إرهاصات النشأة في النحو العربي ـــ محمد زغوان (*)
بعد الانسياح والتوسع الذي دشّن الإسلام عهده، وجد العرب أنفسهم ينفتحون على ثقافات وأمم شتى بخطا متسارعة بعد عملية البعث الطفري والتحول المفاجئ الذي أحدثه القرآن في تلك البحيرة الراكدة، وكان لابد لهم أن يحصنوا أنفسهم أمام زحف تلك الموجات الثقافية العاصفة بكل ما تحمله من تكلسات وشوائب وعقائد لا قبل لهم بها، ولا يملكون معها شداً ولا إرخاء، فكان السعي إلى تجذير الصلة وتعميق أساسات البناء يمر حتماً بترسيم اللغة العربية التي هي لسان القرآن الناطق، ولسان الدولة الناشئة والحقائق على الأرض تنطق بالصوت الفصيح العالي أن لابد من لغة قومية تقوم بها الدنيا ويستمر نشر الدين، وقد ترجم الأسلاف عن هذه القناعة في حركة عملية لا نزال إلى اليوم نفخر بها، ونباهي بها الورى وربما عدَّت من أزهى عصور العربية.
فكيف بدأت الإرهاصات الأولى في نشأة النحو؟ وما هي ملامح الفترة؟
قبل الحديث عن مراحل مصطلح النحو وملابسات النشأة عبر محاولات مضنية لترسيم العربية، يجدر بنا بدايةً تحديدُ الإطار الدلالي لمصطلحي النحو واللحن محاولين ضبط المفهومين اللذين تقاسما الرحلة بحيث إذا ذكر أحدهما قفزت صورة الآخر إلى الذهن تلقائياً على قاعدة "وبضدها تتميز الأشياء":
1. مفهوم النحو:
من "نحا الشيء ينحوه نحواً قصده... و(الناحية) الجانب، والنحوي العالم بالنحو و(النحو) الطريق، والجهة، والمقدار، والمثل، والقصد، ومنه النحو لإعراب كلام العرب لأن المتكلم ينحو به طريق كلامهم إفراداً وتركيباً"(1).
وعرّفه "اليونان بهذا المعنى، والنسبة إليه نحوي، ويؤنّث بمعنى اللغة"(2)، ولعل جذور هذا الاصطلاح تحيلنا على الأدبية التراثية العربية وتحديداً قولة الإمام علي( وهو بصدد توجيه أبي الأسود لأبجديات النحو قائلاً له "انح هذا النحو" أي تأثر هذه المبادئ وسر في هديها، والدلالة بهذا المفهوم وحتى هذه اللحظة التاريخية مجردة من الزخم الاصطلاحي الذي اكتسبته على أيدي النحويين في عهود متأخرة من الزمن.
أما في العرف الاصطلاحي فصارت بمعنى "انتحاء سَمت كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب، وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم وإن شذّ بعضهم عنها ردَّ به إليها وهو... انتحاء هذا القبيل من العلم، وغايته الاستعانة به فهم كلم الله ورسوله وفائدته الاحتراز عن الخطأ في الكلام أو التمييز بين صواب الكلم وخطئه"(3).
فالنحو عند ابن جني قوامه مراعاة معاني النحو التي يتم من خلالها الإعراب عن المعاني والإفصاح عنها، ومعرفة مسائل التصريف، وقوانين التركيب العربي الصحيح باحتذاء طرائقه، ومراعاة "أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولا [الإعراب] لجهل أصل الإفادة... إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة(4)"(5).
وهذا معنى مقالة الإمام علي( لمن سمعه يقول: "إنما قتل الناس عثمان"، دون تحريك أواخر الاسمين، فبادره بالقول: ويحك أعرب، والتسكين في الكلمتين يفضي إلى إشكالات تثبت الشي وضده.
ونجد صاحب كشف الظنون يحصر علوم اللسان العربي في أربعة: اللغة والنحو والبيان والأدب، ويقول "إن معرفتها ضرورية على أهل الشريعة لما سبق من أن مأخذ الأحكام الشرعية عربي، ولابد من معرفة العلوم المتعلقة به، ويتفاوت في التأكد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، والظاهر أن الأهم هو النحو إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة، ولولاه لجهل أصل الإفادة... وليس اللغة كذلك"(6).
فالإجماع بحسب النقول منعقد على أن الفعل النحوي يتوخى به تحصيل الإعراب بمفهومه الواسع انطلاقاً من نواقل المعنى التي هي الألفاظ، وبإعرابنا اللفظة نعرب عن المعنى والعكس ـ وكثيراً ما يرتبط بالبلاغة ـ ولا نريد إثارة إشكالية اللفظ والمعنى هنا إذ نتصورهما بالنهاية كشفرتي مقص لا نقول فيهما هذه أحدٌ من أختها، وإن حاول النحاة في بعض المواقف تجاوز هذا المفهوم عند حديثهم عن الحمل على المعنى دون اللفظ أو العكس، والظاهر أنه الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
ويتصور بعض الدارسين أن "العرب كانوا يعرفون الإعراب قبل علم النحو كما كانوا يحسنون النظم قبل علم العروض، وكان ذلك ملكة طبيعية فيهم حتى اختلطوا بالأعاجم"(7)، أو بمعنى "أنه نشأ فناً قبل أن ينشأ علماً"(8)، لأن تلك اللغة كما يقول الجاحظ: "إنما انقادت واستوت واطردت وتكاملت بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة"(9)، مما يجعلها تحمل كمونياً نحواً وهو "بمعناه الحقيقي طبيعي على لسان كل متكلم يتلقنه من مرضعه لأن الإنسان يتعلم النحو، وهو يتعلم النطق إذ بدونه لا يحسن التعبير عن أفكاره. أما إذا أراد أن يتعلّم لساناً غير لسانه فدرس قواعد النحو فإنه يسهل عليه تناوله، ولذلك فالأمة قد تقضي قروناً متطاولة وهي تتكلم وتخطب، وتنظم الشعر قبل أن تدون قواعد النحو، وتجعله علماً فاليونان لم يبدؤوا بضبط قواعد لسانهم إلا في القرن الخامس (ق.م)... فنظم هوميروس إلياذته وأوديسيته وهو لم يتعلّم قواعد النحو فلم يضره ذلك شيئاً لأن اللغة كانت ملكة فيه... وكذلك الرومان فقد نبغ فيهم جماعة من الشعراء والخطباء والأدباء قبل تدوين النحو... فإنهم لم يدونوا قواعده إلا في القرن الأول (ق.م) اقتداء باليونان"(10).
لقد وجد الأعاجم الداخلون في الإسلام أنفسهم يتعلمون لغة غير لغتهم فاضطرهم ذلك "لتعلم اللغة العربية لدينهم ولدنياهم، فكانوا مضطرين إلى نوع من العلم يسهل لهم طريق التعلم، فمست الحاجة إلى وضع علم النحو، وكان طبيعياً أن ينشأ ذلك في العراق لا في الحجاز ولا في الشام لأن الحجاز لم يكن في حاجة إلى قواعد يقيم بها لسانه، وأن موالى العراق أكثر رغبة من موالي الشام، ورغبة الفرس في العربية كانت أكثر من رغبة سواهم، ولأن الآداب السريانية كانت في العراق قبل الإسلام، وكان لها قواعد نحويّة خصوصاً واللغتان من أصل سامي واحد"(11).
2. اللحن:
في مقابلة النحو وهو يعني كما في المقاييس "إمالة الشيء من جهته... وهذا من الكلام المولد لأن اللحن محدث لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة، ومن هذا الباب قولهم هو طيب اللحن، وهو يقرأ بالألحان وذلك أنه إذا قرأ كذلك أزال الشيء عن جهته الصحيحة بالزيادة والنقصان في ترنّمه ومنه أيضاً "اللحن"، فحوى الكلام ومعناه، قال تعالى: (ولتعرفنّهم في لحن القول( سورة محمد الآية [30]، وهذا هو الكلام المورّى به المزال عن جهة الاستقامة والظهور"(12).
فاللحن بالمعنى الأخير عدول عن سنن الحق وقواعده، ومجيء الحديث عنه على غير مقتضى العدل مع الأغيار المختلفين، وهذا ما يتبدّى من لحون كلامهم.
ولو أسقطنا هذه الصورة بصيغتها على المستعجمين ممن قصرت عن البيان عربيتهم، لوجدنا كلامهم لا يخلو من نشاز مهما تكلفوا العربية إلا فيما ندر فنراهم يلحنون لحوناً تشتد وتخف وذلك بحسب درجات القصور الملكي في العربية، ولا يخفى ذلك على العربي المتمرس في فن اللغة بحكم الصناعة أو الناشئ فيها بحكم الطبيعة.
والظاهر أن لفظة اللحن بالمعنى الأخير الذي لابست فضاءه الدلالي عند أئمة اللغة والنحو كانت أحد البواعث الرئيسية على ذلك الجهد الجبار الذي بذله النحاة للحيلولة دون شيوع آثاره السلبية في حقل اللغة في جانبيه الكتابي واللساني، وتلافياً لخطره من أن يطال فقه الخطاب القرآني في جملة تجلياته، وما يترتب على ذلك كله من فساد عام ولقد تكرس نموذج هذا الجهد عملياً في هدي المراحل التالية:
المرحلة الأولى (نقط الإعراب)
"ما تكلم أحد من السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ في مسائل النحو، لكن لما فشا جهل الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية وضع العلماء كتب النحو فرفعوا إشكالاً عظيماً"(13)،(14) "وكان الغرض الأساسي منه في مبدأ الأمر ضبط القواعد التي يسير عليها إعراب المفردات ليسهل تعلمها واحتذاؤها في الحديث والكتابة"(15).
"وليكون ذلك معيناً على الفهم لكلام الله عزَّ وجل، وكلام نبيه( وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه تعالى"(16)، وربما وقع في محاذير التبديل والتحريف، وتوضيحاً لذلك يحضرنا هنا مثال الأعرابي الذي سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى من سورة التوبة، الآية[3]: (أنَّ الله بَريءٌ من المشركين ورسولِهِ) بكسر لام "رسوله" فقال الأعرابيّ: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه أبرأ.. ويقال إن عمر( أصدر يومها إجراءً قانونياً يقضي بأن لا يقرأ القرآن إلا عالم بالعربية.
قال الجاحظ: "روى أصحابنا أن رجلاً من البلديين قال لأعرابي: "كيف أهلك" قالها بكسر الكلام. قال الأعراب: صلباً، لأنه أجابه على فهمه، ولم يعلم أنه أراد المسألة عن أهله وعياله"(17).
ودون خوض في أسانيد مثل هذه الروايات لأننا نتصور أنها موجهة بعوامل موضوعية، وفي أيسر أحوالها يحاول أصحابها محاكاة الصورة الإطار التي رمت بشرر اللحن مما جعل الهمم تتوجه إلى تحجيم ظاهرة اللحن قبل أن يستفحل خطرها وكأن ذلك البعث اللغوي نتج من رحم الأزمة.
والشيء المؤكد أن أمر اللحن في صدر الإسلام لم يكن فجّاً كزّاً بالقدر الذي يشكل ظاهرة تبعث على القلق على ما كان قد لقيه من إنكار حاد من عمر(، أو من رسول الله( للاّحن بحضرته حين رماه بالضلال، وأشار على أصحابه بتعليمه قائلاً "أرشدوا أخاكم فقد ضل" وربما كان بحسب تعريف ابن فارس المتقدم للحن أنه "محدث لم يكن في العرب العاربة" ما يدعو للاعتقاد بوجود اللحن في غير العرب العاربة كالعرب المستعربة مثلاً إلا أنه لم يكن هناك ما يخشى عليه من آثاره.
ولكن في حالة القرآن الكريم قراءة وفهماً، ودخول الناس في الدين الجديد من غير العرب بات التفكير في صناعة النحو أكثر من ضرورة ملحة بل واجباً شرعياً تقتضيه السياسة، ويفرضه الدين.
ولعل التوجيه النبوي نفسه لأصحابه بإرشاد اللاحن بحكم الأخوة مدعاة للقول بوجود مبادئ تعليم أولية بسيطة بساطة الأخطاء عهدئذ، وهي الفكرة التي تتبلور في شبه مشروع يتناسب مع طبيعة المرحلة كشف عنه الإمام علي( لاحقاً حين عهد به لأبي الأسود الدؤلي ـ على الرأي الراجح ـ إذ خط له منهجاً ورسم له صورة رمزية، ينحو نحوها، فاتبعها "وكان للرائدين العظيمين فضل السباقين الذين يكشفون المجهول ويمهدون الطريق لمن بعدهم ثم يتركونهم يتممون ويوفون"(18).
روي عن الزجاج (ت 316 هـ) أن "أبا الأسود الدؤلي(19) قال: دخلت على علي بن أبي طالب( فرأيته مطرقاً متفكراً فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟. قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً فأردت أن أصنع كتاباً في أصول العربية، فقلت: إن جعلت هذا أحييتنا، وبقيت فينا هذه اللغة ثم أتيته بعد ثلاث فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أنّ الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر، ولا مضمر، وإنما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر. قال أبو الأسود: فجمعت فيه أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها إنّ وأنّ، وليت، ولعل، وكأنّ، ولم أذكر [لكن] فقال لي: لم تركتها؟. فقلت: لم أحسبها منها، فقال: بل هي منها فزدها فيها"(20).
وبعد أن استوعب أبو الأسود الخطة المتلقاة عن الإمام( شرع في تنفيذها وانتدب كاتباً فطناً من بني عبد قيس وقال له: "إذا فتحت فمي فضع نقطة فوق الحرف، وإذا كسرت شفتي فضع نقطة تحت الحرف، وإذا ضممتها فضع نقطة لدن الحرف"(21).
أما "إذا اتبع الحرف الأخير غنة فينقط نقطتين فوق بعضهما أما الحرف الساكن فقد تركه، وكان عمله هذا لضبط المصحف واتخذ لهذه الغاية صبغا يخالف لون المداد"(22)، "فالنقطة فوق الحرف فتحة وتحته كسرة وبين يدي الحرف ضمة كما وصفها"(23).
فكتب (ن والقلم وما يسطرون( سورة القلم الآية [1] مثلاً هكذا "والقلم وما سطرو.
وكان المصحف الشريف ميدان عمله الذي "ابتدأه حتى أتى على آخره بينما كان الكاتب يضع النقط بصبغ يخالف لون المداد الذي كتبت به الآيات، وسمى هذا العمل (رسوم العربية)(24)". وعدّ به منفذاً للمخطط في شقه التطبيقي، وأمر الكتاب أن ينهجوا نهجه حتى أتمّ الكتاب الكريم، ثم "كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي"(25).
ويذكر جرجي زيدان أنه "شاهد في دار الكتب المصرية مصحفاً كوفياً منقطاً على هذه الكيفية، وجدوه في جامع بجوار القاهرة، وهو من أقدم مصاحف العالم، ومكتوب على رقوق كبيرة بمداد أسود، وفيه نقط حمراء اللون"(26).
ويمكننا أن نضيف إلى العمل الإصلاحي الذي كان على رأس أولوياته تجنيب القرآن الكريم لطخات اللحن، هدفاً استراتيجياً ببعد سياسي لا يقل أهمية في سلّم اهتمامات المجتمع الناشئ، ذلك أن اللغة العربية ـ كما أشرنا من قبل ـ يومئذ إضافة إلى "كونها لغة القرآن هي لغة الدولة، والحياة المشتركة أيضاً، وهي اللغة التي يعرف بها العربي لدى الأمم الأخرى"(27)، وتعدّ الوعاء الحاوي لحضارة الأمة، والخيط الذي ينظم حبات منظومتها الثقافية ويحول دون انفراط عقدها بفعل اختلاط العرب بغيرهم من الأقوام والجنسيات توازياً مع حركة الفتوح واتساع مداها، ونظراً إلى التعدد اللغوي على أنه عامل ذهاب ريح وضعف، وكفيل بأن يشرذم الأمة، ويمزق وحدتها إذا لم تصنع الأمة لنفسها كياناً لغوياً ورافداً وحدوياً يمثل اللغة الرسمية للدولة.
كان هذا ـ فيما نتصور ـ أحد الأسباب الوجيهة التي تدعو لتبني مثل هذا الموقف المصيري من اللغة واتخاذها مادة بحث وميدان عمل حتى أفضت عند المتأخرين إلى قوانين الإعراب التي وضع أساساتها أبو الأسود بحركاته النقطية تلك التي أطَّرت الصوت اللغوي العربي وفق نجره الأصيل فيما عرف في الأدبيات النحوية بالإعراب.
ولقد كانت المصاحف العثمانية ـ كما هو معلوم ـ خالية من النقط والشكل بحيث تحتمل قراءتُها جملة الأحرف السبعة التي بها نزل القرآن الكريم واستمرت على ذلك الوضع أكثر من أربعين سنة وهذا يعني أيضاً "أن الكتابة لم تكن تتمتع قبل عصر التدوين على الأقل بما يكفي من الحصانة والمصداقية، ولذلك لم يكونوا يكتفون بكتابة القرآن في المصاحف بل كانوا يحرصون شديد الحرص على حفظه واستظهاره عن ظهر قلب وضبط روايته وقرائه"(28).
وهي القاعدة التي تتسق مع الثقافة العربية التي تميل إلى المشافهة أكثر من غيرها وهذا السبب الكامن وراء لمز الكتبة بالصحفيين (من الصحيفة) واشتقاق معنى التصحيف أي الخطأ في الكتابة.
ثم "إن ممارسة النحاة لهذا الضبط هدتهم إلى كشف علل الإعراب فكان علم النحو"(29)، الذي هو أول أمره ضبط لمعاني الألفاظ برسم حركاتها أو هو الجانب العملي من ممارسة الضبط والتعليل توخياً لهندسة معمار الإعراب الذي يتم به التفريق "بين المعاني [فلو] أنّ القائل إذا قال: ما أحسن زيد لم يفرق بين التعجب، والاستفهام، والذم إلا بالإعراب... وقد رويّ عن رسول الله( أعربوا القرآن(30)"(31).
فواضح من نص الحديث الشريف أن الإعراب هنا هو البيان عن المعنى في صيغته العربية الأصيلة، كما تمثلها العربي القح، وكما نزل بها القرآن الكريم، ونطق بها رسول الأنام( بعيداً عن وهج المصطلحات التي تولدت في فترات لاحقة. وهي مصطلحات علمية أثمرها البحث والنظر وإن تعامل معها العربي كمضامين مجردة من تلك اللافتات التي وضعت للغته. قال رجل بدوي للأخفش وقد شهد مجالسه النحوية" إني أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا مما ليس من كلامنا". ويروي الجاحظ حكاية عن أحد العلماء قوله: "قال قلت لأعرابي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذاً لرجل سوء. قلت: أتجر فلسطين؟. قال: إني إذاً لقوي"(32).
وهذه الواقعة ومثيلاتها على ما فيها من طرافة تظهر أنّ الأعرابي كان يحدث بشيء خلا من ذهنه تماماً، فالأعرابي لم يفهم من الهمز والجر إلا معناهما اللغوي في حين كانت تلك العلل جزءاً من الممارسة اليومية على ألسن العرب عفوياً وسليقة تماماً مثلما نتكلم نحن اليوم بدارجتنا ونسكن منها ما اقتضى العرف اللغوي تسكينه، ونحرك في مواضع التحريك، ولا يضيرها أن لا قواعد لها، بل هي متروكة للجماعة اللغوية بحسب ما أرادت لها وما أرادت منها.
ثم إن متابعة الظاهرة اللغوية بقصد التعليل والتنظير لها وفق ضوابط وحدود مرسومة لا تتأتى إلا لعقلية متمرسة مكونة خبرت الدرس والمنهج زمناً ليس بالقليل، فأكسبها ذلك كله قدرة على فلسفة المسائل، وتقعيد مفاهيمها وهي لا تنطلق في عملها من عدم وإنما نفترض دوماً أن يؤسس لها من سبقها بالبدايات التي يقوم عليها البناء، وبهذا المعنى وحده يمكن أن نقرأ قول القدامى إن "أول من نقّط المصحف، ووضع العربية أبو الأسود، فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب، والجر والجزم، والضم والفتح، والكسر والسكون، والتي استعملها أبو الأسود في المصحف(33)، "وأخذ عن أبي الأسود عنبسة الفيل، وميمون الأقرن من الطبقة الثانية من نحاة البصرة، ونصر بن عاصم وهو أيضاً من الطبقة الثانية من نحاة البصرة، وعبد الرحمن بن هرمز (ت 117هـ) من الطبقة الأولى لنحاة البصرة ويروى أن مالكاً اختلف إلى ابن هرمز عدة سنين، وعن أبي الأسود أخذ يحيى بن يعمر (ت 117هـ) من الطبقة الثانية لنحاة البصرة أيضاً، وروى عن ابن عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو من التابعين من قراء البصرة(34)"(35).
كانت هذه مرحلة الإصلاح الأول الذي يؤسس للأعمال التي استفاضت على يد تلامذته الذين سيمضون في طريقة إمامهم أشواطاً إلى الأمام لأجل التحسين والكمال ويذكر أنهم تفننوا في شكل نقط الإعراب فمنهم مَن جعله مربعات، ومنهم من جعله مدورات مطموسة الوسط، ومنهم من وضعها خالية الوسط، كما سيظهر دورهم الرائد في مرحلة نقط الأعاجم في خطوة تالية.
ولقد اعتبر بعض الدارسين المحدثين أن الإقدام على مثل هذه الخطوة باتجاه وضع قواعد للغة غير مكتوبة تحيلنا إلى "حلقة مفقودة" ليس بين أيدينا من وسائل بحثها شيء.
المرحلة الثانية (نقط الإعجام):
إن وعي أية مشكلة وتقدير حجم الآثار المترتبة عليها سلباً يستغرق وقتاً، ويتوجّب إيجاد مناخ من البحث المتواصل، والهادئ لأجل بلورة المفاهيم التي تسمح بتصور ذيول القضية، وإيجاد الحلول المناسبة لها، فكتب الأدب مثلاً تطالعنا بجملة مفردات من اللحون تحصى هنا وهناك، وتتكرر برواياتها مع تغيير نسبتها لهذا الطرف أو ذاك، ولكنها بالنهاية لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة مما يجعلنا نتصور أن بداياتها في صدر الإسلام ظلّت تتحرك ضمن هامش محدود أو بمعنى أنها لم تنزل بعد منزلة الظاهرة.
فالحواضر، وهي أكثر ما يُتخوف منه، ظلت لغة أهلها حتى نهاية القرن الثاني الهجري خالصة صافية، في الجملة، على ما يذكر الرواة "وما ظهر من اللحن والخطأ خلال تلك الفترة ضئيل يمكن الإغضاء عنه والتيسير بإغفاله"(36).
يقول أبو أحمد العسكري 302هـ: "لقد ظل الناس يقرؤون القرآن في مصحف عثمان بضعاً وأربعين سنة حتى خلافة عبد الملك (ت86هـ) وحينئذ كثرت التصحيفات، وانتشرت في العراق"(37).
ثم إن الروايات المفترضة التي حملت على التوجه نحو المباحث النحوية تشي بأنها كانت متجهة إلى حركات الإعراب تحديداً ومن ذلك أن بنت أبي الأسود الدؤلي وهي تسأل أباها: ما أشدُّ الحرِّ. فقال الأب: الرمضاء في الهاجرة، فعجبت البنت من الإجابة لأنها لا تسأل وإنما هي بصدد العجب. فقال الأب إذن قولي: ما أشدَّ الحرَّ!.
فأول ما يلاحظ هنا أن المسألة لا تتعلق بتصحيف النقط وإنما الحركات في شكلها الصوتي من ضمة وفتحة وكسرة وهو ما تم التعاطي معه كخطوة في الطريق تجنب القارئ تحريف القراءة القرآنية ثم الانتهاء بتغيير الأحكام والمقررات السماوية.
ويبدو أن هذه الخطوة لزمن أبي الأسود يمكن التعايش معها لأنها في تصورنا أقرب ما تكون شبهاً بتعاملاتنا اللغوية في الكتابة إذ نعرف المعاني وما تحت الأحرف دون إعانة العلامات الإعرابية ومن سمة العربية أن تعرف المعنى ليتسنى لك القراءة الصحيحة وقد نتبع في غالب الأحوال قاعدة "اجزم لتسلم" فلا نبين عن أية صورة من صور الحركات ومع ذلك يفهم كلامنا ويصل مرادنا سامعيه إلا أن المسألة الأخطر بالمطلق ـ في نظرنا ـ تتعلق بالإعجام الذي يطرأ على الحروف المشتبهات فلا يميز قارئ القرآن معها مثلاً بين الباء والتاء والثاء أو الحاء والخاء والجيم مما يقود إلى التعمية الحادة والتحريف المضل.
وقد كان المجتمع في عهد عثمان لا يتحرج من القراءة بغير نقط الإعجام إذ السلائق صلبة العود ولا تزال في عنفوانها، وحفظ القرآن في الصدور هو الوضع العام والكتابة مجرد احتياط، ولو مثلنا لذلك بتلاميذ المرحلة الابتدائية وكتبنا لهم من الفاتحة: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم(بدون نقط وطالبناهم بقراءتها لرأيناهم يسترسلون في القراءة بمجرد معرفة الكلمة الأولى لأنهم يحفظونها عن ظهر قلب ورسم الحروف يقلل نسبة الإخفاق فيها، وللسليقة والطبع كلمته هنا.
وربما تعمد العرب الكتابة بدون نقط نظراً إلى الملابسات نفسها ومن ذلك ما يروى عن ابن مسعود: "جرّدوا القرآن ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم "أي" أراد تجريده من النقط والفواتح والعشور لئلا ينشأ نشءٌ فيرى أنها من القرآن، وهذه الأقوال يفهم منها أن النقط كان معروفاً قبل كتابة مصحف عثمان ثم عدل عنه عدلاً مقصوداً، وجرّد منه تجريداً متعمداً"(38). وذلك حتى ينفتح النص القرآني على جملة حروف القراءات التي نزل بها القرآن الكريم، ويستوعب جملة أطيافها.
فلو صرنا إلى قوله تعالى من سورة النساء الآية [94] (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا( وفي قراءة فتثبتوا ورسم هذه الكلمة [فتبينوا] خالية من النقط يجعلها أفقاً انفتاحياً على القراءتين بلفظ "فتبينوا"، وبلفظ "فتثبتوا" وبكليهما أنزل القرآن الكريم.
"وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلُوَّين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين... ولم يكونوا ليسقطوا شيئاً من القرآن"(39).
ولكن كيف كان العرب يفرقون بين الحروف المتشابهة؟.
نتصور أنهم كانوا يرسمون كل حرف منها بطريقة مختلفة بعض الشيء قد يكون بعض بقاياها ما كان يرسم به طلبة الكتاتيب عندنا في المغرب العربي حروفهم، فالقاف مثلاً تكتب بكيفية مغايرة للفاء في الرسم دون الحاجة للنقطة للتمييز بينهما.
"ويستبعد القلقشندي(40) أن يكون العرب حتى هذا الوقت يجهلون نقط الإعجام... وحري بمن وضع صور الحروف المتشابهة أن يضع ما يفرق بينها"(41).
وبعد هذا التاريخ لم يعد الناس هم الناس وبدأ الخلل يتنامى جيلاً بعد جيل فرأى العلماء وأصحاب الأمر أن الإعجام لعهدهم غير "مستقصى في كل ما يكتب، ولا كان كل من يقرأ يستقصي ضبط الكلمة ونقطها"(42).
فالوقائع على الأرض تنبئ أن المجتمع قد تغيرت تركيبته الاجتماعية والفكرية بعد الفتوح، وبدأ يتجه وجهة انفتاحية على الثقافات، والأجناس في حركته التاريخية الحضارية، ولم يعد مجتمعاً تغلب عليه حياة البداوة كما كان.
كما وجد المجتمع المسلم نفسه ينخرط في دورة الحضارة مع تعاليم "اقرأ" والقلم وما يسطرون"، و"اكتبوه". وكل هذه المفاهيم والقيم كيف تترجم عملياً في ممارسة بغير إيجاد صيغة مثلى تؤمن الخط وتؤمن مع الخط مصالح الناس من بيوع ومكاتبات ومواثيق كلازمة من لوازم الحضارة، وكفعل إجرائي يحفظ للأمة كتاب ربها ويدفع عنه غائلة التصحيف الذي عاد في عقر دارها، ويتعين على أهل العلم إيجاد حل جذري يتناسب وحجم المشكلة التي تلقي بدرانها ـ مشكلة التمييز بين الحروف المتشابهة ـ بعد أن تراجعت السلائق عن قواعدها الأمامية، وبات الوافدون الجدد من غير العرب بفعل الفتوح عبئاً على الأمة يضاعف مسؤولياتها ما لم تحسن التعاطي اللغوي مع الظاهرة.
وأمام هذا الوضع الذي لا يحتمل التأجيل قام الحجاج (ت 95هـ) زمن عبد الملك بن مروان باستنفار جهود العلماء "وأمر كتابه أن يضعوا للحروف المشتبهة مثل الباء والتاء والنون علامات تميزها(43)"(44)، للتفريق بينها، ونقطوا بها المصاحف، وانتدب لهذه الغاية فريق عمل للاضطلاع بشرف هذه المهمة، وكان هذا الطاقم العلمي مؤطراً بمبادئ الإصلاح التي ابتدأها أبو الأسود الدؤلي مع تلامذته الذين صنعوا على عينه، ونذكر منهم على سبيل المثال نصر بن عاصم، و"يحيى بن يعمر، وعنبسة بن معدان وهو عنبسة الفيل، وميمون الأقرن..."(45).
واتفاقاً مع طبيعة هذا النوع من الأعمال الرائدة التي يكون فيها الإصلاح ثمرة مجهودات جماعية متضافرة يسهم فيها طاقم طلائعي تنتفي معه تلك الأحكام المجتزأة التي تناثرت في أدبياتنا بأن تعمد إلى حصر العمل مهما كان ضخماً في فرد بعينه وإغفال البقية، وهي تعكس غلبة النزعة الفردية على روح الجماعة كأن يقال مثلاً "إن نصر بن عاصم (ت 89هـ) أول من نقط المصاحف وكان يقال له نصر الحروف"(46)، وقد يقال يحيى بن يعمر (ت 129هـ) صاحب هذا النقط وهو من قام بالتنسيق "بين مجموعات الحروف ناقطاً بعضها من فوق وبعضها من تحت حتى استكملت الحروف إعجامها وهو المعروف اليوم، وسمي بهذا النقط (نقط الإعجام)"(47).
ومن المنطقي في التسلسل الزمني للأحداث أن يقال: إن هناك ثلة من العلماء أخذت عن أبي الأسود مثلما أخذ الأخير عن الإمام علي(، وتخرجوا من المدرسة نفسها، وكلهم جمعهم زمان واحد ـ كما يقول أبو عبيد (ت 224هـ) ـ ولا يبعد أن يكون إفراد نصر بن عاصم أو يحيى بن يعمر أو غيرهما بالاسم يجعله مشرفاً على المشروع، والمخول رسمياً من الجهة السياسية التي فوضته للقيام بأمر هذه المهمة، وأوكلت إليه صلاحية تمثيلها بعمله كما هو جاء العمل به في عصرنا، وهذا ما يقرأ به أيضاً إسناد الروايات التاريخية هذا الجهد العظيم للحجاج مثلاً.
فهل كان الحجاج السبب المباشر لهذا العمل شخصياً؟ أم أن عمله مجرد تمثيل للجهة السياسية التي انتدبته لهذه الغاية الدينية والقومية خدمة للدين والدنيا معاً، وأن هذا العمل هو بالنهاية جهد جماعي داخل ضمن سياق تكاملي يمثل نموذجاً لعقلية أنتجتها كيمياء معرفية واحدة وهذا التخريج يتلاءم مع الروايات التي "تنسب تنقيط المصحف إلى أربعة رجال هم: الحسن البصري (ت 110هـ)(48)، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم، وأبو الأسود، ويقال: إن أبا الأسود قام بتنقيط المصحف حينما رأى اللحن فاشياً وهذا التنقيط للإعراب، ثم اشترك تلميذاه نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر ومعهما الحسن فيما بعد في إدخال الإصلاح الثاني، وهو وضع النقط أفراداً وأزواجاً لتمييز الحروف المتشابهة"(49).
كما يضيف أبو عمر الداني (ت 444هـ) إلى الأربعة المتقدمين "عبد الرحمن بن هرمز (ت 117هـ)، وعنبسة الفيل، وميمون الأقرن، ويعتقد أن هذه النخبة من الرواد هم "نقطوا المصحف، وأخذ عنهم النقط، وحفظ وضبط، وقيد وعمل به، واتبع فيه سنتهم واقتدى فيه بمذاهبهم"(50)، ولا يبعد أيضاً أن يكون عددهم أكثر مما ذكر، وأن سبب شهرة هؤلاء تكون قد غطت على نظرائهم أو أنهم وجدوا من طلبتهم من يقوم لهم وبالتالي فإن ذكر أعيان منهم بالأسماء لا يعني حصر العدد فيهم.
علاقة أبي الأسود وتلامذته بدرس للغة
نُعَنْوِن بهذا لأننا نجد من العدميين من يشكك أصلاً في علاقة أبي الأسود وتلامذته بهذا النوع من الدراسات لمجرد وجود قَصص يشاكل قصة أبي الأسود مع ابنته أو قصته مع الإمام
علي( والتي كانت سبباً مباشراً حاملاً على وضع النحو، فالبعض يستبعد ظهور هذا النوع من التأسيس ومثل تلك الدقة في ضبط مفاهيم من مثل ذلك النوع الذي عرفه النحاة لأن البيئة الثقافية غير مساعدة.
يقول "كارل بروكلمان" إن "ما يروى عن تلاميذ أبي الأسود الدؤلي المزعومين أمر غير أكيد"(51). فهل هذا مسوّغ كاف ووجيه للطعن والتشكيك؟.
نعم إن بعض القصص في ثقافات الأمم الأخرى يشبه إلى حد كبير قصة الإمام على( مع أبي الأسود الدؤلي، وكذلك مع ابنته وتشابه الروايات يحمل البعض على التقاط خيط الربط بين الحادثتين، ويعلل لمثل هذا التشابه بالصلات الثابتة تاريخاً بين العرب وغيرهم منذ عصر ما قبل الإسلام لينتهي إلى الحكم بتأثر اللاحق بالسابق.
وبصدد هذا الاحتمال أيحق لنا اعتبار ما يقال عن علاقة الإمام علي( وأبي الأسود وتلاميذه بهذه الدراسات مجرد قصص من الثقافة الهندية أعيدت صياغتها في الثقافة العربية وتم تلفيقها ثم إقحامها في التراث العربي لسبب أو لأخر؟.
إن ما يؤثر من تماثل وتقاطع في بعض المبادئ بين العرب وغيرهم من سائر أمم الأرض من الهنود أو السريان ونحوهم قد يدخل في باب الاتحاد العقلي للعقل الإنساني لتماثل التجارب التي تفضي إلى ذات الحلول مع بعض الاختلاف في الجزئيات والتفاصيل؟. ثم من أين لهؤلاء الهنود والسريان بمثل تلك المبادئ النحوية؟.
وهكذا يلزم عن هذه الأسئلة القول بالدور كما يقول المتكلمون دون أن نفضي إلى نتيجة حاسمة في الموضوع، وما يقال عن العرب قد يصدق على غيرهم؟ ولن يحسم الأمر إلا بافتراض بدايات بغض النظر عن طبيعتها من النضوح أو الخدوج.
وفي المقابل إذا سلمنا بعربية هذا النوع من الدراسات، فمن أين للإمامين أيضاً بمثل هذا البحث التجريدي الذي لا يتناسب وطبيعة العقلية العربية التي تبدو يومئذ مشروعاً في طور الإنجاز لم تتحدد معالمه بعد؟.
وهذا في ـ نظرنا ـ تساؤل مشروع يتناول علاقة العربي بهذا النوع من البحث المتقدم مع ما يعرف عنه من عدم صبره ؟؟؟؟ الذهني، وضيق صدره به، وتعوده على البساطة والانطباعية، وأثر ذلك واضح كأثر من آثار البيئة التي لها دخلها في تركيبة الإنسان النفسية والاجتماعية والفكرية، ويمكن التدليل على ذلك بجملة الأحكام النقدية في العصر الجاهلي واتسامها بالسطحية والخاطرية وانعدام القدرة على الخوض في التعليل والتحليل فضلاً عن الذهاب فيه بعيداً.
ومهما قيل فإن هذا يبقى حكماً تعميماً يصدق على مجموع العرب دون الأفراد، والنبوغ لا يبرز إلا في آحاد الناس وأفرادها حتى ينزل الواحد منزلة الأمة.
ثم إن الحالة التي صاحبت نزول القرآن لا يستطيع أحد متى أنصف من نفسه أن ينكر أن فيها جانباً غيبياً أحيط بالعصمة، وشيد بالتوفيق ذلك أن الله إذا أراد أمراً هيأ لـه أسبابه، ولعل حفظ القرآن وما صاحبه من جهود العلماء وفاعليتهم من تلك الأسباب المهيأة لهذه الغاية أي غاية الحفظ.
إننا لا نستبعد إطلاقاً إمكانية أن يتولى الباحث العربي بنفسه ضبط لغته ضبطاً صوتياً، ووضع الإعجام لها، والتأسيس لهذا النوع من الدراسات خاصة مع ضغط الحاجة، ووجود المحفزات الاعتقادية والمرء إن صح من الهوى أرشد للحيل كما يقال.
وحقيق بنا ألا نغفل ما بين أيدينا من وقائع ونستعيض عنها بالتخمينات والظنون لنجد أنفسنا نثبت القضية وضدها، ويمكننا إجمال هذه الوقائع وفق الاعتبارات التالية:
1. اعتبارات تاريخية: لقد شاع من علماء المسلمين أول عهدهم الاحتفاء بالرواية وتأثر الأسانيد وهو وإن كان بدأ في مدرسة الحديث إلا أن أهل اللغة احتطبوا في حبالهم وساروا في طريقهم، فكيف تختلط عليهم الحقائق حتى يجهلوا أصحاب هذا العلم على جلالة قدره، أو ينسبونه لغير أهله ولا يعترض أحد منهم عليه.
2. الأمر الآخر وهو أننا أشرنا إلى توجيه الرسول( لصاحبته بإرشاد من لحن بحضرته، ولا يحتمل الإرشاد هنا ـ فيما نتصور ـ غير تعليمه، والتعليم يكون لمادة موجودة مهما قلت أو كثرت مما يجعلنا نخمن بوجود نماذج محدودة بمحدودية الحاجة وهي التي أوعز بها الإمام علي( لصاحبه أبي الأسود الذي ظهر حين مفاتحة الإمام له بالأمر بمظهر من يعلم قدراً غير يسير بالمباحث التي بسط فيها القول أمامه، وإلا ما كانت تعرض عليه إن كان خلو الذهن منها بالمطلق.
3. إن شخصية أبي الأسود العلمية المختصة بعِلْم القراءة تؤهله للتفكير فيما يحفظ للنص القرآني سلامته، ويترجم استياءه عند سماع اللحن في القراءة إلى عمل إيجابي كما كان "يعد ـ إضافة إلى كل ذلك ـ من المحيطين باختلاف اللهجات العربية والعارفين بغريب اللغة"(52)، إذن فلا غرابة أن نجده يتصرف من موقع المسؤول ويتحرق لدفع نابتة اللحن، وزحفها القادم راجياً ثواب الآخرة.
4. إن أمر اللحن كان يمثل قضية مصيرية للدولة الجديدة لارتباطه بمرجعيتها العقدية، وشرعيتها الثقافية، ويرتبط بحاجات الأمة الاجتماعية والفكرية بأسرها فكان التصرف وفق هذه القناعات من خير ما يبعث على التحرك المبدع.
5. الاعتبار الآخر وثائقي: يتمثل في كون محمد بن إسحاق المعروف بالوراق(53) (ت 380هـ). يذكر أنه نظر في جلود وصكوك وقراطيس مصرية وورق صيني وقال: " رأيت ما يدل على النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته، وهي أربع أوراق أحسبها من ورق صيني هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود ـ رحمة الله عليه ـ بخط يحيى بن يعمر (ت 129هـ)(54)، وهو أحد تلامذة أبي الأسود، والرواية تؤيد ما قلناه مِن قبل من أن حلقة أبي الأسود شكلت النواة الأولى لحلية بحث طليعية من أنجب طلبته، كان عليها أن تتابع المسيرة، وتكمل مشواراً بدأه.
6. الاعتبار الأخير: يعتقد أصحابه أن ما قام به أبو الأسود لم يكن جديداً على الذهنية العربية بمعنى الجدة التي هي على غير مثال سابق، أو من قبيل الطفرة بل هي بمعنى التجديد وإحياء للقديم يقول ابن فارس مستشهداً: "الدليل على عرفان القدماء من الصحابة، وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون، فإن قال قائل فقد تواترت الروايات بأنّ أبا الأسود أول من وضع العربية، وأنّ الخليل(55) أول من تكلم في العروض، قيل له: إن هذين العلمين قد كانا قديماً، وأتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس، ثم جدّدهما الإمامان"(56).
إذن فعمل الإمامين تجديدي ـ برأي ابن فارس ـ وعملية إحيائية لما يمكن أن يكون قد قل في أيدي الناس، وقد يكون بسبيل هذا المعنى ما يفهم من رواية وضع النحو التي يرشد فيها الإمام علي( أبا الأسود إلى الخطة الواجب اتباعها، فقد يفهم ضمنياً من هذا الإرشاد ما يكون مظنة لتأييد قول أبن فراس والقول بأن الإمام علي( لم يكن ليشير على صاحبه وهو لا يمتلك رؤية قبلية يرسم في ضوئها مشروع الحل ثم طريقة تلقي أبي الأسود لمبادئ المنهج تدل على أن تصوره للقضية كان واضحاً وإلا كيف يتلقى عنه علماً في حجم النحو من جلسة واحدة كما تروي كتب اللغة والأدب.
ويذكر أبو عمر الداني (ت 444هـ) "أن فكرة النقط لم تكن جديد كل الجدة، فقد كان لأهل المدينة وأهل مكة نقط يختلف عن نقط أبي الأسود تركوه وأخذوا بنقط أبي الأسود الذي سمي أحياناً بنقط البصرة"(57).
إذن فعملية تجريد الحروف من النقط كانت مقصودة لحاجة اقتضتها الثقافة العربية ومن ذلك صنيع الصحابة ف�
ساحة النقاش