( المقالـــــــــــــــة)

 

الإفساد الثقافي لذات البين وحالقة الدين:

       أزمة حوار أم حوار أزمة ؟ !

د. زغوان أمحمد*

 

جلسا والخوف بعينيهما، يتجاذبان خربطة من المفاهيم زُجّ بها زجا عشوائيا في هذا المجلس

الحواري الضارب مرة على الحافر، وأخرى على المسمار، وما كاد باب الحوار والنقاش ينفتح حتى أغلق بصلافة وعنف فكل طرف ما كان عنده استعداد ليسمع الطرف الآخرـ وهما من نفس الفصيل الطائفي ـ فقد سعى المحاور الأول من جهته إلى توثين الثاني وتشريكه وتبديعه وتصفيته دينيا، فما كان من الثاني إلا أن كر على محاوره كجلمود صخر حطه السيل من تلة مكيلا له التهم مرة وأخرى مشيطنا له هو وطريقته، ومن على شاكلته من أتباع  جماعته، والتمس كل منهما بعزة نفس آثمة نقولا متضاربة وتجريحات لهذا العالم أو ذاك، من الشيخ الفلاني للعلاني من زمن الجيلاني إلى الألباني، وتعالى الصوت الغاضب، وتردد النفس الحانق، وانفض الجمع وفي الحلق شجا، وفي القلب جفا من بعد ما أسمع كل منهما صاحبه ما لم يُسمَع عن مالك في الخمر، ومن بعد أن نزغ الشيطان بينهما فهرفا بما عرفا وما لم يعرفا من الأحكام المغلظة الجاهزة والجدليات العقيمة فاقدة الصلاحية.

·        الحوار لا يفسد للود قضية

أسررت العبارة في نفسي ولم أبدها لهما عاجبا، فالمقام لا يحتمل دروسا، إذ ليس بالإمكان

أبدع مما شان، وللعبرة نشهد على أن الحوار عندما يتحول إلى خصومة ورعونة لا يفسد الود بين المتوادين فقط ، وإنما يقتل القضية، ويلحق الأذيّة، وكيف يرجى من الحوار نجاحا ؟  وهذه نماذجه الشائهة المهدودة مشحونة ذهنياتها بنزعة الغلبة للآخرين، وغريزة الانتصارعليهم ولو بالتأفك والاختلاق كحال جمهورنا الرياضي العربي في تمسكه بالنصرة لفريقه مهما كان ضعيفا، وسيئا في أدائه. وربما قذف في قلب كل متحاور أنه الوصي الأمين على الحق ، وأنه وحده لا شريك له من يملك حق التحدث باسمه.. وتبا وسحقا لمن يقدم بين يديه معقبا أو مناقشا.

يروى عن الشافعي ( رح ) قوله : " ما جادلت أحدا إلا تمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه " ، وكأني بالشافعي يعين بنفسه محاوره ليكتشف الأخير الحق بنفسه، دون إشعار له بالتفوق عليه، وإحراجه بمشاعر التعالم والتعالي... حتى يثمر الحوار روح التواضع ويظلل صفوته بقطوف دانية من الثقة والتفاهم دون حظر على الآخرين واحتكار لما يزعم صوابه وأحقيته، فالقصد من الحوار البحث على النقاط المضيئة في رأي المحاور للإفادة منها، والتأسيس للأرضية المشتركة التي تعين على الخلوص بمعيته إلى نتيجة مرضية يخنس معها حظ النفس وحظ الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس، وإلا لِمَ كان الحوار أصلا ولِمَ الناس مختلفون ؟ ! ، وما الفائدة من إيغار صدر المحاور الذي يفترض ـ ابتداء ـ أنه شريكنا في البحث عن الحق والحقيقة ؟ !.

ألم يعتبر الغزالي ( 505 هـ ) الباحث عن الحق بمنزلة من أضاع شيئا، لا يضيره أن يجده بنفسه، أو يظهر على يد غيره ؟ ! ثم ما السر وراء هذه العدائية المرضية ؟ ! غير التنفيس عن المكبوتات والعقد النفسية فالناس هم الناس منذ نشأت الخليقة  فيهم الأمير والخفير، الغني والفقير، الكريم والبخيل، المؤمن والملحد، العادل والظالم... فهم كفصول السنة فيها الخريف والشتاء، والربيع والصيف، ولكل فصل مذاقه وطعمه وجوه ووفق حكمة عليا فطر الله هذا، وخلق ذاك. سئل أحد الفلاسفة : ما مراد الله من خلقه ؟ فأجاب : ما هم عليه. وقال تعالى جده لرسوله الكريم ( صلم )  : } ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين { (1) .

إن الحوار سلوك إنساني وحضاري: إنساني لأن الغالب على الحيوان تصفية خلافه مع الآخر بالمخلب والناب، وهو في ذلك غير ملوم لأنه على طبيعته وسجيته، والشيء من معدنه لا يستغرب، بل يستغرب الاستغراب والإنسان إذا جعل الحيوان الأدنى منه نموذجه ومثاله يكون في سياق تلك اللحظة صنوه في مفاعلة الجانب السبعي والبهيمي المنضمر فيه بأصل الخلقة، وتنازل إرادي منه عما هو إنساني قيمي إلى ما هو غريزي.

وهو حضاري كون الإنسان لما ارتقى في سلم الحضارة اهتدى بوحي من عقلائيته ونبراس الكتب السماوية للحوار كقيمة عليا للطريقة الأنجع في تصريف خلافاته، وحل أزماته مع من يقاسمه الكوكب والإنسانية دون مبرر للسعي في فرض الفكر بالترهيب والتشغيب والتقديح، وفي المثل : " تستطيع أن تأخذ حصانك إلى مورد الشرب، ولكن لن ترغمه على أن يشرب ''.

قال تعالى : }لست عليهم بمسيطر { (2). فليس من الدين فرض الأفكار بالسيطرة، وإن كان تاريخ الأمم والأفراد كثيرا ما تنازعته أفكار السيطرة، وأطّرته روح الاستحواذ والطغيان في مقابل أفكار الدعوة للتحرر من الوصاية والقصور... وسر خلود كل فكرة نبيلة مرتبط بموقعيتها .

إن نجاحك مرهون بقدرتك على أن تكون مقنعا بأفكارك وبمنهجك وبأسلوبك، وحينها يغدو أسلوبك في التعامل مع المحاور جزءا من الغاية السامية التي تتغياها، أما إثارة المحاور وإغاظته فبضاعة مزجاة في متناول حتى الفاشلين لأن من عجز أن يعلو لا يعجز أن يسفل، وما أكثر ما تقتل طريقة عرض الحقائق ومناقشتها الدرر الكامنة في تلك الحقائق ،  وتتحول إلى بلاء ماحق لها، ولبركتها وتكون القضية هي الضحية الأولى في هكذا حوار، وما أضيع القضايا العادلة حين يتصدى لها المحامون الفاشلون ! .

 

إن الحوار قيمة مهيضة الجناح بيننا لأن ما يشاع في الساحة الإسلامية خاصة بين محدودي

الثقافة وقليلي البضاعة العلمية ـ هذا مع افتراض سلامة المقصد ـ ممن يتكلفون القضايا الأكبر منهم ـ أو كما سماها الإبراهيمي القضايا ذوات الذنب ـ بعقلية أبيض وأسود، وبالمنطق البوشي ( بوش ) من ليس معي فهو ضدي هم بالواقع أشبه بالبوق ينسب الصوت له وهو من غيره.

                             فكل من صاح بالنبوة فينا ** قام أوس وخزرج ينصرونه

 إن هناك قطاعا من أهل المشيخة، والزعامات المذهبية من الذين ابتليت بهم الحركة الإسلامية لا يتورعون في تعبئة الشباب، وشحنه بثقافة الحقد الأسود على من يخالفهم الرأي ولذا تجد الشاب ممن غسل دماغه وحشي بالمفارقات والتناقضات ضائق النفس بمن لا يقاسمه مذهبه، ولا يشاطره وجهة نظره في غيره، لأنك قد ترى وجهة النظر تلك قاسية أو لا تستحق كل ذلك الاهتمام، ولا تساوي ما يستهلك فيها من الوقت والجهد ، أو أنها لا أخلاقية بالمرة كونها لا ترعى للناس قداسة ، ولا تقيم لخصوصياتهم اعتبار ، ولا لقناعاتهم حرمة ، وتحشر أنفها في ما هو من اختصاص الله المحض لأنها أحكام غيبية لها علاقة بعالم الغيب لا الشهادة.

ومن يطالع صفحات الأنترنيت ويرى ما يسوّد على صفحاتها من تراهات وتحاملات لهذا

الطرف على ذاك أو العكس يُملأ رعبا ويولي فرارا لما يصيبه من إحباط وخيبة أمل، وكيف أننا عاجزون عن الجلوس مع بعضنا لنتحاور بأسلوب أخلاقي وإيجابي بدل أن يغني كل منا على ليلاه ويعزف اللحن الذي يهواه تصديقا لظن الشاعر فينا :  

                  فتفرقوا شيعا وكل قبيلة  **  فيها أمير المؤمنين ومنبر

          أفهم أن نختلف ولكل قناعاته وطريقته في تعقل الحقائق، ولكن ما لم أفهمه أن يزيد الإنسان من عنده لأن التناطح والاحتقان لا يقول أحد أنهما من الحوار في شيء، إنهما تعبير عن فقد الحجة، وقلة الحيلة.

·        الحوار أسير الماضي وأغلاله

نتصور أن تقلص مساحة الحوار وانحسار ظلاله عدوى سرى مفعولها من الماضي وتوارثتها أجيال الأمة دون أن تسارع أجيالها المتعاقبة إلى تحجيم الظاهرة ومحاصرتها فكريا قصد إيجاد أريحية الحوار العلمي ، ونفَس القبول بالآخر في الثقافة، وسبحان الله حتى مادة اللفظة اشتملت على الإدانة والتقبيح من جميع أطرافها، فحروفها من :  الـ ( أُ. خْ. ر )، وربما كرست عهود التراجع والانحسار التي مرت بها الأمة هذه العقلية الأحادية المتصلبة التي هي بالواقع امتداد للأحادية السياسية التي لا تزال هي الطاغية في العالم العربي وإن تحول العالم من حولنا، ويكفي في التمثيل لما كان يحدث ما يروى من أمر الطبري ( ت 310 هـ ) حين ساقه حظه العاثر إلى تأليف مؤلفه " اختلاف الفقهاء " ، ويشير إلى أنه لا يرى الإمام أحمد ( 240 هـ ) أكثر من محدث وليس فقيها، فثارت ثائرة سابلة ذلك الزمن ودهمائها وتآلبت عليه ـ وأكيد أن ذلك كان بإيعاز من مشيخة الظل ـ ، فلزم بيته ثلاثة أيام حسوما في إقامة جبرية كان يمكن أن تستمر لو أن الله سلّم ، ولما مات دفن بداره ليلا لأن متحرشة العامة ومتحرضتها حالت دون دفنه نهارا.

وربما هذا ما حذر العلامة السبكي من مغبته حين قال : " ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون

وهلك فيه هالكون، وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم باباً في حكم قول العلماء بعضهم في بعض، بدأ فيه بحديث الزبير رضي الله عنه مرفوعاً ( دَبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء… الحديث ). وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : (استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فو الذي نفسي بيده لهم أشدّ تغبراً من التيوس في زُروبها . ) وعن مالك بن دينار قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.

قال العلامة السبكي : إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه: من تعصب مذهبي أو منافسة دنيوية، كما يكون من النظراء، أو غير ذلك. فنقول مثلا: لا يلتفتً إلى كلام ابن ذئب في مالك، وابن معين في الشافعي ، والنسائي في أحمد بن صالح ... ( إلى أن يقول ) : وهذا شيخنا الذهبي رحمه الله تعالى من هذا القبيل، له علم وديانة وعنده على أهل السنة والجماعة تحامل مفرط، فلا يجوز أن يعتمد عليه -أي في طعنه بمن يخالف مذهبه ") 3).

إذن نحن أبناء شرعيون للماضي ننتج أنفسنا في سياقاته مع بعض التحويرات التي يقتضيها

العصر والعالم المحيط بنا. إنه تغير في الظواهر دون الجواهر، وتحايل على الألفاظ  دون المعاني، ومثل هذه التوليفة لن تذهب بنا بعيدا إن لم نعدل ونصلح من واقعنا بصدق مع أنفسنا، وبجد عملي يطرح قضايانا التاريخية العالقة منذ زمن بعيد،  ليكون لنا منها موقف ورأي خاصة وقد انفرط عقد الوصل ومسوغاته بيننا وبين تلك الفترات المرتبكة من التاريخ، فما من أمة إلا ولها من  تاريخها نقاط سود للعبرة، وأخرى بيض للقدوة، وربما حلا للبعض تحت ضغط الواقع مجانبة ذلك كله والتزام الحيدة والاعتزال رجاء العافية مثلما يورد صاحب الكشاف في تفسيره:

" إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به *** وأكتمــــــه كتمانـــــه لي أســـلم
      فإن حنفيا قلت قالوا بأننـــــــي *** أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
      وأن مالكيا قلت قالوا بأنني  *** أبيح لهم لحم الكلاب وهم هـــــم
      وإن شافعيا قلت قالوا بأننــي ***   أبيح نكاح البنت و البنت تحـــــرم
     وأن حنبليا قلت قالوا بأننـــي *** ثقيل حلولي بغيض مجســـــــــــم

            وإن قلت من أهل الحديث وحزبه  *** يقولون تيس ليس يدري ويفهم

            تعجبت من هذا الزمان وأهله *** فما من أحد من ألسن الناس يسلم " (4) .

مثل هذه الثقافة المتوارثة من عصور فقر الفكرة، ولوثة الصدام، وروح الاندفاع يحرص

البعض بدافع سياسوي إلى إعادة استنباتها في تربتنا الثقافية، وفي حلقات الدرس، ومجالس التعالم المغشوش بعد أن ذاق المسلمون المر من ويلاتها، وبعد أن سفك الدم الحرام باسمها، وخربت البيوت من جرائها، ولا يزال أحفاد هذه الثقافة وأبناؤها في عالمنا الإسلامي يدفّعون مجتمعاتهم مغارمها الفادحة من مهجهم الهالكة بغير حق، ومن مساجدهم المفجرة، ومن أموالهم المنهوبة، وأراضيهم السليبة ... والله المستعان.

حدث كل هذا عندما حكّم أصحاب الحزبيات المذهبية الرجال في دين الله، وصاروا ينسبون إلى

شخص القداسة والعصمة التي لم يدعيها أحد من العلماء الأعلام لنفسه، ولم تكن تلك النسبة تعني ـ بالواقع ـ عند أصحاب  المذاهب ومعاصريهم أكثر من الفروق الكائنة بين مدرسة، ومدرسة ومنهج ومنهج ، ولكن حولها الأتباع فيما بعد ـ متأثرين بعصور الانحطاط ـ إلى دين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وانظر إلى رجالات الحكمة الإنسانية وعلوم الطبيعيات في تاريخنا مثل ابن سينا، وابن رشد، والفاربي، وجابر بن حيان، وغيرهم ممن عاشوا المنفى والاغتراب بين بني جلدتهم والناطقين بألسنتهم، فاكتووا بنار التضليل والتبديع، والاتهام في عقائدهم، وهم من أنتجهم النسق العالمي، وخلد مآثرهم وإنجازاتهم، إلا أن ثقافة الاستعراب حولتهم إلى متهمين.

يقول الصّفدي : " إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدرية ( لعله يعني جبرية )، والغالب في الحنابلة حشوية " (5)

إن هذه المقبوسة يوردها أحمد أمين في الباب الرابع في العقائد والمذاهب الدينية في العصر

العباسي، ولنؤشر تحت النحو الذي كانت تتعقل به القضايا، وكأن الأمة ظلت بدون عقيدة تنتظر مجيء علماء بأعيانهم من العصر العباسي لينظّروا لعقيدتها، ويشترطوا لها شرائطها، وصارت للناس عقائد بعد أن لم تكن، وما حكم من بادوا قبل عصر المذاهب هذا ورجالات الجدل الكلامي ؟ .

الظاهر أن لفظة العقيدة هي من اصطلاحات الفرق الكلامية كالمعتزلة، أما المسلمون فقد

عرفوا قبل هذا التاريخ ـ أي زمن الرسالة ونموذج الكمال الرسالي النبوي ـ الإسلام وقواعده، والإيمان وأركانه، وهي أركان معروفة للعام والخاص يدين بها كل المسلمين مهما تناءت بهم الدار، وساءت علاقات الجوار بفعل عقود التراجع فيما تأخر من الزمن .

·        إذا نصر الهوى بطل الرأي

إن كل طعن نشأ عن عصبية مذهبية أو اختلافات اجتهادية أو منافسة بين الأفراد لا اعتبار

له, أليس من أسباب فقدان الأندلس وانفلات أمرها من بين أيدينا انخراط الأمة بأسرها في مشروعات الطائفية والمذهبية المقيتة ؟ ! حتى كان من أمرها ما كان.. والتي كانت على الدوام نقطة ضعف الأمة والسلاح  الفاتك بيد أعدائها توظفها بإحكام لتسميم الثقافة ، وتسويقها كبدائل عن مشروع الأمة ، ولم ينفعنا التحذير القرآني من مغبة ذلك بل على العكس وجدنا من ينظّر للافتراق ويدعو له بحماسة مراهقة متجاهلا قوله تعالى }ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (6) {.

هل قدرنا أن نبقى طوال الوقت نتنازع ونهدر قيمة الحوار ؟ ! ونرتب على ذلك كله فشلا مريعا على أكثر من مستوى بدءا بالسياسة ، ومرورا بالاقتصاد، وتعريجا على التعليم وليس انتهاء بالكرة .. إنها ظلمات من الفشل بعضها فوق بعض.

                         رباه إنا نسير بقفرة *** زاد الهجير بها وقلّ الماء

 إننا نسعى ونحفد لنفشل بامتياز في كل مفصل من مفاصل حياتنا العامة، ونسجل على أنفسنا وفي شباكنا الأهداف تلو الأهداف المقصية لنا من المنافسة التاريخية والدورة الحضارية بابتسامة عريضة، وعيون مفتوحة، ورضا نفس مخيف لا يملك معه المرء إلا أن يحوقل، سائلا الله العافية .

·        بين ثقافة إبليس وثقافة العالم الثالث

يقول ابن فارس العالم اللغوي " ما من عالم إلا وردّ، وردّ عليه "، وهذه حقيقة عملية لأن الخطأ قرين التجربة البشرية، وأن الحقيقة قد تكون ثابتة ولكن تطبيقاتها على الأرض هي المتغيرة لأننا بصدد الحديث عن ممارسة هي ـ بالنهاية ـ بنت بيئتها وظروفها ونسقها الجمعي تحاول أن تزاوج بين النص المعصوم والتجربة البشرية بكل تجلياتها. وإخفاقها أو نجاحها مرتبط بمدى اتساقها وتماهيها مع الحق ومبادئه العليا التي هي منارات هادية من الضلال إلى الرشد، ومن الانحراف إلى الاستقامة، وكذلك شأن الرسول الخالد ( العقل ) فهو وإن كان منحة إلهية لا نقطع بشيء ـ بالواقع العملي ـ دون الرجوع إليه واستشارته، حتى رأى الفقهاء مناط التكليف بالأحكام دائرا على العقل، وأن الله " إذا سلب ما أوهب، رفع ما أوجب " .  ومع ذلك لا يجب أن يفوتنا أن نضع في الحسبان أن طريقة عمل هذا العقل وتقديراته ومقاييسه ومعاييره كلها مكتسبة تتكلس فيه من " عهد التمائم إلى عهد العمائم "، فهو ابن مراكمة لا حصر لها من الخبرات السابقة والتجارب الماضية ولكل تجربة خصوصياتها، فإذا تأكد هذا فمقام العدل يقتضينا أن لا نجعل من أنفسنا مرجعيات للحقيقة المطلقة على طريقة الضال إبليس } أنا خير منه خلقتني من النار وخلقته من طين { (7) فكم كان صاحب هذا الطرح غبيا بمثل هذه المقالة ، والظاهر أنه لو قيل له انتسب يا هذا لما زاد مبلغه من الذكاء أن ينسب لثقافة العالم الثالث في تشييئه القيم والأفكار، ذلك أن قيمة الكائن ليست في المادة المتخلق منها نارا كانت أم طينا، ولو فخر إبليس بعلمه وزهده وتقواها في أوج عطائه قبل أن يبلى بآدم لكان في عرف العاقلين أكثر عقلائية واتزانا في منطقه، ولكنه الجهل وكم في الجهل من ضرر ؟ ! . 

إن الذهاب في القطيعة بعيدا والتخاصم الفاجر بدون معنى بضاعة إبليسية ، وإذا أردنا مخالفة منطق بني إبليس علينا ألا نتظالم فيما هو شركة بيننا، ونتذاكر بيننا مقالة الشيخ الإبراهيمي " فليرتفق بعضنا ببعضنا فيما يزيد فيه بعضنا عن بعضنا "، ومصاديق ذلك أن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما خلا من شيء إلا شأنه كما في مضمون الحديث النبوي الشريف.

يروي الرواة عن عبد الله بن عمر قوله " الاختلاف شر كله " ويحصون له أكثر من مئة مسألة خالف فيها عمر بن الخطاب ( رض )،  وكأن هناك فرقا بين الاختلاف العلمي الذي ليس شرا، والاختلاف الشري الذي تترتب عنه أمور ليست من متعلقات العلم ومطالبه، وإنما بحظوظ  الأنفس المريضة مثل حب الظهور، والغلبة ،والانتصار على الآخر وإلى ما هنالك مما في هذه الوصفة الشيطانية التي لا تقوم على الإخلاص لوجه العلم ، ونشدان الحق، فقد كان لإبليس موقف من بني آدم ولكنه رتب عليه أفعالا لا أخلاقية مثل الحسد والكيد والتآمر، وكان يمكن أن يحتفظ بوجهة نظره تلك من آدم في غير حاجة للإيقاع به، والعيش في أتون الخصومة معه، وكان يمكن أن يراجع نفسه وحساباتها بينه وبين خالقه الرحمان الرحيم في غير إذاية لأحد أو إلحاق شر بمخلوق، ولكنه فكر ثم قدر، فقتل كيف قدر ففتح على نفسه أبواب جهنم، وجرتّ عليه مباذله تلك اللعن إلى يوم يبعثون، وهذا شأن الباطل عندما يفلس رصيده من الأفكار والقيم ويفتقد الحجة فيتحول إلى قنابل موقوتة تفجر ذاتها ومحيطها فتقتل أصحابها، ومنظريها... ولكن ما عسانا نقول وتلك سنة الباطل وبني إبليس منذ الأزل.

إن الشيطان يتسلل عبر البوابة الخلفية للمشاعر والأفكار والأوهام ليمارس سلطانه على معتلي القلوب ومرضى العقول فيتعبدونه بطقوس يمزقون فيها أنفسهم ويفرقون بها جماعتهم، فإذا تأتى له ذلك صيرهم شيعا وأحزابا متلاعنين متشرذمين وحينها يصبح يصول ويجول راكبا أمواج الفرقية في بحر عات من الصراعات والخصومات الكريهة فلا يهتدي المنخرط في هذا العبث الشيطاني إلى بر أمان، ولا ينكشف له ـ والحال هاته ـ ساحل نجاة، فلا تعد تنفعه عبرة، أو تشفع له عظة أمام التاريخ، وبين يدي خالقنا بعد أن جاءنا التحذير والنذير من متابعة خطو الشيطان والسير على خريطة الطريق التي أعلن عنها بين يدي الله منذ بدء الخليقة للإيقاع بالمؤمنين، وتصيدهم.

 قال تعالى  حاكيا عن مشروعه الذي يسوس به ضحاياه فيفرقهم ومن ثم يكونون عبيدا له : }ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ{ (8).

إننا كلمنا سعينا بأفكارنا ومشاعرنا وعواطفنا نحو تمثل مبادئ التوحيد وأخلاقياته كما أُمرنا

كلما اقتربنا من الوحدة، وكلما ابتعدنا عن تلك القيم والأخلاقيات كلما توزعتنا الآلهة، وأنصاف الآلهة، والأهواء وآل أمرنا بآخره إلى التفرق والتشرذم والتوثين... لنجد أنفسنا كثوب الشاعر:

                             فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة *** مشكلة الألوان مختلفات

إن في وحدة المسلمين على مقتضى الأمر الإلهي راحة الشاكرين، وفي تفرقهم عذابات الجاحدين، ولهذا كان دعاة الفرقة والتطاحن والتباغض والتناجش أكثر الناس غما وهما، وأقلهم هدأة بال وطمأنينة ، فلا تقر لهم عين إلا في تتبع العورات ومرافدة الأخطاء ، والسعي لشيطنة الأغيار، والتقليل من أقدارهم ليظهروا وحدهم أنهم هم الناس " وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " .

·        فتوى الشيطان لسيدنا السلطان الحاكم بأمره

سبحان الله استطاع الحاكم المستبد ومن ورائه سدنة الاستكبار العالمي أن يستفيد من هذه الخدمة والثقافة التي يوفرها الشيخ إبليس بدون مقابل فهو يأتي الجماهير من كل تلك الجهات المذكورة في الآية الكريمة، ويقوي طرفا على حساب آخر حتى يضعف الجميع، ثم ينتقل في ذات الوقت لموقع إضعاف وتقوية آخر ماسكا بخيوط اللعبة من كل الجهات في متتالية لا تعرف الكلل والملل كونه يوكل الأمر إلى مطابخ للإنجاز مؤهلة ومدربة على المكر السيئ وإجادة أساليبه، فإذا ألبس المجتمع شيعا وأحزابا وأذاقها بأس بعض يكون قد شغل الجميع بالجميع عما ينخرهم من فساد واستبداد واستعباد ضامنا ـ والحال هاته ـ السلامة لكرسيه والبقاء لعرشه، ثم يعرض الحماية تحت ظلال سيفه وذهبه لمن يطلبها في مقابل التوقيع على صك " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " ، فيكون بذلك فتن المتبوع، وأذل التابع، وحينها يتسيد المستبد ويتنرجس بما يرى ويسمع من طقوس التفريق والتمزيق، ولنلاحظ كيف تُخترق الأحزاب والجمعيات في الوطن العربي السعيد وتلغم ثم يتم تفجيرها في الوقت الذي يريده أصحاب السيادة والمعالي، واستسمح شاعرنا شوقي عذرا وأن�

المصدر: مساهمة
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 91 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2012 بواسطة makhbarsaida

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

9,497