب( الآية [13]، والمعلوم عن قريش أنها لا تحقق الهمز ، ثم إذا " كان القرآن نزل بلغة قريش وحدها، فلم كان الصحابة من قريش مثل (أبو بكر) و( عمر )، وغيرهما يتحيرون في تفسير ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآن، والشعر هو شعر العرب لا شعر قريش وحدها ؟ (17).
أضف إلى ذلك كله أنّ أهل اللغة "لم يأخذوا اللغة عن قريش فكيف تكون الفصحى لهم في أصلها.. ونحن لم نسمع أن راوية كان يلقي شعر امرئ القيس بلهجة كندة، ولا شعر زهير بلهجة مزينة، وهكذا لم نسمع أن للشعر قراءات كما كان للقرآن قراءات مختلفة.. فلما أخذ النحاة عن الرواة أخذوا العربية الفصحى من أفواه هؤلاء فلم تكن خصائص لغة الشاعر واضحة في الشعر بقدر ما اتضحت خصائص لغة الراوية، وهكذا وجدنا امرأ القيس الكندي، وعنترة العبسي، وعمرو بن كلثوم التغلبي يتكلمون على لسان الراوية لهجة واحدة، وهي اللهجة التي عرفها النحاة عن الرواة " (18) .
إذن هناك حلقة مفقودة لا سبيل إلى تجاوزها إلا بافتراض أن العرب كانت لهم لغة رسمية تحظى بقبول القبائل، واتفاق مجموعهم. إذ لو كانت الهيمنة للسان قريش لما أنكر عمر بن الخطاب على هشام بن حكيم وقد اختلفت قراءتهما، وكلاهما قرشي *.
كما ينقل عن ابن عباسt قوله: " كنت لا أدري ما ) فاطر السماوات والأرض (
الأنعام [14] حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها " (19).
وهذا التضارب في النقول حمل الطبري (ت 310 هـ) على اجتناب القطع في المسألة والقول بلغة مخصوصة على أنها لغة القرآن، وعمد إلى محاولة التوفيق والتوسط قائلا إنما هو" ببعض الألسن.. دون جميعها " (20) مقصيا بذلك الشاذ منها حسب ما يشاع في أدبيات جمعة اللغة، وربما إطلاقهم مثل هذه الأحكام كونهم رأوا أن نماذجها وعيناتها لا تتخلل نص القرآن الكريم، وقدر لها أن تبقى على مبعدة منه فلا يقرأ بها بالمرة مثل " كشكشة قيس وعنعنة تميم فكشكشة قيس يجعلون كاف المؤنث شينا فيقولون في) قد جعل ربك تحتك سريا( مريم [24] "ربش تحتش" وعنعنة تميم يقولون في " أن" "عنْ " فيقرءون "فعسى الله عن يأتي بالفتح" وبعضهم يبدل السين " تاء " فيقولون في " الناس" " النات "، وقال: هذه لغات يرغب بالقرآن عنها " (21).
كما لا ينبغي أن ننسى أن في القرآن نفسه وردت كلمات اعتبرت غير عربية " مثل زنجبيل، وسجل، وسجِّين، وسلسبيل الخ، وجاء في الحديث بعض كلمات أجنبية عربت كذلك كقولهr: " فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين" والأرِيس والأرِّيس في لغة أهل الشام الأكار، وهو الفلاح أو الحارث " (22)، ويذكر الثعالبي (ت 430 هـ) صاحب فقه اللغة وأسرار العربية في كتابه " فصلا في سياقة أسماء فارسيتها منسية، وعربيتها محكية " ويحصي فصلا بكامله مما ينسب بعض الأئمة إلى اللغة الرومية " (23).
إذن:
نحن أمام أنموذج لغوي تراكمي شادت صرحه أجيال متعاقبة، وعملت فيه بالاقتراض والتعريب والاشتقاق وإلى ما هنالك.. وهذا شأن كل لغة يقدّر الباحثون أن لها " مثلا أعلى تصل إليه أو تقاربه يوما، وهذا المثل هو الذي يجب أن يحاكى ويحتذى " (24) .
هذا المثل هو الذي شكلت لهجة قريش قاعدته وسناده، وهو النموذج الذي راهن القرآن العظيم عليه وقت نزوله، واتخذه عماد تحديه لصيارفة البيان في أن يأتوا بسورة من مثله.. فأعجزهم ذلك وأقروا بذلك ولم يستدرجوا ـ ولو لمجرد المحاولة ـ لمعارضة القرآن لعلمهم أنها كرة خاسرة أيسر منها مقابلته بالتجهم والعبوس، والصد بالسلطان واللسان، ويمكن بيان مرتكزات غلبة النموذج القرشي على غيره من الوجهين التاليين:
الوجه الأول: ( الزعامة الدينية والسياسية):
q زعامة قريش الدينية قوامها على سقاية الحجيج وعمارة البيت الحرام، ونقرأ في الآثار كيف أن هاشما بن عبد مناف كان يخطب في قومه كلما اقتربت مواسم الحجيج فيحرضهم على الإنفاق والبذل من أموالهم خدمة لقطان بيت الله الحرام وقصّاده، وبما يتفق ومنزلة قريش من العرب ذلك أن " مكة قبل البعثة المحمدية الشريفة كانت مهوى أفئدة العرب جميعا، ومقصد حجيجها إلى الكعبة، وأواصر الحنين القوية التي كانت تشد البدوي من كل صقع إلى مكة " (25).
وهذه المكانة الدينية جعلت قريش موضع إكبار وإجلال من القبائل، فلا تتعرض قوافلها إلى نهب أو إغارة المتربصين من قطاع الطرق، ومصداق ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت[67])أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم (.
كما عملت قريش على استثمار هذه الأمن والتقدير من مجموع العرب في تنمية اقتصادياتها، فما من شك أن الحجاج الوافدين من جهات مختلفة كانوا يجتلبون معهم
سلعهم وبضائعهم، فيبيعون في أسواق قريش ويشترون حال آذانهم بالرحيل، فكانت أسواقهم تاريخئذ أشبه بسوق مفتوحة تجبى إليها ثمرات كل شيء قال تعالى في سورة القصص [57] )أو لم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا (.
وأسهم هذا الانفتاح الاقتصادي بدوره في إشاعة أجواء الاستقرار، والاطمئنان كأثر من آثار الأمن الاقتصادي والغذائي، وقد امتن الله تعالى عليهم بالأمنين معا لتعلقهما ببعضهما البعض إذ العامل الاقتصادي ورواج التجارة يستتبعها أمنا وطمأنينة في النفوس إذ لا يعود الناس يستشعرون ذلك القلق الوجودي على أرزاقهم قال تعالى: )فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف(.
ولا يستبعد أن تكون قريش قد شكلت محورا اقتصاديا مهما في جزيرة العرب كان للتجارة فيه نصيب غير منقوص، فأهلتها هذا العوامل مجتمعة لأن تقرض القبائل الأموال، وتعين على نوائب الدهر، وربما لعبت دور الدول المانحة في عرف الاقتصاديين اليوم.
والملاحظ أن لفظة قريش نفسها ذات مدلول تاريخي شحن بمعنى تجاري ففي لسان العرب مادة قرش " قيل سميت بذلك لبحرها وتكسبها وضربها في البلاد تبتغي الرزق، وقيل سميت بذلك لأنهم كانوا أهل تجارة، ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع من قولهم فلان يتقرش المال: أي يجمعه " (26) .
ويساعدها في كل ذلك موقعها الجغرافي الذي تتوسط به قلب جزيرة العرب.
q مثل هذه الحظوة والمركزية الدينية التي حظيت بها قريش دون غيرها من قبائل العرب أهّلها لأن تلعب دورا سياسيا في جاهليتها كما في إسلامها من ذلك أننا نجد الفاروق عمرt يحتج لترشيح أبي بكر t للخلافة بقوله: إن هذا الأمر ـ يعني السياسة ـ لن ترض به العرب في غير قريش. أي أن اجتماع كلمة العرب، ورضاهم لن يكون على غير المركزية القرشية، ومن الأكيد أن هذا الاستشهاد من عمرt ليس وليد ظروف حادثة، وإنما يجد امتداداته في غور التاريخ القديم.
الوجه الثاني ( الاعتبار اللغوي ):
لا يمكننا أن نقطع بهيمنة النموذج اللغوي القرشي على ما سواه من لهجات العرب بمنأى عن صدى قطبيتها الدينية والسياسية، إذ هذه القطبية " نفسها التي مكنت لغة قريش من نفس العربي.. لاعبة بامتياز دور الجامع المشترك بين تلك اللهجات جميعا.. ويجب ألا يغيب عن بالنا دور التجارة المكية في بلوغ اللغة المثالية مبتغاها، وكذلك يجب ألا يغيب عن البال أيضا دور الأسواق خصوصا المنحى الأدبي منها " (27).
وشاهد هذا أننا نرى في كل عصر سلطة الهيمنة لأي نموذج لغوي على آخر لا تتأتى من فراغ بل تخضع لاعتبارات وأسباب موضوعية، فاللاتينية مثلا " كانت ـ في بادئ الأمر ـ لغة خاصة بمدينة روما وضواحيها المعروفة باسم Latium ثم أصبحت لغة إيطاليا بأجمعها، بسبب توسع حكم الرومان فيها " (28).
أما في حالة النموذج اللغوي القرشي تحديدا، والذي يمثل الجزء الأغلب للعربية الفصحى فبوسعنا إرجاعه ـ بعد إثبات حجم التأثير الذي لعبته الزعامة الدينية والسياسية قبلا ـ لجملة من الأسباب ذات الصلة المباشرة باللغة منها :
1. " أن قريشا كانوا قبل مهبط الوحي والتنزيل قد داوروا بينهم لغات العرب جميعا وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء، وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسمها، ووقائعها وحجها وعمرتها ثم استعملوه، وأذاعوه بعد أن هذبوه وصقلوه، وبهذا كانت قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة… وكان هذا سببا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم واجتماع أوْراع العرب عليهم " (29).
ويطالعنا حماد الراوية ببعض مروياته التي يثبت فيها أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه قبل، وما ردوه ردَّ. وعن النابغة قوله دخلت يثرب وفي شعري شيء وخرجت منها وأنا أشعر الناس، ذلك أن لغة قريش على حد مقالة ابن خلدون " كانت أفصح اللغات العربية، وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنف من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم.. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية "(30)
2. إن " العرب حين استصفوا لهجة قريش وجعلوها لغتهم الأدبية المشتركة أثروا فيها مثلما تأثروا بها، فصدق على لهجة قريش ما يصدق على اللغات جميعا من قوانين التأثر والتأثير، وهي قوانين لا تكاد تتخلف إذا درسنا اللغة على أنها ظاهرة إنسانية. لكن القرشية باعتراف من جميع القبائل، وبطواعية واختيار من مختلف لهجاتها، كانت أغزرها مادة وأرقاها أسلوبا وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة.. حتى كان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته، ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وتركيب الجملة والنطق بالأحرف ليتحدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في صقلها وتهذيبها " (31).
3. " من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة إنما يعبرون بلهجاتهم الخاصة.. وخصائص ألحانهم " (32)، والتي " كانت أكثر اختلافا وتشعبا على ألسنة القبائل من اللغة الأدبية، فلم يكن من الممكن أن ينشأ لها نحو واحد كما نشأ للغة الأدبية نحو واحد " (33) إذ يفترض أن " لكل لهجة مستواها الصوابي الخاص الذي يختلف عن المستوى الصوابي لأية لهجة تنتسب معها إلى نفس اللغة " (34).
4. إن اللغة الأدبية أو ما سمي بلغة قريش انعقد الإجماع على قبولها والتحاكم إلى مستواها الصوابي في جملة أدبيات المتأخرين، واعتبرت اللغة الرسمية العامة، ومكن لها أنها
تخللت لغة القرآن، وذهب البعض إلى القول أيضا " أنّ الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن الكريم واقعة كلها في لغة قريش " (35).
ثم كانت قادرة على احتمال ذلك المستوى الإعجازي كخصوصية من خصوصياتها التي لم تزعم للغة قبلها ولا بعدها، ووقوع التحدي بها للعرب كافة دون استثناء لأي قبيل من قبائل العرب يرجح الاعتقاد أن العرب كانت لهم لغة مشتركة في المواقف الخاصة وإلا كنا نسمع من العرب من يعتذر في مسألة التحدي كونه جاء بغير لسانه، وعادات كلامه التي اعتاد المعاطاة معها.
إن انتفاء مثل هذا الموقف رغم ظهوره مما يغذي هذا الطرح ويقود إلى الاعتقاد استكمالا للصورة أن هذه اللغة القومية بمثل هذه المواصفات نمت " في المجتمع العربي في عمومه، لا في قبيلة بعينها، وتقبلت في نموها عناصر من جميع اللهجات، حتى بدت قريبة إلى كل لهجة، وانظر مثلا إلى قول امرئ القيس:
وإن شفـائي دمعـة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول.
إذ أدخل في اللهجة الفصحى " هراق " إلى جانب " أراق "، ومن المؤكد أن ما نجهله من هذه الأمثلة أكثر بكثير مما نعلمه منها " (36).
ولو أسقطنا واقعهم اللغوي تاريخئذ على أحوالنا اللغوية اليوم لكانت أقرب تماثلا ذلك أن لهجاتنا تتعدد تعددا لا حصر له بعدد الدول العربية إن لم نقل بتعددها داخل حدود القطر الواحد تماما مثلما كان هذا التعدد سيد الموقف في قبائل العرب، ومتى جئنا إلى المواقف الرسمية كانت اللغة الأديبة هي لسان الأمة، وعنوان وحدتها القومية، والثقافية...
الهوامــش
(1) _ تاريخ آداب اللغة العربية. جرجي زيدان. منشورات دار مكتبة الحياة. بيروت.
طبع. (2). 1978م. ج1/323.
(2) _ الجامع لأحكام القرآن. القرطبي. دار الكتب المصرية. القاهرة. طبع. 1933م. ج1/59 .
(3) _ النشر في القراءات العشر. ابن الجزري. تحـ. علي محمد الضباع. دار الكتب العلمية. بيروت.
طبـع (1). 1998م. ج2/31.
(4) _ اللهجات العربية في القراءات القرآنية. عبده الراجحي. دار المعارف. مصر. ط. 1969. ص83 وما بعدها.
(5) _ تأريخ القرآن. إبراهيم الأبياري. دار الكتاب المصري. القاهرة. ودار الكتاب اللبناني. ط (3).1991م. ص132
(6) _ مناهل العرفان. الزرقاني. دار الفكر. دمشق. ج1/154.
(7) _ البحث اللغوي عند العرب. أحمد مختار عمر . دار العروبة. الكويت. طبع. (1). 1982م ص21 . [ والرواية لابن الجزري ].
(8) _ معجم القراءات القرآنية. د . أحمد مختار عمر. عبد العال سالم مكرم. جامعة الكويت. طبع. (1). 1982م. ج1/33 .
(9) _ جامع البيان في تفسير القرآن. ابن جرير الطبري. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. مصر.
طبع. (2). 1954م. ج1/22.
(10) _ الإتقــان. السيوطي. دار مكتبة الهلال. بيروت. ج1/59 .
(11) _ معجم القراءات القرآنية. د . سالم مكرم. أحمد مختار عمر. جامعة الكويت. طبع. (1). 1982م. ج1/35 .
* - ولعل طريقة الانتقاء اللغوي لقبائل بعينها دون أخرى عند جمعة اللغة تجد امتداداتها في هذا الموقف القرشي
(12) _ ضحى الإسلام. أحمد أمين. دار الكتاب العربي. بيروت. طبع 1974م. ج2/274 بتصرف .
(13) ـ الجامع لأحكام القرآن. القرطبي. ج1/73.
*_ قال ابن عباس t : نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجُز من هوازن، وهم الذين يقال لهم عليا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع : منها سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عبيد ( ت 224 هـ ) : وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله r : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وأني نشأت في بني سعد بن بكر، وكان مسترضعا فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم .[ ينظر المزهر. السيوطي. دار الفكر. دار الجيل. بيروت. لبنان. ج1/210 ].
(14) ـ الجامع لأحكام القرآن. القرطبي. ج1/73.
(15) ـ الاعتصام. الشاطبي. تحقيق أحمد عبد الشافي. تحـ أحمد عبد الشافي. دار شريفة. الجزائر. ج2/474.
(16) ـ الجامع لأحكام القرآن. القرطبي. ج1/73 .
* ـ وهي قراءة ثابتة عن نافع المدني، وابن عامر الدمشقي، وهما من أئمة القراءة، وحكم النحاة بتخطئتها.[ اللغة والنحو. عباس حسن. ص107]. وقال المازني: هي خطأ فلا يلتفت إليها، وإنما أخذت عن نافع بن نعيم، ولم يكن يدري ما العربية، وله أحرف يقرؤها لحنا نحوا من هذا. [ القياس في النحو العربي. جاسم الزبيدي. . دار الشروق. عمان الأردن. طبع. (1). 1997م. ص85 وما بعدها]
(17) ـ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام .د. جواد علي. دار الكتب العلمية. بيروت. طبع (1). 1998م ج8/622 .
(18) ـ الأصول . د. تمام حسن. مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء المغرب. 1991م. ص 112 وما بعدها.
* ـ جامع البيان . الطبــري. ج1/25.
(19) ـ الاعتصام. الشاطبي. تحقيق. أحمد عبد الشافي. ج2/474.
(20) ـ جامع البيان . الطبــري. ج1/25.
(21) ـ البرهان في علوم القرآن . الزركشي. تحـ محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الجيل. 1988م. بيروت. ج1/220
(22) ـ ضحى الإســلام. أحمد أمين. ج2/248 وما بعــدها.
(23) ـ فقه اللغة وأسرار العربية. الثعالبي. دار مكتبة الحياة. بيروت. لبنان. ص198 وما بعدها.
(24) ـ في اللغة والأدب. إبراهيم بيومي مدكور. دار المعارف. مصر. طبع. 1971م. ص28
(25) ـ مجلة المنطلق. [ مقال الأمثال العربية واللغة واللهجات. د. محمد توفيق أبو علي. ص110 ].
(26) ـ لسان العرب. ابن منظور. تقديم الشيخ عبد الله العلالي. وإعداد وتصنيف يوسف خياط. دار لسان العرب. بيروت. لبنان. ج3/58.
(27) ـ مجلة المنطلق. [ مقال الأمثال العربية واللغة واللهجات. د. محمد توفيق أبو علي. الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين . بيروت. لبنان . العدد 78. 79. سنة 1991م . ص110 بتصرف].
(28) ـ في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية العربية. أبو خلدون ساطع الحصري. ص35.
(29) ـ مناهل العرفان . الزرقاني. ج1/190 .
(30) ـ تاريخ ابن خلدون. دار الكتاب اللبناني. بيروت. طبع. 1981م. ص1072.
(31) ـ مباحث في علوم القرآن . صبحي الصالح . دار العلم للملايين. بيروت. طبع. (21). 1997م. ص144 .
(32) ـ المـرجع السابق. ص144 .
(33) ـ الأصــول. تمـام حسـن. ص110.
(34) ـ اللغة بين المعيارية والوصفية. تمام حسن. دار الثقافة. الدار البيضاء. المغرب. طبع سنة 1992م. ص63.
(35) ـ مناهل العرفان . الزرقاني. ج1/190 .
(36) ـ اللغة بين المعيارية والوصفية. تمام حسن. ص64.
ساحة النقاش