الأستاذ : أمحمد زغوان
منهجنا النقدي بين الاتصال والانفصال
لا تزال العلوم الإنسانية بشكل عام بعيدة عن الاستيعاب الكامل لمحدداتها المصطلحية وما يتعالق بها من فهوم بحكم نسبية هذا النوع من العلوم لصلته الشديدة بالطبيعة الإنسانية المعقدة، وهذا على خلاف ما هو جار عليه الحال في علوم الطبيعة والمادة إجمالا لأن مرجعية التحاكم فيها إلى المحسوسات وقابلية ما يتصل بها إلى التجريب.
ولعل الحديث عن العلوم الإنسانية في الراهن العربي حديث ذو شجون وتشعيب كوننا لم نعد ننظر لأنفسنا من واقع أنفسنا لانحصار عقولنا وفهومنا كنتيجة طبيعية لما اعترانا من هزال ثقافي وفكري، فكان عاقبة أمرنا أننا لم نعد ننتج المعرفة حتى نضع لها مصطلحاتها، وعاد ما يثار بيننا من نقاشات وحواريات يغلب عليها الطابع التنظيري السفسطائي مما يجعل التواصل العلمي يمضي في غير طريقه ولا يحقق المقصود منه، فكثيرا ما يكون المحاور أشبه بمن تحدثه عن الجبن، وهو يستحضر في ذهنه صورة الطبشور بجامع دعوى البياض بينهما، وقد يترجم عن موقفنا هذا بشكل جلي ـ فيما نظن ـ فقهاؤنا حين يفتي بعضهم بحرمة الاستنساخ فتبدو فتواه نوعا من الترفيه الفكري والتفكيه كونه يعالج واقعا غير واقعه، ويغرد خارج سربه، فلا أحد من علماء الاستنساخ من ملته حتى يسمع له أو يعير فتواه بالا، وإن سمع فهو غير معن بكلامه ولا يلزمه، فالموجة غير الموجة، وذلك أن الحياة الغربية الناهضة قامت أساسا على المفاصلة بين الديني والعلمي، ثم إن ذلك الفتح العلمي ليس منجزا إسلاميا حتى نعنى بتطبيقاته، فنقحم أنفسنا فيما ليس من شأننا، فيكون حال الفقيه بيننا حال من يرفع المطريات هنا في الجزائر حين ينزل المطر في باريس.
إن هذه المقدمة تنطبق على واقعنا الثقافي والفكري والأدبي في الحال العربية متى شئنا تنزيلها عليه لأن حركة الحياة في مستواها الإنساني ذات طبيعة إطلاقية حيث تتسع أحكامها لتشمل الأفراد كما الجماعات، وهي في عالمنا العربي تمضي في اتجاه معاكس لتعثرنا النهضوي، والحضاري واستلابنا زمانيا للماضي، ومكانيا للمركزية الغربية القائمة على الهيمنة والإقصاء والاستلحاق.
ولما كان الأدب تعبيرا صادقا عن صورة الحياة ونماذجها ارتأينا أن نبدأ بمثل هذا الاستهلال، ثم نعرج بعده في مداخلتنا على الحديث بما يتصل بفن الأدب على مستوى الإجراء، وحاجة ـ كما يقول ابن خلدون ـ " صاحب هذا الفن إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها " (1)، وبسبيل هذا أن نتبين مدلولات الألفاظ ( الأدب. المنهج. النقد. المصطلح ) في أحواز الاستعمال، ثم نؤشر تحت نقاط الاتصال باعتبارها أقرب للمنجزات الإنسانية الحيادية القيم، ثم نؤشر بعدها لنقاط الانفصال التي تقعد بنا، وتعقم دورنا في أن نسهم في الثقافة الإنسانية من منطلق الحضور الواعي لا المخدر والفاعل لا المنفعل، والشريك لا المتسول.
وبداية نتصور أن الحديث عن الأدب وقضايا النقد حديث عن العام والخاص، فالأدب بالمعنى العام ـ متى شئنا التقسيم المنهجي ـ حديث عن الحاضنة الأم التي يتأسس في أجوائها النقد، ثم يأتي الأخير بالمعنى الخاص ليغدو فرعا عن تلك الدوحة الوافرة الظلال المسماة " أدب " وهو فن عميق كالحياة وأسرارها لأنه تعبير عنها من خلال الإنسان المحكوم بشبكة من العلاقات العاطفية والفكرية والشعورية المتواشجة والمعقدة حيث يتواءم الجانب الكمالي فيه بالجانب النقصاني فتنقدح عن عملية المواءمة تلك التجربة الإنسانية في أجلى صورها وهي تزاوج من خلال الممارسة البشرية بين الغريزي والعقلي، بين الروحي والجسدي، بين العلوي والسفلي.
من أجواء هذا الاحتكاك والتصادم والتلاقي والافتراق تبرز العملية الإبداعية، ومن رحمهما تلد الأعمال العظيمة، وتشق طريقها للنور، ويغدو الأدب تعبيرا عن تلك التجربة الإنسانية الخالدة بثنائياتها: الانتصار والإنكسار، الإخفاق والنجاح، العتمة والنور، الحرية والقيد، الخلود والفناء.
وإذا كان مدلول لفظة " أدب " لا يتحدد بمعنى جوهري اصطلاحي يصار إليه رأسا، فإنما تعرف الشجرة بالثمرة، وهو المعنى الذي يتوقف عنده ابن خلدون عند تعريفه الأدب بأنه: " علم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب، ومناحيهم " (2).
ولعل النقد هو من يتأثر تلك الثمرة في عمل الأديب عند أهل اللسان ـ كما يشير التعريف ـ، ويغدو إجادة على الإجادة في فني المنظوم والمنثور، وبهذا المعنى يتضامان حيال الحديث عن الأدب حديث الإجمال، وإن افترقا حيال المباحثة والدرس بحسب مقتضيات المنهج والتخصص، فالأديب ناقد حين يعالج قضايا الإنسان وامتداداتها في الحياة الاجتماعية، ويمزجها بصور الإبداع في الصورة والفكرة والشعور، والناقد أديب حين يعمد إلى تقويم العمل الأدبي، وفرز غث ثمره من ثمينه، والوقوف على مكامن القوة، والضعف فيه.
مما يعني بحكم المنطق والتاريخ أن النقد لازم نشوء الأدب بالتبعية وقاسمه الرحلة، وما من شك أن مصنفة تقويم الفعل الأدبي اتسمت في طابعها العام بالتعميم في الأحكام، وشيوع النفس الانطباعي، والذاتية اتساقا مع متاحات المرحلة ومقتضيات سنن النشوء والارتقاء في الأشياء والأوضاع، وذلك كله قبل أن يتعرف فن الأدب إلى علوم البلاغة وقواعدها فيتبرمج حينها مع آليات المنهج القائم على التعليل والتحليل، والنظر.
ونعتقد أن الإغريق عرفوا شيئا من مثل تلك الآليات حين مفاعلتهم للأدبيات الفنية غير أن تلك الرؤية ظلت منضمرة في جملة من الروائع التي جادت بها قرائح أدباء تلك المرحلة، وليس ذلك بالأمر الغريب متى تعقلنا المسائل من منطلق الفطرة والسجية، فالنفوس التي تنتج الأدب هي أنفس أصيلة يحكمها الطبع والأصالة، والإبداع، وغيرها يرد إليها حيال القياس، ولا ترد هي لغيرها فما كان على أصله لا يبحث عن علته، وبوسعنا أن نوصف لذلك كله، ولكن ليس بالمقدور تعلمه بالارتياض والدربة بحكم أنه ملكة وكسب سماوي.
ولقد جاء فيلسوف الإغريق الشهير " أرسطو " مترجما عما كان يسود تلك المرحلة من الحراك الأدبي والثقافي، وعمد إلى فحص الفضاء الإبداعي راسيا من خلاله بعض القواعد التي ظلت بمثابة القواسم المشتركة المؤلفة للعمل الإبداعي، وهو ما أعربت عنه نظرية المحاكاة للطبيعة، والحياة بحواملها الثلاث : الواقع. والممكن. والمثال. وهي نظرة اقترابية تؤصل لنظرية منهجية، لم تنقض عراها إلى يوم الناس هذا، بل تناسلت وتناسخت في جملة من الأعمال التي جاءت بعدها في الثقافة العربية وغير العربية.
ولقد ظلت المدرسة العربية حينا من الدهر الوريث الوحيد المستأمن على تراث أثينا وروما إلى حدّ ما، وحاولت أن ترسم خطوها وفق هذا السبيل بما يتواشج وعناصر الأنا الواعي الذي يعيد تشكيل مقروئياته من منطلقات الخصوصية الثقافية حيث لم يكن المبدع العربي يعيش حال الإبهار وعقدة الآخر التي تستلبه، وتجعله ينشطر زمانيا ومكانيا ـ كما هو الحال عليه في أيامنا ـ ويطوح به بعيدا عن الأهل والدار، ولم يعرف الغرب تراث " أرسطو "، ويترجمه إلا من خلال المسلمين في القرون المتأخرة.
ولقد ظل الأدب العربي بواحا حاد المزاج صاف المعاني مباشر الأسلوب يحفل بحضور نفس الأديب وشخصه دون مواربة أو تعقيد، حتى أننا لا نغالي إن قلنا: ـ مع المبرد ـ إن ثلاثة أرباع كلام العرب قائم على التصوير، وما ذلك إلا بدافع الحرص على الوضوح واستجلاء أشكال المعنى عنده واتجهت مناهجه سالكة به هذا السبيل، ومن قبيل هذا ما تترجم عنه جملة من الآثار التراثية حين كان يعمد أصحابها إلى تصدير أعمالهم ومؤلفاتهم بالمباحث اللغوية، ويركزون على تحرير مصطلحات الألفاظ فرارا من التعقيد والغموض والترميز، وسموا خطة عملهم تلك منهاجا، وصنيعهم هذا طريقا بكل ما تستحضره مادة " طريق " في الأذهان من ظلال ومعاني، وكلها تشي معرفيا بالوضوح التبيان، وما كان بسبيل هذه المفاهيم ..وسبيل دلالة الطريق، ودلالة المنهج واحدة دلاليا، وإلى اليوم تسمى الطريق نهج، والنهج طريق حتى في تسمية شوارع المدن والقرى كونهما يتلابسان الشق اللغوي ويصدران عن نفس المعنى وإن اختلفت مادتهما.
والظاهر أن المعنى على بساطته في مستواه اللغوي تم صرفه إلى الإفادة الاصطلاحية التي يعنيها مدلول " منهج "، وعلى هذا الأساس تعامل معه القدامى وأهل اللسان العربي، ومن غير شك فإن المدلول لم يعد يفهم منه تلك الحرفية القاموسية ( طريق )، وإنما عاد مشحونا بالدلالة المعرفية التي تقتضيها طبيعة الاصطلاح، فسالك الطريق يحتاج إلى معرفة بها، وخبرة بدروبها وأوعارها، ويهتدي إلى مقصده وحاجته من خلال سلوكها، وهو ما يتحقق على مستوى النظرية ومعالجة العلوم ولكن بشكل معنوي وذهني أكثر إبداعا وارتقاء من الممارسة الأولى في مستواها الحرفي. فالشهرستاني في القرن السادس يحرر لفظ " المنهج " وفق هذا الاصطلاح عند حديثه عن دواعي الاجتماع الإنساني ، وما يحصل به من تمانع وتعاون، فيقول: " فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة، والطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج، والشرعة، والسنة، والاتفاق على تلك السنة هي الجماعة. قال الله تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) (3)/(4).
إذن فمعنى المنهج هو الطريق التي يتوصل بها إجرائيا، ونظريا إلى نمط من التعامل بعينه وفق رؤيا يتعارف عليها المجتمع. قال صاحب اللسان: أنهج الطريق : وضح واستبان وصار نهجا واضحا، والمنهاج الطريق الواضح (5).
ولعل هذا المعنى مع عمومه الظاهر الدائر على الحاجة للاجتماع الإنساني قابل لأن ينصرف أيضا إلى الاختصاص بمعنى يتحدد به، فينطلق على الجماعة من الناس المرتبطة برباط من الميل إلى تبني منظومة فكرية وثقافية وعاطفية، ثم تغدو تلك المنظومة بالنهاية تعلن عن نفسها تحت لافتة من لافتات المدارس: الكلامية أو الفقهية أو الأدبية، وهي لأجل تفعيل هذا الاجتماع وإعطائه معنى يتساوق وما يحمل صحبه من أفكار ومبادئ نراهم ينتظمون وفق منهاج خاضع لجملة من القواعد والتأصيلات والتفريعات التي تتمايز بها مدرسة عن أخرى، وتنبصم بطابع الخصوصية كتأكيد للحضور الذاتي في مقابل الآخر.
والمسألة بديهية بحسب ما تعلن عنه طبيعة البشر وتكويناتهم ولهذا نرى المتن القرآني يؤكد على هذه الحقيقة، ويقرّها اكتفاء بما انطبع في حقائق الأنفس منها، وهو ما برهن عليه الشهرستاني نصا وذيّل به مقالته في التعليل المتقدم.
ولقد عاد اصطلاح " منهج " أكثر حدية وانضباطا في الأدب وأبوابه لارتباطه بمسائل العلوم حين سعى بعض النقاد الغربيين متأثرين بالفتوح العلمية المستفيضة مع بدايات القرن التاسع عشر إلى محاولة وضع قواعد وقوانين لتخليق الأدب انطلاقا من قوانين نفسية عامة تفسر حياة الأفراد، وردت تلك القوانين إلى " البيئة، والزمان والمكان "، ثم وجد من النقاد من يتحدث عن المناهج وتطبيقاتها في العلوم الإنسانية وشاع في الوسط الأدبي ما يعرف بالمنهج الفني. المنهج التاريخي. المنهج النفسي. والمنهج الاجتماعي والمنهج المتكامل، وأخذ كل منهج من هذه المناهج شكلا من أشكال النظرية تغاير بتطبيقاتها قريناتها، وصار الأديب كما يقول سارتر : كائن مشبوه يستطيع أي كان أن يستوقفه ويستجوبه " .
وحتى لا يتشعب بنا الحديث فمن الأوفق أن نحدد مدلول المنهج في الأدبية التعليمية مما يعيننا على استيضاح الموقف، ومعالجته وفق رؤية بعينها دون الخوض في التعميم.
فأهل التعليم مثلا يرون أن المنهج هو الطريقة الإجرائية التي يتم بها استثمار المكتسبات المعرفية لصالح فئة المتعلمين ضمن استراتيجية عليا للبلد تشرف عليه جهات وصية تعمل على تواصله وتطعيمه بثقافة البلد وأصالته وأعرافه وعاداته، وبمعنى مختصر : تثقيف التعليم، وحتى يكون المنهج فعالا مثمرا يفترض أن يعالج ضمن قواعد تحقيق منهجية تنزل منزلة النقاط الموصولة بخطوط تحدد شكل الرسم: مثلث مربع مكعب مستطيل.. حيث تقوم على المدرس، والمدير، والإدارة، والطالب، والمبنى، والكتاب ووسائل التعليم والإيضاح وما اتصل بذلك كله.
والذي يظهر من هذه الفهوم أن المنهج يقوم بعاملين اثنين بناء المنهج ، وهندسة المنهج .فالبناء نتصور أنه يعالج الجانب الظاهر والعملي من العملية : طبيعة المادة ومكوناتها وطرائق تنظيمها، ومقاييس الوفاق والإخفاق في العملية.
أما هندسة المنهج فتتعاطى مع الرؤية التي يتغيى القائمون على التعليم تحقيقها من وراء بناء مثل هذا المنهج التعليمي، إذ ماهية الشيء تسبق وجوده، فالبناء كماهية يكون صورة في الذهن قبل أن يتماثل لعالم الخلق والإنشاء مادة وجسما.
ويفترض بأصحاب المناهج ـ في الأحوال السوية ـ أن يتوافروا على أجندة خاصة بهم في إعداد رجل المستقبل الذي سيكون منه الخفير والأمير وما بينهما في درجات السلم القيمي صعودا وهبوطا : وما نمط المجتمع المراد تحقيقه ؟ وما نمط الإنسان الحضاري ؟ وما شرائط التنمية البشرية السليمة في نظرهم ؟ وما المحتوى المعرفي الذي يجعلهم يتقدمون ولا يتهدمون ؟ وما الأهداف العليا المرصدة للتعليم؟ وما حدود الالتزامات الأساسية أمام منظومة الحضارة الإنسانية لأجل الإسهام فيها بفاعلية ؟ .
ولقد قدمنا بهذا الحديث لأجل أن نكشف عن فهمنا لمدلول المنهج بحسب ما يمليه علينا تصورنا له، بقصد الإيحاء من خلاله إلى المحتوى التالي: إن الكلام عن الثقافة وتحديدا في الجانب الأدبي منها ( النقد ) حديث بغير ثمرة إن لم نأخذ في الحسبان مؤسسة التعليم، لأننا متى أغفلنا سلطانها وخطورة تأثيرها ـ سواء بالسلب أو الإيجاب ـ في الحركة المجتمعية أصبحنا نخوض في ضرب من ضروب الخيال لأننا بالواقع مشاريع لمؤسساتنا العلمية والتعليمية خلال مراحل متصلة الحلقات: مرحلة المدرسة. الثانوية. الجامعة.
إن الكثير مما نتحدث به في مجالسنا هو بالواقع إحالات على تلك الفترة ورجالها ممن تعلمنا على أيديهم، ولا زال العقل الباطن يحتفظ بتأثيرهم في توجيهنا حياتيا، وصقلهم لرؤيتنا للأشياء التي تعلمناها منهم، ومما وضعوه بين أيدينا من كتب، ولو لم يقدّر للبعض ممن قد يتحفظ على ما نحن بصدد الإشارة إليه غير تعلمه لحروف الأبجدية لكان هذا أكبر إنجاز، وفتح أكبر له كل ما بعده من معارفنا بالقراءة وأبواب المعرفة.
وربما يقع المرء للوهلة الأولى غير المدققة ـ وهو يتحدث عن الأدب ـ في التسطيح حين يثبّت لحظة من حياة الأديب ويبني عليها نظرته للأمور المتعلقة بالعمل الأدبي، فيكون واقفا ومحاكما للنتائج بعيدا عن مقدماتها وسياقها العام الناظم لها، فيعمل على عزلها عزلا سلبيا بمثل تلك القراءة المعوقة، فالأديب صرح بني على مراحل عمرية ذات حلقات آخذ بعضها ببعض، ولعل المرحلة الأعلى صوتا والأبرز حضورا في حياته هي المرحلة التعليمية، والعلمية باعتبارهما الرافعتين اللتين تقوم عليهما مؤسسة المجتمع، وإذا انعدمت المؤسسة فلا مجتمع هناك، وحيث إن كل إخفاق يصيب هذا المفصل الأساس من مفاصل النظام الاجتماعي لتلك المؤسسة، التي ينشأ فيه الأديب هو بالضرورة فشل في مفاصل منظومة الحياة ككل، فالأدب واسع كالحياة وعميق كأسرارها يشعّ حياة بها وتشع هي فيه من عطاءاتها، وإن شابها الكدر والتشويش فستحكم حركة المجتمع بذلك، ويتحرك التعثر والفساد والخيانة من خلال أحيائها سلوكا وفكرا وثقافة.
إن الخلل الذي تبتلى به منظومة الحياة الاجتماعية فيه شبه من خلل القصور الكلوي الذي يشل فاعلية الحركة الطبيعية في المصاب ليخرجه من دائرة السلامة إلى دائرة العلة، وهو توصيف ينطبق على المجتمع بمقدار ما ينطبق على الأفراد على اعتبار أن المجتمع ـ بالنهاية ـ مجموعة أفراد يأخذون صفة المجتمع باجتماعهم، وهم فيه متواصلون مندمجون بشبكة علاقات أكثر التحاما وتعقيدا، ولفظة " مجتمع " تغدو في أحايين كثيرة تعبيرا عن وضع وحالة أكثر منها تعبيرا عن مضمون، ولهذا كانت النزعة الرومنسية تركز على النزعة الفردية خشية ذبولها، وانمحاقها تحت سلطة نسق الاجتماع العام ( الأنا الجمعي )، وتطلق العنان لدعوى الحرية الذاتية ليغدو الأدب رديفا للحرية، ويتاح لكل الأزهار أن تتفتح ومعها أشواكها.
ولهذا نرى في المجتمعات التي قطعت أشواطا في الحضارة حرصها على تفعيل الحياة العامة كأن تعمد إلى ترسيمها ومأسستها من خلال بناء منابر قوية للتوجيه العلمي والعملي بقصد تقوية الجبهة الداخلية للمجتمع وإكسابه حدا راتبا من الحصانة الذاتية تعزز فيه كبرياء الجنس، وروح الانتماء لثقافته ولأمته، فتشيع في أحوازه أفكار الطليعة والنخب المتبصرة من مفكريه وعلمائه، في حين تحاصر الأفكار الدارجة والشاذة في حدود ضيقة من الهوامش والأطراف، على قاعدة العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة، على حين تغدو المسألة على النقيض من هذا كله في المجتمعات المتخلفة التي لا تزال تترنح كالمجنون خارج الزمن وخارج التاريخ.
أما الأمر الآخر الذي نريد إيضاح فكرته في سياق الحديث عن تبيان مدلولات الألفاظ وحظها من الاصطلاح هو المدلول المعنوي لمادة ''مصطلح " ذاتها رصدا لما تنطق به أوضاع اللغة من التناسب بين اللفظ واصطلاحه، والمبنى ومعناه، فالجذر الدلالي للفظ " المصطلح " مصدره الفعل " صلح "، ويعنى به في هذا المستوى صلاحية اللفظ لأن يترجم عن روح المعنى ويعرب عن شكله بحيث إذا ذكر يستحضر السامع جوهره وصورته الذهنية، فيغدو اللفظ قالبا تحجم فيه صور المعاني وتنمذج حين تصب فيه تلك الصور، وذلك في الحدود التي تتيحها اللغة حال حديثها عن نفسها وعن أشيائها، فنحن مثلا لا نعرف صورة الشيطان بالمعنى الشهودي، ولكن نستحضر تصوراتنا عنه بالمبنى فقط، وهكذا يتسع اللفظ للمعنى ويتنمط به مدينا له في هذه الحال بالتبعية.
وفي هذه العملية تمارس أنواع من الانتخاب والاصطفاء لا حصر لها حتى يكون اللفظ كشكل أقدر من غيره على إفادة معنى من المعاني بعينها، والإسفار عنها على حال من التماهي الكلي الذي ينتظمه الفكر، ولعل في هذا الاصطفاء اللفظي بعضا مما يشابه ـ ولو قياسا ـ حال الوالدين حين يختارون لأبنائهم أسماء بعينها قد تكون قريبة إلى قلوبهم، وتعكس نمط النماذج التي ينفعلون بها عاطفيا وفكريا واجتماعيا على غرار ما كانت العرب تصنع في إطلاق الأسماء فيسمون أبناءهم بالمستبشع من الأسماء ترهيبا لأعدائهم : نمر أسد غضبان، ويسمون غلمانهم وعبيدهم بالحسن منها لأنفسهم تفاؤلا: ميسرة. سهل. رباح.. حيث تغدو اللفظة مثقلة بالشحن التاريخي .
ولعل ما يشحن به لفظ " المصطلح " هو أن يقوم على مضمون الزيادة الحرفية التي انضافت إلى مادة " صلح " وهي : ( الألف والطاء المنقلبة عن تاء الافتعال ) فصارت الزيادة في المبنى زيادة في المعنى الذي صار ينفتح دلاليا على مفهوم التشارك والتسالم على اعتبار مصطلحي بعينه عند أصحاب العلوم بقصد تقريب المفاهيم البعيدة، واستحضار الماهية المجردة وإن بشكل تقريبي لا تحديدي، ولعلهم استعاضوا عن هذا المعنى بالمقالة المأثورة : لا مشاحة في الاصطلاح، والمهم هو أن تفعّل صور التواصل وحدوده، وأكثر ما يتضح هذا المعنى في بدايات التأسيس للعلوم النظرية والحسية على حد سواء حيث قوام كليات العلوم على بداهيات العقل المعتبرة بالتجربة والواقع والماصدق في الأشياء حيث الكل أكبر من الجزء، والسواد غير البياض، واستحالة اجتماع الحركة والسكون.. وهكذا يتم الانتقال من الوسط الأقل تركيز إلى الوسط الأكثر تركيز، وكل ممارسة بشرية مهما كانت معقدة تحمل مضمونها الابتدائي كمونيا قبل الظهور مهما كان سقف هذه الفكرة من تعقيد الطرح، وعمق الفكرة.
وإذا تعقلت المسائل على نحو يجعل لكل فن وعلم إنساني حياة وتاريخا درج
ونمى في سياقهما العمل الأدبي لدرجة أن العلم بالأخير يحيلنا على ضرورة تعقب تلك الحياة، واستحضار صورها التاريخية باعتباره ممارسة بشرية، فإن الحديث آخذ بنا إلى ضرورة مفاتشة حجم العلاقة بين الأدب والحياة .
من المتعارف عليه في أدبياتنا أن الأدب والحياة توأم رحم وسليلا أبوة كلاهما يترجم عن الآخر بجملة من المعاني، فالأدب يحيا في ظلال الحياة، ويكتسب الأبدية بمقدار ما نفخ فيه من روح تلك الحياة، وليست هاته الحياة غير خبراتنا وتجاربنا وأشكال من التعاطي معها، وانفعالنا بها عاطفة وشعورا وفكرا، ثم تعبيرا عن مضمراتها التي نعلن عنها في عطشنا الذي لا ينطفئ للجمال فيها ، ورغبتنا الملحة في معرفة حقيقة الحياة، وحقيقة ما انطبع منها في ذوات أنفسنا، من مثل حاجتنا للحرية والاجتماع والتعبير..
وبهذا المعنى لا يكون حديثنا عن الأدب حديثا صوريا أو نظرية عائمة، بل حديثا يحيل على معاني ومضامين فنية ترفدها أعمال جليلة لنخب مبدعة طلائعية، تعيش مع سواد مجتمعها التجارب وتوجهه، وتستشعر معاني الأشياء والأوضاع بروح المبدع الفنان وتترجم عنه، وهكذا يغدو الأدب التزاما ورسالة لأنه يبقى وفيا لقيم مجتمعه ومبادئه، ويحسن السفارة عن هويته الثقافية وأصالته من خلال نفسه التي تكون بالنهاية عينة يختزل فيها المجتمع كل أشكال اجتماعه بجملة تجلياته : مؤتلفاته ومتناقضاته، ولنا عبرة في كل الأعمال العظيمة التي عاشت وتماهت مع الخلد لم يفتها أن تنطبع بميسم الخصوصية والإعلان عن الذات.
ولعل الأديب حتى في حال حياده عن الأسس وقواعد الاجتماع المتعارف عليها إنسانيا، والتي كان يفترض به أن يجند لها قلمه دفاعا عن قضايا أمته ورموزها السيادية والانتمائية، ومباشرته لما يمكن أن نسميه بحالة من حالات ' التحركي الثقافي '، ليصبح مخلب قط في يد الاستكبار العالمي، نراه يعلن بمنطوق المخالفة عن إخفاق مجتمعه، وفشله في إعداد أبنائه وتحصينهم ثقافيا مما جعلهم ينقلبون عليه، ويتنكرون له، والناس جبلوا على محبتهم لتبني منظومة المنتصر لا المنكسر، وهذه الوضعية القلقة تستدعي تدخل علم الاجتماع لرصد نقاط الخلل بعد أن يكون الأديب أو المبدع قد وصّف الحالة ولو بصورة عكسية مدانة.
ونظرا لخطورة دور الأديب ارتبط فن الأدب بعلوم الإنسان ارتباطا وثيقا وبحاجاته، وحاجات المجتمعات وثقافاتها، وحيث أن العلوم الإنسانية كانت دوما رائدة حركات الإصلاح، وبانية الأمم والثقافات، فإنه من أولى واجبات الأديب أن يصنع الذوق، ويهذب المشاعر، ويربي الفكر، وينمي رأس مال الخير في الإنسان، ويوسع نظره للآفاق والأنفس حتى يكسب عمله الروح الإنساني الذي ينحاز للإنسان وقضاياه أينما حلّ وارتحل بعيدا عن النزعة المناطقية والقطرية الضيقة التي تعزل صاحبها فيكون حاله حال دودة القز وهي تنسج شرنقتها حول نفسها لتختنق بها وتموت في صمت كئيب.
وما من شك فإن إفرادنا الأدب بالحديث هنا متضمر بالتبعية مسائل النقد وصوره، كون الأديب حتى وهو يعيش مخاضات العمل الإبداعي في الفكرة والشعور والعاطفة يتحيز من خلاله لموقف من المواقف يتواشج وأطروحاته حيث يمارس دور الناقد دون أن يفصح عن ذلك: نقد المجتمع. انحساره انتصاره. مواطن الإعتام والإضاءة فيه.
والناقد بدوره حين يقوم بتنزيل منهج بعينه من مناهج الدرس الحديث ( منهج نفسي، اجتماعي ) إلى ساحة التطبيق والإجراء يجد نفسه في قلب التحيز لموقف من المواقف يمليه عليه طبيعة المنهج الذي ينظر من خلاله للعمل.
وبهذا المعنى يغدو النقد تعبيرا جميلا بتكامل مناهج الدرس فيه استيفاء لمسائله وقضاياه، وإن كان التقسيم لا يعرفه المجتمع على مستوى الممارسة لتشابك آماله وآلامه واتصالها اتصالا عضويا بحركته العامة في أبعادها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وكل تأزم في جانب ينعكس سلبا على جملة الجوانب الأخرى بوصل لا فصل فيه.
ومن تمام المعنى السابق أن نشير إلى أن الناقد حين يعمد إلى معالجة النص الأدبي بشكل مقنع لا بد أن يتعالى على كل أشكال التحيز والمزاجية في الأحكام، وعليه أن يمايز بين العمل وصاحبه، ذلك أن العمل الأدبي يتحول إلى ملكية مشاعة بمجرد أن يتجاوز مرحلة الورقة والقلم، حيث للنقاد أن يجادلوا فيه، وأن يصوبوا، ويخطئوا مع مراعاة أخلاقيات الموضوعية والحيادية ما وسعتهم الحيلة لذلك، فالعمل الإبداعي يجعل المبدع عكاظيا يقيس إخفاقه ونجاحه تبعا لسقف الرضا أو السخط الذي يثيره عند قارئيه بمجرد أن يعرض مصفوفات من بنات رؤاه وأفكاره ومشاعره على القراء الذين يرون من حقهم عليه، ومن حقه عليهم أن يبدوا الرأي فيما يقرأون، ويتصفحون وإن تفاوتت منازل النظر بينهم، واختلفت المواقع التي يبصرون من خلالها الحدث الأدبي.
ولعل مصطلحي العرب كان في أنفسهم شيء غير قليل من المعاني السابقة وسياقاتها حين ارتضوا انتخاب لفظ " النقد " ليتناول معالجات النصوص ودرسها وفحصها دون غيره من منظومة لا حصر لها من مصطلحات العربية، واللفظة بمدلولها الخامي الأعزل تعني أول ما تعنيه: '' تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها ''(6). ويحتاج الناقد ليكون على مستوى هذه الموقعية أن يمتلك قوة التمييز الفطرية التي تؤهله للغوص في أعماق التأليف والخلوص إلى درره، وعمق معانيه وهي موافقات لا توجد في اللغة بقدر وجودها في روح الأديب كون الأنفس التي تنتج العمل الأدبي هي نفوس أصيلة رائدة، والأصيل هو ما يرد غيره إليه، ويقاس عليه، فهو المثال المحتذى، والقاعدة المتبعة، وهذا ما جعل العرب القدامى وغيرهم يربطون العملية الإبداعية بعامل غيبي فوق التوصيف والتحليل، وأن الأديب والشاعر منفعل بقرين يقذف في روعه نظم البيان، فيؤلف بين ألفاظه، ويسلك معانيه، ولعل هاته الحال يجدها المبدع إلى اليوم في خاصة نفسه حتى قال الشاعر
: أنا لا أكتب الأشعار.
بل الأشعار تكتبيني.
أريد أن أصمت كي أحيا.
ولكن ما ألقاه ينطقني .
إن الدور الذي يفترض أن يكسبه الأديب لعمله يكون تعبيرا عن التزامه برسالته التوعوية والتثقيفية لمجتمعه حتى لا يقصى نفسه فيعيش العزلة وهو في قلب المجتمع، " فالشعر لم يكن منظورا إليه على أنه عبقرية فردية مبتكرة وإنما نظر إليه على أنه تراث جماعي أو ديوان العرب، أو ملك للأفراد العاديين من الناس (7)، ولهذا كان '' بلزاك '' يعتبر أعماله الأدبية توثيقا لعصره وشهادات منه أملتها انطباعات فردية بتأثير أشكال مختلفة من ثقافة المجتمع دون أن يرى نفسه مالكا للحقيقة وعلى الجميع أن يسمع ويطيع، وإنما ترك ذلك للقناعات الذكية، فهو القائل ـ بما معناه ـ : إن المجتمع الفرنسي سيكون هو المؤرخ أما أنا فلست إلا مجرد سكرتير له.
أما في حالتنا العربية فالظاهر أن قول أدونيس هو الأكثر حظا في الانطباق على واقعنا العام: لا أحد يعرف أين الباب ؟
لا أحد يسأل أين الباب ؟
هذا المعنى يختزل معاناتنا وإخفاقاتنا إلى حدّ كبير لأننا لم نحدد لأرجلنا قبل الخطو موضعها ورحنا نسير في عالم يبحث فيه الكل عن موضع قدم يتيح الحركة على طريق نهضوي طويل، ومسافة الألف ميل تبدأ بخطوة.
العالم اليوم تزدحم فيه الثقافات والهويات، وتزداد انفتاحا على بعضها البعض، وتختصر فيه المسافات الثقافية، والفكرية ولا مكان فيه إلا لقوة الفعل، وفاعلية الفكرة، وفي هذه اللحظة المفصلية من التاريخ الإنساني وجدنا أنفسنا منشطرين مكانيا لحد الإبهار بنجاحات الآخر، والافتخار بها على بعضنا البعض حتى لكأنها من منجزاتنا، ونسينا في غمرة الزحام ومراكمات الأحداث أن مشكلتنا هي مشكلة ثقافية بالأساس، وما لم نهتد إلى حال متسالم ومتصالح معها سنظل نضرب على غير هدى، ونمضي في غير سبيل.
لا يجب أن نغفل أن تفوق الآخر علميا وثقافيا لم يكن تفوقا طفريا مسبوقا بعدم، وإنما بنى على مراكمات ومخلفات تراث من سبقوه، وتتلمذ على يد مسلمي الأندلس، وحاضرة بني العباس يوم أن كان العقل العربي خصبا معطاء.
ولقد اهتدى العرب منذ القرن الثالث الهجري وحتى نهاية القرن الخامس إلى صياغة نظرية لغوية تشبه إلى حد كبير في مكوناتها مفردات علم اللغويات الحديث الذي نظّر له " فرديناند دي سوسير " في بداية القرن العشرين، واستفادوا بدورهم من آثار الثقافات الأخرى وآدابها، وكان رائد هذا العمل وحاديه الإمام عبد القاهر الجرجاني دون أن يفقد ذاتيته الفنية أو يتماهى في غيره إلا أن المحاولة لم تستمر إلى غايتها، وتحقق أهدافها كونها جاءت في غير وقتها لأن المعطيات المتوافرة يومها كانت تشي بأن العالم العربي ومن ورائه العالم الإسلامي كان يزحف نحو قضاء نحبه الحضاري، ولكن بصورة تدريجية، وأن الضعف كان يدب في ذلك الكيان العظيم دبيب الشيخوخة حين تعمل على نسخ ما بقي في الجسد من صور التعافي الموروثة عن مرحلة الكهولة رويدا رويدا دون أن نحدد لها نقطة ابتداء أو نتكهن لها بنهاية..
ولقد بدأت الحركة الجنينية للحضارة الغربية منذ القرن الثالث عشر يوم أن فككت البنية الفكرية للعقلية الغربية، وأجرت عمليات جراحية في جوهر ما تحمل من ثقافة كان من نتائجها نقض عقدة الارتباط بالمفاهيم العالقة من عصور الانحطاط والقروسطية، وإعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لإله قيصر لإله قيصر، واستطاعت أن تتبين طريقها عبر ذلك الركام الذي فرضه ملوك الاستبداد، ومجاميع الإقطاع، ومحافل الكهنوت الإكليروسي، وبالمقابل كان خط الحضارة العربية يتجه نحو عالم الصمت أو داخلا في ذات النقطة التي خرج منها الآخرون، وإذا كان الغربي يقسم عصور عالمه إلى العصور القديمة، ثم القروسطية، ثم العصر الحديث، فإن مرحلة المفاصلة بين الغياب والحضور تسجل عند النقطة الوسطى حيث تتضح معالم وجهتين متدابرتين رسمتا خطين متعاكسين لسير التاريخ والأحداث.
ومن ذلك التاريخ بدأ العالم العربي يفقد مناعته الحضارية، ويزحف بخطى متسارعة نحو الركود والهمود، وما اكتشف هول المصيبة التي حلت به، وحجم الإفلاس الذي لحق به إلا يوم أن احتكّ بالنهضة الغربية وهي في عنفوانها، وكان احتكاكا صادما على دوي المدافع، وفرقعات الهدم، وصوت المصانع، وضجيج، ورشات البناء، ولكن دون أن يرتب عن هذا الاحتكاك وعيا حركيا فاعلا لأنه ـ كما هو ظاهر ـ لا يزال يفتقد حتى هذا التوقيت روح التماهي مع أفكار الطلائع، ودعاة الإصلاح كأولئك الذين نهض الغرب بأفكارهم في حركة البعث العلمي أمثال لوك، مونتسكيو، وروسو.. وغيرهم، وهو الأفكار والمشاريع التي لا تزال أملا منشودا في العالم العربي منذ أن استقال من الريادة الحضارية، وعاش مرحلة ما سماه مالك بن نبي بخيانة الأفكار.
إننا اليوم أمام رجل القلة الذي يكتفي بنصف فكرة، ونصف جهد، ونصف موقف إنه عنوان كبير لجماهير كبيرة تملأ الأرض من كثرتها، ولا تغني في أمر جلل، تتحرك بروح سلبية، واتكالية خادعة يعكسها على المستوى الفكري ذلك التبني المتخلف للأفكار الدارجة الحاصلة اتفاقا والتي لا تطلب بذل جهد، ولا دفع ضريبة من مال أو عرق أو دم، وإن كانت فاتورة ذلك التبني باهضة الثمن ثقيلة المؤونة بحسبان الربح والخسارة إنها انتحار جماعي بمعاني مختلفة، وتحت لافتات متعددة، غير أن العزاء الجميل فيها هو عموم بلواها الراهن العربي: والبلية إذا عمّت خفّت، فالبلاء ضمن سياق ونسق بالمقدور احتماله.
لقد وقف ابن خلدون في فاصلة من الزمن على هذا المنعطف الحرج من التاريخ يدق ناقوس الخطر تنبيها للغافلين من أن تجرفهم تيارات التردي، ولكن كانت صرخة في واد، بل قدّر له أن يعيش الفصول الأخيرة من ذلك التردي ورأى كيف أن السيل كان جرارا، وأكبر من أن يتنادى العقلاء إلى إيقافه حيث أن الأزمة الثقافية في الواقع العربي وصلت نقطة اللارجوع وهي تعيش لمسات الانهيار الأخير في سلسلة انهيارات سابقة، مما جعله يصيخ في مسمع الزمان ببصيرة العالم الذي يوثق لتلك اللحظة لحاسمة : " وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبية ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة " (8)
ولهذا فالحديث عن الأدب والنقد وموصولاتهما مرتبط بموقعنا في الزمن الحاضر من الحضارة الغربية قربا أو بعدا بشكل محدد باعتبارها الأنموذج والمعيار لقياس مستوى التحضر من عدمه خاصة في منجزاتها الإنسانية الحيادية القيم، وعليه فنحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بتحديد لحظتنا التاريخية منها ومن أنفسنا في الزمن أيضا، وتحديد طبيعة ارتباطنا بالثقافة السائدة في مجتمعاتنا باعتبارها مفصلا مؤثرا بشكل مباشر في النسق الفكري والنفسي والاجتماعي، ولا يمكن التأسيس لمنظومة عربية ذات بعد انتمائي حداثي دون أن نحل المغاليق والإشكالات التي لا تزال تثقل كاهل الأمة وتحول دون انطلاقتها، حيث لا يتصور أن ينطلق جانب منها ويتخلف الباقي، وهذا أقرب للتفكيك بنحوه السلبي منه للبناء كحال السيارة الخارجة عن السيطرة حين يؤول أمرها إلى الصدف ولطف الأقدار لأنها على غير الطريق الصحيح الذي يتيح لها إكمال رحلتها، فتنتهي آخر المطاف إلى مجرد أبضاع، وقطع، وخردوات لا واصلة ولا ربطة تجمع بينها، وتشدها إلى قلب ينظم ويحكم حركتها، وهكذا نكون أمام ما أسماه مالك بن نبي " التكديس ".
إن ما نعانيه من تأزم فاضح وإرباك فظيع في الراهن العربي ينعكس بحكم التبعية على نقدنا المعاصر ورضاه بأن يكون تابعا مستسلما للمناهج النقدية الحديثة بحكم عقدة تبعية المغلوب للغالب، وفرق ما بين حالي الأصلي والمقلد، الطبعي والكلفي، فالأصلي أشبه بكائن حي، والحي ينمو من داخله لا من خارجه، والمقلد في غير تمثل أشبه بالدمى، والأشكال والصور التي لا روح فيها، وهذا ما يفسر ما يجده نقدنا العربي المعاصر من اغتراب واضطراب في محاولته التماهي مع السياق الثقافي الغربي، فقد يعيش النتائج ولكن في غيبة من مقدماتها.
فالناقد الغربي عندما ينطلق في مباحثه النقدية يصدر عن رؤية هي بنت تلك الثقافة التي أفرزتها عصور الصدام ـ كما أسلفنا ـ بين سلطة الكهنوت، وجور الملوك وتسلط الإقطاع، فوجدت نفسها بعد أن صرعت الخصوم أقصت سلطة الإقطاع بمعناه وممارساته التقليدية البالية، وعزلت سلطة الكنيسة في شكل كيان مستقل استقلالا كاملا عن حركة الحياة الغربية مستفيدة مما نفخت في روعها عصور التنوير والحداثة، وانقشعت الجفوة عن أسطرة الإنسان، وأنسنة الدين، وتاريخانية النص وترتب عن هذا كله مجموعة من الممارسات في العملية الإبداعية تتجاور فيها الرؤى بين النظرية والتطبيق، وانتحى الجهد المبدع الخلاق ناحية اتهامية لكل رمزية تنبئ عنها عصور الظلام كما يسمونها، وانصب الدرس والبحث على التكفير عن الشيء التاريخي بنقيضه الحداثي وإن لم يُتبين غثه من ثمينه، وتلك خديعة الطفل عن اللبن كما يقال.
لقد كانت العوالق المعرفية التي سرت في تيار النقد الأدبي الحديث ومدارسه قائمة على الجملة بخمسة مناهج:
1. الداروينية: كانت النظرة الجوهرية للإنسان قوامها على الحيوانية وبالتالي
انطبق عليه ما ينطبق على الحيوان والحشرات، وعدوا كل ما خرج عن هذا المعنى مجرد مكابرة وادعاء زاعم لا ينهض على واقع صحيح.
2. الماركسية: الأدب انعكاس كربوني، ولو بصور ملتوية لنمط العلاقات
المادية، والاقتصادية وحركة الإنتاج للمجتمعات لهذا العصر أو ذاك.
3. الفرويدية: أشاروا إلى جملة من المدارج في أحواز الوعي الباطن،
والأدب تعبير مموه يتغيى بالنهاية تحقيق رغبات مكبوتة قياسا على عالم الأحلام، وبين الرغبة المكبوتة والرقيب الداخلي صراع عنيف مستمر لا غالب فيه ولا مغلوب.
4. مدرسة فريزر: إن في الإنسان عطشا لا ينطفئ إلى الكمال في كل شيء،
فيلجأ إلى صناعة الأسطورة فهي إذن التاريخ الذي يتمناه الإنسان وهو يعلم أنه كذب، ولكن يحقق له النصر، والطموح والمدهش إنه تعبير عن الذات بشكل ديمقراطي لا حدود له، فكل ما في عالم الشهود من نماذج نسبي ناقص مصطنع سرعان ما يتلاشى. إنها صورة من صور المخاتلة التي تسفر عن حب الذات المبطن.
5. مدرسة ديوي: كتابة الأدب لا تعدو أن تكون مجرد صور انفعالية، وأن
انفعالنا هو تعبير عما استيقظ من عناصر الحياة فينا، وأن الحزن، والفرح، والغضب، والحسرة والأسى كلها صور انفعالية وكلها أدب، لهذا يركز الأديب على القناعة النفسية التي تحرك المكنونات العاطفية، ومن معايب اللغة الانفعالية أنها تزيد من صعوبة التفكير الواضح المستقيم، وتعقده.
ولم تكن التطبيقات بريئة إلى حد كبير بل متحيزة إلى نمط من التفكير يناهض طرفا آخر لحساب آخر لأن النظرة الغربية انطلقت من مركزة الذات واتخاذها مصدرا للحقيقة، ولقد عيب على " شتراوس " مثلا تطبيقاته ' انتربولوجيا البنيوية ' على النموذج اللغوي كونه " اختار قبائل هندية بدائية للغاية في أميريكا اللاتينية أي مجتمعات تعيد بنيتها إنتاج ذاتها إلى مالا نهاية بدون تغيير يذكر أي مجتمعات هي بمعنى من المعاني بلا تاريخ، وتطبيق النموذج اللغوي عليها لوصف هذه البنية التي تكرر نفسها لا يعني صحة وتسليما بما تذهب إليه انتربولوجية شتراوس، فماذا ستكون النتائج التي يفضي إليها منهج شتراوس إذا ما طبق على مجتمعات ذات إعادة إنتاج موسع نظير المجتمعات التي هي قيد التحول المستمر في بنيتها بالذات بفعل تطور الرأسمالية.. وهذا المنهج وتطبيقه سيبرز إلى السطح المشكلات المتولدة عن التعارض الفعلي بين البنية والتاريخ " (9) .
فالمجتمعات التاريخية عطاء متجدد وحركة متواصلة، وليست حالة راكدة يتعقم فيها الفكر والثقافة وإلا ما كانت البشرية لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم من البعث العلمي الكبير، وأظنها الصورة النمطية التي لا يزال يسوق بها الإنسان العربي في الأدبيات الغربية على اختلاف اتجاهاتها.
إننا نحرر مثل هذا الرأي ونحن نعي بأن الغرب ليس واحدا، وأن الاختلاف لا يجب أن يخشى منه إلا أن يتدثر بالعقد ذات الطابع التدميري الذي تتحرك في أحوازه دوائر الهيمنة والاستكبار العالمي.
والظاهر أن جهل الغرب بنا لا يوازيه إلا جهلنا به، وهي الملحوظة التي لفت النظر إليها بعناية المفكر إدوار سعيد يوم انتقد جماعة من أدباء الشمال الإفريقي على محاولتهم التماهي في المسرودات الغربية إذ بمجرد أن يقرأ أحدهم كتابا لفوكو أو هايدغر، أو بارث يتحول رأسا إلى فوكوي وهايدغري ، وبارثي ، جهلا بحقيقة الغرب وما فيه.
هذا يعني أول ما يعنيه أننا أما شريحة من المتعلمين كثيرا ما تتعلق فقط بالجزء الظاهر من جبل الجليد في تحديدها للأشياء، وهي صورة كاريكاتورية تظهر صاحبها بمظهر العالة لا الشريك ، والمقلد لا المتمثل، وكثيرا ما تتجلى صور التعبير عن هذا الموقف فيما يرتجله الأديب من تعابير عربية ومصطلحات من وحي خياله قد تغدو قاموسا خاصا به، وقد يعمد في خاتمة مؤلفه إلى ملحق معجمي مختصر، أو يضع بجانب كل مصطلح عربي ما يقابله باللغة الأجنبية، وكأنه لا يجد ما يقابل تلك المصطلحات الغربية داخل منظومته اللغوية. بل تطال العملية أحيانا البنى التركيبية لنجد أنفسنا كما قال شوقي ضيف : '' أمام سرد لا هو لا هو بالعربي ولا هو بالأعجمي ''، وفي الترجمة تخف الدلالة وينحصر المعنى إلى حدود دنيا، ويفتقد اللفظ للكثير من عوالقه المعرفية.
إن الناقد يفترض أن يكون مثقفا قبل أن يكون متعلما كون النقد بناء متكامل من البنى الفكرية والمعرفية له وجوده الخاص به ضمن أنساق الثقافة التي ينتمي إليها الأديب، وللكلمات حياة وتاريخ مما يجعلها مشحونة بالفكر المثقف، وليست اللفظة الحاملة للمصطلح حيادية بحال كونها تعبيرا عن الإنسان والإنسان يعيش في سياق ووسط يرتبط به ارتباطا وثيقا في كل مفصل من مفصل حياته حتى إنه ليغدو وعاء طافحا بما يعبئه به وسطه المجتمعي، وإذا كان النص يعالج وقائع معاصرة ومضامين حداثية فإن نظرتنا كثيرا ما تكون متحيزة لذواتنا وثقافاتنا، ولهذا كان المفكر الفلسطيني إدوار سعيد مثلا يأخذ على الأوربي موقفه الاستعدائي الاستعلائي ونظرته النمطية لغيره، وللعربي بشكل مخصوص.. وهو ينطلق في مؤاخذته تلك من النفس الشرقي وروح الانتماء للثقافة العربية.
إن مصطلحاتنا تغدو في أحايين غير قليلة متأسسة خطأ لأنها لم تحرر بشكل تثبتي وتحققي بل ركب أصحابها قطار الحداثة الغربية ومتعلقاتها دون أن يحجزوا لأنفسهم أماكن فيه، ويقطعوا تذاكر خاصة بهم بل سطوا ظلما وعدوانا وتضليلا كنوع من الفنتازيا والأرستقراطية المظهرية، أو لنقل هي محاولة التعبير عن مرض فصامي نتيجته انبهار وارتماء في أحضان المناهج الغربية دون هضم أو تمثل الأمر الذي جعل نقدنا يعيش المنفى داخل حدود مناطقه الثقافية، ويعيش تخبطا واضطرابا مؤسفا للقطيعة التي مارسها على مستوى الانتماء للجماعة التي ينتمي إليها عاطفيا وفكريا ومشاعريا، ويعيش موقفه النقدي عازفا على الوتر الغربي وإن إقحاما، جاهلا بالتراث ومراكماته فعاد جزءا من الأزمة عوضا أن يكون جزءا من الحل.
وعليه فالحديث عن التأسيس لمدرسة نقدية لا بد أن ينطلق من الإطار العام لثقافة الأمة، فمنها تستمد العناصر والمقومات ويعاش الحاضر، ويصنع التاريخ باعتباره مدونة تجاربنا البشرية، ولكل ثقافة خصائصها ومميزاتها وأدبياتها التي تنصقل بها النفس فتغدو نمطا في التفكير، ونظرية في السلوك.
وإن اهتمامنا في عصر العولمة بما عند الآخرين في مجال العلوم الإنسانية كنوع من المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة يبدأ بتقوية الجبهة الداخلية ( الثقافة)، ثم نتواصل مع الآخر وننقل عنه نجاحاته الإنسانية دون عقدة لتغدو جزءا من ثقافتنا، وتصير قوة فينا، لا أن ننتقل إليها لنكون قوة فيها وضعفا فينا، ولنا في سلفنا المتقدم خير مثال ونموذج ممن لعبوا دورا لافتا في بناء الحضارة الإنسانية دون أن تقتلعهم تلك الحضارة من جذورهم مثل : الفارابي، وابن رشد ، وابن سينا ، والرازي وغيرهم ممن جمع بين الأصالة والمعاصرة، ولم يمنعهم هذا عن ذاك بل انفتحوا على ثقافة الأمم والشعوب الأخرى حتى غدوا بالواقع نتاج السياق العالمي لأنهم تثقفوا على أفلاطون، وأرسطو وسقراط.. وغيرهم من أبناء الثقافات الأخرى كالفارسية، والهندية، من موقع الأنا لا الآخر المهيمن.
إن تجاربنا وعاؤنا لفهم النص، والتجارب منتجات النفس، ولكل نفس عالمها وآفاقها وامتداداتها مثل بصمة الإصبع، أو على رأي الصيدلي كل مريض حالة متفردة بعينها. وعليه فالأديب ينتج داخل السياق الثقافي الذي يوجد فيه وتمور به الساحة الثقافية، ولا معنى له خارج سياقاته الجمعية إلا بقدر ما يهتضم منها ويضفي عليها من أصالة روحه، ومؤهلاته المتميزة في إجادتها وعطائها.
وإذا كانت علوم الطبيعة والمادة تتميز بالحيادية فإن الأدب على الجملة وباعتباره من علوم الإنسان لا يمكنه إلا أن يكون متحيزا اللهم إذا استثنينا بعض الفضاءات استثناء يثبت القاعدة العامة، ولذا نرى أن الأمم ذات الثقافات المنتشرة تفرض غزوها الثقافي وتفعل دورها الفكر بفعل ما توافر لها من عناصر القوة في رصيد علوم الإنسان.
إحالات الدراسة
1. مقدمة ابن خلدون. دار إحياء التراث العربي لبنان. ص553.
2. المصدر نفسه.
3. المائدة: (48).
4. الملل والنحل. الشهرستاني. دار دانية للطباعة. دمشق. ص 16.
5. اللسان. ابن منظور. دار صادر. مادة ( نهج ).
6. المصدر. مادة ( نقد ).
*ـ نعني به المصطلحين بضم الميم وكسر اللام.
7. نظرية المعنى في النقد العربي. ناصف مصطفى دار الأندلس. بيروت ص58.
8. مقدمة ابن خلدون. ص33.
9. البنيوية وفلسفة موت الإنسان. روجيه غارودي. ت. جورج طرابيشي. دار الطليعة للطباعة. بيروت. ص 34.
المصدر: متون الكلية
نشرت فى 21 يوليو 2012
بواسطة makhbarsaida
عدد زيارات الموقع
9,495
ساحة النقاش