لعنة أقدام ومحنة رأس خارج النص
في مباراة اللهو واللغو : المصروجزائرية
د. زغوان أمحمد. الجزائر
ب/ إلكتـــروني : [email protected]
________________________________________
موقف مبدئي
في البداية لا بد أن نسجل موقفا نعتبره أصلا وإن اهتز هذا الأخير بفعل مأجور أو مأزور في هذا المنعطف أو ذاك المنعرج لكن هذا لا يغير من ثبات المبدأ شيئا إنها سحابة صيف، أو شدة وتزول وما ذاك إلا لتجذر الأصل في التربة والثقافة والتاريخ والدين، وهذا ما يؤكد عليه شيخ الإصلاح الإبراهيمي حين يكتب أكثر من مقال باسم جمعية العلماء الجزائريين على صفحات البصائر، ويشد بحرارة يومها على أيادي المصريين في تحرير بلدهم، ولعلنا نؤرخ للأصل والموقف بقطعة صغيرة الحجم كبيرة المعنى والدلالة بمقالة له: " محنة مصر محنتنا "، وكان مما احتوته المقالة بنصه " إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المعبرة عن إحساس الشعب الجزائري كله تعلن تأييدها للشعب المصري وتضامنها معه في موقفه الحازم، ولا تصدها عن أداء واجبات الأخوة هذه الحدود الوهمية التي خطها الاستعمار بين أجزاء الوطن الواحد، ولا هذه السدود الواهية التي أقامها بين أبناء الوطن الواحد، لأن العواطف الجياشة كعثانين السيل لا تردها حدود ولا سدود " (1)
مع كل أسف يا شيخ لقد رسّمنا تلك الحدود الواهية وعادت من أقدس الأقداس، يشب عليها الصغير، ويفنى عليها الكبير ، وهي أمانة في أعناقنا ورثناها عن الشيخين " سايكس وبيكو " ولهذا فنحن نحافظ عليها مثلما نحافظ على صفاء عيوننا، وصيام شهرنا، وصلاة خمسنا .. والحاكم العربي حريص على الأمانة.. فلا عجب أن تظل على الدوام فاعلا مرفوعا في فراغاتنا الثقافية، بل لم يكفينا ذلك حتى أضفنا لها سدودا وجدرا من الوهم تمنع أسوان من أن تعانق وهران، وغرسنا في أذهان الناشئة عقائد مزعومة تدين للأرض بالانتماء، وللقطرية الحادة بالولاء، فأحكم بعضنا المخبول غلق أبوابه في وجه بعضنا المسطول، حيث لا يحق لأي عربي أن ينتقل للجزء الآخر من وطنستان إلا بتأشيرة، والآن جاء دور اللهو واللغو أو الكرة لتضاعف متاعبنا، وتنخس في جنباتنا الانثيالات، وكأن ما فينا لم يكفينا
à رياضة جسد لا روح فيه
كان يفترض أن تبقى الرياضة محافظة على روحيتها في جسدها بحسب الشائع في الأدبية الرياضية وهو ما افتقد في الحالة المصرية الجزائرية، فلم يعد المراقب المحايد ـ والحال تلك ـ يرانا نلعب رياضة، أو يحل في جسدنا المعذب روحها، وكان المظنون بتلك اللعبة الشعبية ـ ما مادمنا مصرين على إسناد كل شيء للشعب ـ أن تجري وفق القواعد التي قامت عليها تلك اللعبة ابتداء حيث يعترف فيها المنهزم بفوز الفائز، ويتعلم منها أن الأيام دول يوم لك ويوم عليك، وأن للعبة مجالا مغلوقا لا تبرحه فهي متحيزة زمانا بتسعين دقيقة، ومكانا بالمستطيل الأخضر، وأن إدارة الأمر فيها موكولة إلى حكام ديدنهم الحيدة، والكلمة الفصل عائدة لهم سلبا أو إيجابا، وقراراتهم نافذة متوجبة للاحترام، وإن أخطأوا وأساءوا، ـ فحكامنا في العالم العربي أيضا يخطئون ويسيئون ولا معقب لحكمهم ـ وإن لها جمهورا يستهويه الفن الكروي وجمالياته أكثر من أي شأن آخر، والأفضل فنيا هو من يستحق أن يفوز، والأحق بتمثيل الشعب الغلبان، واللعبة ـ بالنهاية ـ متعة وفرجة أكثر منها ترجمة عن ضغائن الاستبداد وما تنفثه الأخيرة من حمم المكبوتات وغرائز الأنانيات وروح التعالي المغشوش .
ما عد ذلك لا علاقة له بالرياضة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يحسن بنا نسبته إليها فهل التباغض والسباب والشتم، وإثارة مشاعر الكراهية والتهارش من الرياضة، لا أعتقد ذلك فيما أفهم ؟!.
فهل يصدق في النظام العربي الرسمي ما نسب إلى ماركس من قول : " سأنسي الناس الله بالمسرح "، ليتناسخ عندنا بالمعنى المضمر الداخل في أحواز منطقة اللامعبر عنه: بأننا سننسي الناس في فقرهم، وعريهم وضيق ذات يدهم، وحاجتهم للسكن، والزواج، وعوز البطالة .. بالكرة، وبهذا المعنى تصبح الكرة قضية وطنية، وإستراتيجية أنظمة تبحث في الأقدام عن شرعية مهدورة، لما رأت تأثير تلك اللعبة العجيبة التي تجند الحافي والناعل، والجائع والشبعان، والكاسي والعريان، الغني والفقير، المقيم والمهاجر.. ليجتمع هؤلاء على ما بينهم من مفارقات وتناقضات على قدم لاعب واحد... على نقيض ما شاهدناه في كثير من القضايا المصيرية للأمة العربية والإسلامية حيث الشعوب في واد والحكومات في واد، وشتان بين مشرّق ومغرّب.
وإذا سلمنا بأن ما حدث لا علاقة له بالرياضة فمن باب أولى أن لا علاقة له بالسياسة التي من أبسط أبجدياتها أنها " إدارة للشأن العام على مقتضى الحكمة "، فأين الحكمة فيما حدث من ضجيج وهلوسة وسقوط مرّ ؟!.
وهنا يحضرني حديثا ـ فيما أذكر ـ لمالك بن نبي مفاده : " أننا لا نمارس السياسة في العالم الثالث بالمتعارف عليه وإنما نمارس " البوليتيك " . وهذه لفظة تحتها ما تحتها من إحالات في المخيال الجمعي، فعندما تقول : فلانا (مُولى بولتيك )، فتعرف للفور أنه بعيد عن الحكمة، والخير..
فهل ما حدث بين الجزائر ومصر من قبيل هذا المفهوم ؟!. وأترك للقارئ حق الاستنتاج دون أخوض في التفاصيل التي تخفي الشيطان في جيوبها .
à بين أفكار الطليعة والأفكار الدارجة
يذكر أستاذنا* هويدي ـ حفظه الله ـ أننا بمثل هكذا سلوك مسخنا الذاكرة وألغيناها مذكرا برموزنا العلمية من محمد عبده، وزغلول وعبد الناصر إلى عبد القادر الجزائري، وابن باديس، وبومدين..
ونتصور أن هذا الإلغاء يخلص بنا إلى نتيجة مفادها أن هذه الرموز الفكرية المذكّر بها باتت من الماضي وأفكارها الراقية ليست مما يفاعل حركة الراهن العربي على أكثر من صعيد، والظاهر أننا واقعون تحت تأثير الأفكار الدارجة أو القاتلة ـ على رأي مالك بن نبي ـ التي تتحكم في الثقافة المجتمعية بعامة، وتعصف بها عصف السوء، بينما أفكار الطليعة والنخبة لا تزال تدور وتلف في أحواز برجها العاجي وإلا ما معنى أن تتورط نماذج اجتماعية مثقفة كان يفترض بها أن تتصرف وفق المكانة والمنزلة لا أن تجاري سواد العامة وتتنكر لمنطقها ولما يتفق وعقلائية النخب المراهن عليها في قيادة الأمة الفكرية والارتقاء بها حضارة وسلوكا وثقافة عساها تتجاوز أوضاع التخلف المزري الذي تخبط في دياجيره على غرار ما جار عليه الحال في الدول المتحضرة التي بنتها أفكار الطلائع كـ " منتسكيو "، و " جون جاك روسو " و" فولتير " وغيرهم وفي المقابل أين نحن من أفكار الطليعة عندنا: أفكار الأفغاني ، ومحمد عبده، وابن باديس، ومالك بن نبي..
مبارة داحس والغبراء في نسختها الجديدة
لم نكن نفهم لم قامت حرب داحس والغبراء ؟ ولا نعرف الداعي لها أصلا ؟ ، وكنا ـ ونحن على مقاعد الدرس ـ نشكك في أنها كانت لأجل رهان رياضي أو مباراة سباق بين فرسين ، وكنا نهزأ من ضجيج هذا السقوط الجاهلي، ونعجب للمستوى الفكري الذي انحط بالجاهلي تاريخئذ إلى هذا المستوى، ونغرب أيضا من حرب البسوس التي اشتعل أوارها الذي أتى على أخضر واقديها ويابسهم لأجل ناقة ثم بعد أن رأينا ما أحدثته الكرة بين الجزائر ومصر، أدركنا ـ على أمل أن نكون مخطئي التقدير ـ حينها أن ذلك أكثر من ممكن، لأن هاته العقلية هي طبعة معدلة فقط، وأن الجرثومة الجاهلية التي صنعت ذلك هي ذاتها التي تصنع هذا فأين العجب والغرابة ؟ ما دام التقليد متوارثا ومنضمرا في الجينات الثقافية ، حيث لم يفلح حتى الإسلام ـ بفعل عقوقنا له ـ في تحصين جهازنا المناعة ضد تلك الإفلونزا : إفلونزا العصبية، والتي حذر منها الرسول الأكرم، وأقام على الأمة حجة الله في التحذير منها إلى يوم يبعثون بقوله " دعوها فإنها منتنة " وكان ذلك يوم أن تداعى نفر من الأنصار مستنجدين : يا للأنصار، وصاح آخرون يا للمهاجرين ، فقال النبي الأكرم : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!... أليست هذه الدعاوى الطويلة العريضة التي يطالعنا بها الإعلام من الجاهلية النتنة.. والفتنة النائمة المدان من أيقظها كما في حديث الرسول الأكرم ( ص)، وكان حريا بنا أن نراعي حق أخوة الدين وقرابة القوم متمثلين قول الشاعر الجاهلي ناسخين منه المعنى الذي يخدم قضيتنا، وذلك أضعف الإيمان :
قومي هم غلبوا أميم أخي == فإذا شتمت يصيبني شتمي
فلئن عفوت لأعفون جللا == ولئن سطوت لأوهنن عظمي.
à وَالَّذِي تَوَلَّى كِبرَهُ...
الذي تولى كبر ذلك الشحن ( الكروي )، وروج له بشكل أرعن ولافت هو الإعلام الذي كان عليه
أن يُلجم، ولا نتصور أن إعلاما ما يمكن أن ينجر إلى ما انجر إليه، خاصة في دولة عربية إن لم يجد الضوء الأخضر، فنحن نعهده لبيبا وبالإشارة يفهم ما ينبغي له عمله، فهو لا يسمح لنفسه بالخروج عن النص، لأنني شخصيا لا أؤمن بحرية إعلام تحت الأحكام العرفية التي يكون فيها المواطن متهما حتى تثبت براءته، وكان حريا بمتورطة الإعلام الجاني على نفسه وعلى غيره أن يذكر الآيات الكريمات:
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( النور 11)، وقوله تعالى: ( ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ).( النور 16)
وقوله تعالى( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) (النور 15)
وليس هناك ما هو أعظم عذابا من العمى الذي أصاب الإعلام المأجور فراح يخبط على غير هدى كالمحتطب بليل دامس لا يدري أيدوس أفعى أم يلامس عقربا، ونعني هنا ما يسمى بالإعلام الثقيل الذي أعتبره السلطة الأولى في أي بلد كما هو مشاهد. ربما كان سلطة رابعة يوم كانت الجرائد والمذاييع، أما اليوم هو أول بامتياز، وهنا لا بد من أداء شهادة مفادها أن الإعلام المصري الموجه كان ثقيل الدم، سمج الروح، ولا مجال لمقارنته بالإعلام الجزائري أو غيره ـ باستثناء الظاهرة القطرية ـ فهو يمتلك أسطولا ضخما من القنوات بل يمتلك قمرا صناعيا بحاله، أما الإعلام الجزائري الثقيل الذي تملكه الحكومة والمعروف في جرائدنا " باليتيمة " لانعدام المنافس الذي يقدم توجها مغايرا مستقلا عن وجهة نظر الحكومة، فما كان منه إلا أن لاذ بالصمت، فاتهم القائمون عليه بالتقصير في الرد على الهجمة الإعلامية المصرية، فقد أرادوها هجمة بهجمة والبادئ أظلم، واعْتُبر سكوته علامة من علامات الرضا، والتسليم بالأمر الواقع، وأثنى آخرون على موقف القائمين على قراره بأنهم يطبقون حكمة القائل :
إذا ابتليت بشخص لا خلاق له = فكن كأنك لم تسمع ولم يقل.
وإن توسط من توسط ورأى أنه لا ينسب لساكت قول فضلا عن موقف.
لقد أسهمت تلك القنوات المصرية المعروفة بتنمرها على الشقيق فقط بشكل ظاهر وغير عقلائي في تولي كبر هذه الفتنة لا من جانب تحشيد الرأي الغوغائي في الشقيقة مصر لوحدها ، بل ولد ردة فعل عندنا في الجزائر أيضا ذلك أن قطاعات جماهيرية واسعة عندنا تولي الهوائيات شطر خدمة النايل سات وتتابع القنوات المصرية، وتسمع ما كان يطبخ ويلقى من قدح وطعن وغمز وهمز ، وربما تصور القائمون على هذه المهزلة، أنهم يخاطبون الداخل المصري فقط، ففاتهم أن يضعوا في الحسبان أنهم مسمعون ومشاهدون من إخوان لهم في الدين والطين والجغرافية، وكان حريا بهم أن يقدروا مشاعر من هم في الغرفة الأخرى من البيت العربي، تطبيقا لشعارهم ( البيت بيتك )، ويحترموا جمهورهم، ويحفظوا لتلك الأخوة مقامها، ولكن مع كل أسف من يعجز في أن يعلو لا يعجز أن يسفل.
لا أفهم كيف يسب شعب بأكمله ؟ وينتقص من أقدار أحيائه وأمواته، ويتهم بالزور والبطلان بما لم يقله مالك في الخمر ، فهل هذه ـ والحال على ما نعرف ـ منابر إعلامية أم دكاكين وبقالات للاسترزاق الرخيص، ودق إسفين النعرات الجاهلية والعصبية المقيتة بين الشعب الواحد ولا أقول الشعبين إلا من باب الموقعية الجغرافية، وللشهادة أيضا أقول : لقد كنت أسمع ما يدور من أحاديث في الشارع الجزائري عندنا ، وما يتناقل من تحامل منكر ونكير بين الناس، ولم أرى منهم من يذكر ما قالت الجريدة الفلانية أو العلانية ، وإنما يتحدث هؤلاء وأولئك عما كان يبث ويقال من على تلك القنوات المصرية الجارحة، على رأي من قال : وجرح اللسان كجرح اليد.
إنها كانت تعرب بممارستها تلك عن مستوى يبعد بها عن الرياضة وروحها وتحليلاتها، ويطعن بالتالي في مهنيتها واحترافيتها المشكوك فيها أصلا، ولكن لا علينا فكل إناء بما فيه ينضح، ولهذا قيل :
وزن الكلام إن نطقت به == فإنما يزين المرء المنطق.
وبمفهوم المخالفة فما يشينه أيضا المنطق.
ولقد خلصت في النهاية إلى أن الناس لا تقرأ، ـ خاصة مع الأمية المتفشية في عالمنا العربي ما شاء الله عليه ـ وإنما تشاهد وتسمع فقد صار أمر تلك القنوات وجوارحها المستأسدة حديث العام والخاص ـ والتي لم تكن مؤهلة أخلاقيا، ولا مقدرة للأمر وعواقبه ـ ، فاهتم للأمر واغتم له حتى من لم تكن الكرة تعنيه، وربما دفعه دافع الفضول لمعرفة " معزتنا " عند أهلنا في مصر ، وإن كنت أقطع بأن تلك الشرذمة القليلة الغائظة لا تمثل مصر التي نعرف، بل هم عرض للمرض العام الذي أناخ بمصر هاته الأيام وجعلها في محور الاعتلال فنسأل الله السلامة لمصر عبد الناصر ، مصر التي أممت قناة السويس، وبنت السد العالي، وتعرضت للعدوان الثلاثي لموقفها الناصر للجزائر وثورة الجزائر، وقضايا التحرر في العالم، مصر محمد عبده والغزالي وعبد الحميد كشك.
حائــــط ومبكى
ربما تحرك ذلك الكومندوس الإعلامي بإيعاز من جهات مشبوهة للقيام بمهمة خاصة، تقضي : بالعمل على امتصاص غضب الجماهير التي ما صدقت أن وجدت عرسا ـ ولو وهميا ـ تفرح فيه، فلما تحولت تلك الفرحة إلى نكسة في " أم درمان " السودانية خاصة بعد أن تجدد الأمل وانتعش في مباراة القاهرة، سعى ذلك الفريق إلى مجاراة عامة الجماهير قصد امتصاص غضبها ، فتحولت الجزائر بالكلية وعلى وجه التعميم إلى حائط مبكى، بعد أن انتهت الأمور إلى النهاية المعروفة، حيث تأهلت الجزائر إلى المونديال وممثلة وحيدة لشقيقاتها العربيات ومنهم الشقيقة الكبرى، وأريد للمشجع المصري المستفز إعلاميا، بالبكاء أمام حائط المبكى ( الجزائر )، فكل ذلك السباب والشتم يجب حمله على المجاز لا الحقيقة فقد أريد به ـ كما أشرنا ـ أن يكون إسفنحة لامتصاص غضب الجمهور المستنفر اقتصاديا، الناقم سياسيا، وهكذا إن لم يتم التحايل عليه قد يتحول إلى طوفان أشبه بطوفان موسى الذي هلك فيه فرعون. إذن ما حدث هو عمل من أعمال السحر الذي يمارسه الإعلام العربي بشكل عام، وقد رأينا هذا في الإعلام اليتيم عندنا في الجزائر حيث حولت الهزيمة إلى نصر وتم الاعتذار لها بأسباب واهية، وتساءل البعض هل لفريق يتلقى في دورة 10 أهداف في شباكه أن يحتفل به ؟ وأريد بهذا أيضا التحايل على الغضب الجماهيري الكروي، وتحويله إلى عرس كروي وتم اختزال دورة بكاملها في مؤامرة لحكم، وهكذا جاء الدور عندنا على الحكم البنيني ليتحول إلى حائط مبكى... وهكذا لم نعد نفرق بين النصر والهزيمة، بين الإخفاق والفوز ، ولا بين جدنا وهزلنا، فالمساواة الحادة بين التناقضات والمفارقات ماركة مسجلة عربية لأن عالمنا العربي أمسى فيه كل الصف خارج الصف.
à الفعل وردة الفعل
إذا كانت قوانين الطبيعة تقول كل فعل يقابله ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، فأكاد أجزم أن قطاعا من الإعلام المصري الثقيل بالأوزار عمل في الاتجاهين، وأثار حفيظة الغيورين على كرامة الأمة والمتطلعين لعزها، ـ عربا وعجما ـ وأغضبهم وأثارهم مثل ذلك التحامل غير المبرر، والذي حاول بعضهم تبريره بما كتبت جريدة هنا أو هناك مع علمهم بأن الجريدة مهما علا سقف الأقلام التي تكتب فيها تبقى أقل مقروئية مقارنة بما ينقل ويبث على الشاشة المقمرة ( القمر الصناعي ) والتي أدت دور الفعل ونقيضه، فأفسدت الأجواء في الدارين، وكادت تقطع حبال الوصال بين الرحمين.
لقد استقبلت بعثة الفريق المصري الكروية في الجزائر بالورد تعبيرا عن الود، وأعطوا لكل لاعب هدية، تعبيرا عن المحبة وأقام معهم الفريق الجزائري في ذات الفندق بالجزائر، ولما هبطوا مصر المحروسة لم يهبطوها آمنين ، وإنما قذفوا بالحجارة، وشجت رؤوسهم، والأدهى والأمر أن يقال هم من افتعل الحادثة وكسر زجاج الحافلة، واستباح بعضهم تكسير رأس بعض، وكان بإمكان الموقف الرسمي في مصر أن يلتف على الأمر ويحتويه حتى لا يتطاير شرره، وتظن به الظنون، وينتهي النهاية التي انتهاها، كأن يشاع في الناس أن شرذمة قليلة من الغوغائيين هم من تورط في هذه المشأمة التي لا تليق بضيوف مصر، ولا بالمكانة والمنزلة، وقد تم ضبطهم وسيتم التعامل معهم وفق الأطر القانونية، وللإشارة فقد تم عرضهم على أخصائي نفسي فأثبت أنهم مختلون عقليا وقد تم إخلاء سبيلهم لذات السبب.
لو قيل هذا ولو من باب الضحك على الذقون والمداراة لهضمنا الأمر، ومررناه على علاته أما أن يقال هم من صنع بنفسه ما نعلم فهذا اعتذار أقبح من ذنب، خاصة ونحن نعلم أن غالبية الفريق الوطني الجزائري لا يحملون نفس الذهنية والعقلية التي نتسالم عليها نحن أبناء العالم الثالث، فهم يحملون عقلية أوربية على رأي ابن خلدون عند حديثه عن الناشئين من الأعاجم في البيئة العربية : اعتبرهم عربا من حيث المنشأ والمربى. فهم أيضا ولدوا ونشأوا وتربوا بأوربا، ويكفي أن نعرف أن غالبيتهم لا يعرفون العربية أصلا.
ولقد خشيت أيضا على قافلة شريان الحياة التي عومل رجالاتها بتكسير رؤوسهم على الطريقة التي تم التعامل بها مع البعثة الجزائرية أن يقال هم من دبر هذه المكيدة وأن " جورج غلاوي "، وجماعته هم قام بهذه المسرحية، وأفتاهم بجواز شج بعضهم رأس بعض لأجل إحراج النظام المصري، كما أننا لا ندري ولا إخالنا ندري هل هذا أسلوب مصري مستحدث في التعامل مع ضيوف المحروسة؟. وربما لا يرقى عجبنا ودهشتنا إلى مستوى عجب ودهشة بعض أوربيي القافلة ممن كانت تلك مرتهم الأولى التي ينزلون فيها دولة عربية ويكتشفون أسلوب المعاملة العربية الرسمية وكرمها الحاتمي.
à عندما يهوي الرأس مهوى القدم
ما بين موضع الرأس، والقدم في الجسم مسافة، وكان حريا أن تبقى اللعبة في حدود القدم، وأن تحترم تلك المسافة الفاصلة بين الإعلاء والإدناء، أما أن ننزل الرأس منزل القدم، أو نرفع القدم إلى مستوى الرأس، فتلك مهزلة حين عادت أقدامنا تلعب برؤوسنا وتطوح بها ذات اليمين وذات الشمال، وفي ذلك ما فيه من قلب للأوضاع المغلوطة البائسة في مجتمعات " عربستان "، وهكذا نكون قد أثبتنا للقاصي والداني أننا أمة جدها هزلها، وهزلها جدها . ورحم الله المتنبي الذي يكون قد تنبأ لحالتنا هاته بقوله :
عَـلَى قَـدْرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ = وتَــأتِي عَـلَى قَـدْرِ الكِـرامِ المَكـارِمُ
وتَعظُـمُ فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها = وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ
فهل خاب الرجا فينا وعادت عدتنا الكبرى في الحياة العربية كرة قدم نستعيض بها عما نتغنى به من شعارات التاريخ والوحدة العربية والمصير المشترك، ثم لا تصمد هاته الشعارات أمام لعبة، مما يعني أنها بغير رصيد عملي على الأرض ...، فهل أنكرنا أنفسنا أم نكرتنا الأنفس والمبادئ والقيم التي نسوقها لجماهيرنا المستغفلة، وهل هَزُلنا إلى حد بدت معه كِلانا، وطمع فينا المفلس، ومن لا يدفع عن نفسه.
الظاهر أننا استسمنا ذا ورم، في غيبة الحقائق الكبرى التي يشاد عليها صرح الأمم العظيمة حين راهنّا على القدم لا الرأس لنتخذه مشروعا إستراتيجيا تنخرط فيه الأمة " الغلبانة " شيبها وشبابها، ذكورها وإناثها فعادت تلك الكرة أفيونا للشعوب المخدرة عن تبعات التخلف والفقر وضعف التنمية، وفقد فرص عمل للشباب، وضعف الخدمات الصحية ومحاربة البطالة وتوفير السكن والزوج لشبابنا، والتصدي للفساد المالي الذي ينخر مجتمعاتنا ويجعلها في مؤخرة قوافل التقريرات السنوية لمنظمات الشفافية العالمية.
ولقد تلعب البرازيل مع أمريكا وتنهزم ، ولكن هذا لا يجعل البرازيل دولة في مصف أمريكا ، ويبقى الكبير كبيرا والصغير صغيرا.، وهل حلت البرازيل كل مشاكلها العالقة منذ عقود بعد أن استثمرت في الكرة واعتبرتها الماء والغذاء والهواء الذي يتنفسه المواطن البرازيلي، إن حالنا العربي أشبه بذلك العاري الحفيان الذي قيل له ما ينقصك في الحياة. فقال : خاتما.
à لم يكرهوننا ؟ !
لا ندري أي شيطان أهوج قذف في روع من أشاع هذه الحدّوثة أن مصر مكروهة من العرب، وهذه ضلالة إعلامية عمياء يراد تمريرها لاستغفالنا بها حتى يبرر على ضوئها لمصر كي تعمل بقول القائل : " ففي الناس إبدال، وفي الترك راحة ".
والناس البدلاء هنا معروفون إنهم أناس إسرائيل ومن ورائهم مشروع الهيمنة الغربي الذي يريد لمصر أن تنخرط فيه تحت قيادة آل صهيون، والترك معروف ترك العرب وشأنهم وامتحانهم بفقد شقيقتهم الكبرى، مع ضعف حالهم التي هي شبيهة بحال الشاة القاصية في الليلة الشاتية، وما أكثر الذئاب التي تشتهي لحمها ، وتتسارع لتخطفها وتهوي بها في مكان سحيق.
لا أحد يكره مصر لأنه هوايته أن يكره على المزاج، ولا أحد يزايد عليها فكلنا في الهم شرق، وشعارنا الجامع: انج سعد فقد هلك سعيد
لربما نستشف من طرح السؤال على هذا النحو نوعا من الإحساس بالذنب ووخز الضمير ، وهي حالة نفسية يستشعرها المرء حال التجاوز في حق الآخرين، إننا ـ يا سادة ـ لا نكره مصر لذاتها، فالأصل عندنا هو الحب، فقط نكره في مصر ما نكره من أنفسنا، وما يكرهه المصري الأبي من نفسه بحكم الثقافة والخلق الكريم ، وما أكثر من ينتقد مصر الرسمية من المصريين أنفسهم ؟ . إننا نكره في مصرنا ـ بدافع الحب ـ عقدة الخواجة والتعالي لأننا نحبها متواضعة في غير ذل ـ خاصة مع أخواتها العربيات ـ ومترفعة في غير كبر ، نحبها قائدة ونكره أن نراها منقادة تابعة خانعة.
وإن ننسى فلن ننسى موقفها من قطر في الحرب الإسرائيلية الظالمة على غزة، حين استكثروا عليها ذلك الموقف العربي الهاشمي ، وسعيها إلى لملمة الشتيت العربي على الأقل في وقت الشدة، لأن المصائب تجمعن المصابين، واتهمهوها ـ إن كانت تلك تهمة ـ بأنها تريد أن تلعب دورا أكبر من حجمها الإقليمي والدولي، ومن لا يريد أن يتقدم فلا ينكر على الآخرين تقدمهم، مادام التأخر عن المبادرة كان خياره.
إننا نؤرخ لنهضتنا بالحملة النابليونية على مصر، وسعي محمد علي إلى النهوض بالبلد نهضة لامست جملة جوانب الحياة المصرية ، إلا أنها فلتة لم يقدر لها أن تمضي لغاياتها، أو أن تشق الطريق إلى نهايته، وكم تمنينا أن مصر اليوم تفاخرنا نحن العرب بثقافة حقوق الإنسان، والرفاه الاقتصادي، والتنمية البشرية، وشيوع الحرية، والديمقراطية السياسية، والتداول على السلطة، وسيادة القانون حيث الرئيس والبئيس على حد السواء على غرار الدول التي أراد الله بها خيرا في الغرب المتحضر، حينها فقط يحق لها أن تتيه فخرا، وحينها نتخذها القدوة والأسوة ، ولكنها مع كل أسف استقالت من لعب دورها الإقليمي والعربي والإسلامي.
إننا ننظر إلى مصر الرسمية اليوم فلا نجدها تختلف عن أية دولة عربية أخرى، وكان المظنون بها أكثر وأكثر، ولكن وضعها اليوم وضع ظالم ، مضعف لها، الأمر الذي جعلها لا تتصرف وفق المكانة والمنزلة، وربما نقم عليها البعض ذلك كله ولكنها نقمة الغيور المحب الذي لا يرض لها أن تكون عرابا للإمبريالية العالمية التي خرجت من الباب، ويراد لها العودة من الحديقة الخلفية، وإلا ما معنى أن يحاصر شعب أعزل في غزة لا حول له ولا طول حصار قريش لبني هاشم مع الفارق أن بني هاشم وجد في الجمع القرشي من تأخذه الغيرة وينتفض على الحصار القرشي الظالم، وما معنى أن تدمر مصر أنفاق الحياة للمستضعفين من بني جلدتهم، وجورتهم، ودينهم، وما معنى أن تمعن مصر في الإحصار فتبني النفق الفولاذي لوضع الفلسطينيين في سجن كبير لا يضاهيه إلا جدار العار الإسرائيلي... لعل في هذا الموقف ما يبرر نزعة الغيظ والوجد في الأنفس على مصر التي لم نهضم أن نراها على الحال التي هي عليها، الحال التي لا تسر الصديق بل تحزنه وتجعله يقسو على أخيه قسوة الأسيف الشفيق المتحسر، ومع هذا كله فالفجر من رحم الظلماء مسراه.
إننا نحلم بيوم يقدر فيه لمصر أن تنهج أساليب الدول المتحضرة في الحكم السديد والرشيد، حيث يتاح للشعب أن يقرر مصيره بنفسه، وترفع عنه الوصاية لتكون ولاية الأمة على نفسها تختار من تريد، وتعزل من تريد، وتحاسب وتعاقب، وتقدم وتؤخر، وتتوزع السلطة فيها على مؤسسات الأمة الممثلة لها بانتخابات حرة نزيهة نظيفة مما يمكنها من استقلالية قرارها، وعقارها .. وتُحترم حريتها في اتخاذ مواقفها تبعا للقانون الذي لا يفرق بين كبير وصغير، غني وفقير... حينها ستنهض الأمة وستقتدي جميع الدول العربية بمصر فمنزلتها حينها ستكون أشبه بمنزلة قريش من قبائل العرب فكلهم لأمرها تبع حرب على من حاربها، وسلم لمن سالمها.
à المفارقة : دعوى فرعونية وجباه ساجدة
قد لا يهضم المرء ما معنى التعلق بالعصبية الوثنية والنسبة لها، فيكفي أن نذكّر مدعيها
وحاملي يافطاتها بما أخبر عنه رب العزة بقوله عن فرعون أنه : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد) [هود: 97 ] وقوله تعالى ( فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) [غافر:46] وقوله في ذم الفراعنة : بأنهم ( طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ). [سورة الفجر : 10] .، وفي الحديث الشريف : ( المرء مع من أحب ).
فمتى كان الفراعنة قدوة ونموذجا بمقياس القرآن والقيم والمبادئ الرسالية التي جاءت لتنسخ الأوهام الوثنية وثقافتها، وما ذا سنقول لو جاءنا اليوم شخص يفتخر بأبي لهب بالاعتبار العروبي ألا يكون في دعواه تلك متجنيا على الموقف الق�
ساحة النقاش