authentication required

                          

الأستاذ زغوان أمحمد

                      نموذج الآخر في سياق المرجعية التراثية الإسلامية

                                     النـص والممــارسة

 

        بداية نشدّ بحرارة على أيدي القائمين على إنجاح هذا الملتقى سائلين لهم الرشاد والسداد، وكلنا أمل في أن تكلل هذه الجهود القائمة على هذا التقليد العلمي المحمود بالإثمار.

وبعــــــــد

نترسم في هدي هذه المداخلة طريقا وسطا لا يقوم على التقويم، ولا ينصب  نفسه صوت وصاية لما يجب ولما لا يجب، وإنما هي تسديدات ومقاربات نغرض في هديها إلى الفهم باستقراء أحزمة من النصوص القرآنية، وبعض مواقف الأسلاف المنضبطة بميزان الروح المتدينة متخذينها نبراسا محكّما في التجربة البشرية وفي ذلك استحضار منا لمقالة الإمام علي  t في كون الحق لا يعتذر له بمسلك فلان أو علاّن إذ " الحق لا يعرف بالرجال وإنما اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله "

وسينصب تناولنا على مستويين هما: مستويا النص والممارسة

1. مستوى النص: لقد تعامل النص القرآني مع الواقع البشري في حاليه: المتوحد والمتعدد بكثير من الواقعية التي تؤصل للمصارحة والمكاشفة حرصا منه على تحديد المواقع والمواقف تماما مثلما تحدد المصطلحات في منهج البحث العلمي دفعا للبس والغموض.

فعلى مستوى المواقع: يحدد موقع التخندق للذات المسلمة باستعراض ملامح هذه الذات والهوية التي تتقدم بها للبشرية ولنقل أنها بطاقة تعريف تحمل طابع الخصوصية والتميز. ثم يأتي الانفتاح على الآخر متأسسا على هذه العواصم من الزلل في عالم المتغيرات.

أما على مستوى المواقف لا نراه يدالس ولا يوالس ـ كما يقال ـ  وإنما يعرض نفسه من مقام االفرادة والبصمة الشخصية دون أن يتجمل للآخر ويضع مساحيق للتجميل يطلب بها الرضا والقبول عند هذا الآخر، إذ الناموس الطبيعي لا يحفل بالنماذج المكرورة بقدر احتفاله بالنماذج المتفردة المتميزة، وكذلك كان الأنبياء وكان الرسل والمصلحون متميزين.

كما لا نراه يربط وجوده بنفي الآخر بقدر ما يعمل على التعايش معه على أساس الاحترام المتبادل، وهي الفكرة التي يعلن عنها الإمام الشافعي في تحديد نمط التواصل الحواري بالأغيار: " رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب ".

إن كثيرا من سوء التفاهم الذي يشوش العلاقة بالآخر ويحول دون تجسيرها مرده إلى عدم فك عقدة الاشتباك في مثل هذه القضايا، والاستعاضة عنها بالمخاتلة والمداهنة.

فيجب الاعتراف أن هناك نقط افتراق توازي ما عند الغير من نقط اقتراب، ويفترض أن تكون الأخيرة وسيلة لردم الفجوة، وطريقا للتأصيل للحوار الجدي انطلاقا منها فالحوار لا يفسد للود قضية، وأنه لا يكون فعالا إلا أن يكون ضابطه التواد الذي يستهدف التسامي بالنوع الإنساني على مستوى العلاقة، ويبعده عن التحرك في الساحة الخطأ التي تستهلكه وتستنفد طاقته وقدراته. فالإنسان بالميزان القرآني إنسان الله المختار لخلافته وعمارة أرضه..

ولقد تجسدت هذه الأنماط من الطرح في النص القرآني في دعوته لفتح قنوات الحوار مع المختلفين بالتي هي أحسن، وبعيدا عن التشنج وممارسة الوصاية على أفكارهم وما يدينون بمصادقه وصوابه قال تعالى: ] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم [ العنكبوت 46 وقوله تعالى : ]قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم [ آل عمران 64

وليست الكلمة السواء غير البحث عن الأرضية المشتركة التي يقف عليها الجميع لإزالة الحواجز النفسية، وعقد التمركز حول الذات، ودائما في إطار الخصوصية والتعدد دون عقد المكابرة.

        إن الواقع النصي القرآني يستبعد المبادأة بالعدوان أصالة، كما أن الموقف من الآخر يرتبط دوما بموقف هذا الأخير من الأنا الإسلامي الذي كثيرا ما أملت عليه تموقعاته الدعوية أن يتكيف مع طبيعة كل مرحلة ويلبس لكل حالة لبوسها: إما نعيمها وإما بوسها مع الوضع في الحسبان أنه لا يريد إلا الخير ما استطاع إليه سبيلا حتى في أحلك فترات التوتر، وأن تموقعه تموقع دفاعي عن المثل والمبادئ لا المصالح والمنافع التي يقدر أن تكون خدما لتلك المثل والمبادئ كما يفترض البراءة وحسن النية في

في العلاقة بالخصم ابتداء، وحتى طارئ الحرب يريد به تقرير هذا المبدأ وإقناع الغير المحارب بضرورة التعايش السلمي  ] وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله   [  الأنفال [61/62]   

فالجنوح للسلم الذهاب فيه بعيدا تقريرا للمبادئ الرسالية، وحتى في حال الخديعة ونقض المواثيق لا يجب على المسلم أن يأسف للخيانة لأن طبيعة المشروع الذي يحمله تقتضي منه أن يتجاوز ويصفح وهي قمة الانتصار عندما يشرعن المرء للفكرة والدعوة بعيدا عن حسابات التجار في الربح والخسارة ومقاييسها الطينية.

وصحيح أن هذا الآخر ارتبطت مواقفه على الدوام بالبدء بالعدوان منذ أن شنّت أول حملة حربية على الجماعة المسلمة في المدينة المنورة يتغيى بها استئصالها لولا أن الله سلم، وإلى اليوم تمضي هذه الطبيعة العدائية ديدنا لهذا الآخر حتى أصبح ينظّر لها، وهذه النتيجة هي التي توصل لها الغزالي (ت 505)  في القرن السادس بقوله: " لقد تقرر عندنا أن الروم إذا لم تغز غزت ''.

فالغزالي ـ فيما نعتقد ـ يحيل هنا على مرجعية فكرية كثيرا ما مثلت منهجا للآخر في الهيمنة وبسط النفوذ وما يتولد عن ذلك من عقدة كبرياء الجنس، وإرضاء دوافع الغريزة على حساب الروح.

وفي ضوء هذه الحال يكرس النموذج القرآني أسلوب المواجهة في الدفع عن الحمى والمبادئ ويشرع لذلك، ويعتبر أن من طبيعة الباطل العدوان بقوله تعالى:" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الحج. الآية (40)

إن ما ينضح به إناء السياق من الهدم لرموز العبادة والأفكار والمعتقدات بالقوة هو نوع من فرض الآراء المختلفة بالقوة، ودليل على ضعف الحجة، وإفلاس رصيد أصحابها من القيم، ولا يكون ذلك بحال بديلا عن سلطان الإقناع. ونحن هنا نشهد في النص القرآني كيف يتبنى قضايا مجموع الأديان المختلفة من أصحاب الصوامع والبيع والصلوات والمساجد في التفاتة إلى أن النماذج المعتدية لا دين لها ولا بدائل تطرحها للبشرية غير الهدم والتخريب، ويضع النص القرآني على عاتق المسلمين مهمة الدفاع عن أهل العقائد والرسالات بما تستوجبه طبيعة المعركة،  ولعل هذا المعنى هو الذي استوحى الغزالي قبلا جانبا منه في استقرائه لواقع الروم التاريخي.   

ومن غير شك أن هذا الآخر الذي لا يحرص على مدّ جسور قوامها العدل والإحسان قدر حرصه على وضع مصلحته الآنية الذاتية على قائمة الأولويات، وما عداه عدم لا يستحق التوقف عنده سيدخل لا محالة في تصادم واحتكاك مع الآخرين، إذ لا أحد ينسحب من مواقعه بالمجان ودون مقابل وإلا كان ذلك منه تنازل عن إنسانيته.   

وعليه فليس بدعا أن نجد اليوم من يروج لأطروحات " صدام الحضارات " أو يقول بنهاية التاريخ في عصر يفترض فيه أن يكون الإنسان على قدر كبير من وعي بالآخر، وقبول للتعايش معه خارج نطاق الذاتية والفردانية، والتعامل معه انطلاقا من ظروف الخصوصية التاريخية والتجارب والخبرات الماضية المختلفة عنه بمعنى من المعاني.

إن المتون القرآنية لا تشرعن للصدام من حيث المبدأ إذ نقف في غير موقف من مواقف تعاطي نصوص القرآن الكريم مع الآخر تستعرض أقوالا كفرية تجرأ فيها أصحابها على الطعن في الذات العلية، كما استعرضت وجهات النظر الإبليسية ونمط العلاقة التي تحكمه بالخالق والمخلوق البشري، وبسطت آراء المشركين في القرآن، وفي شخص الرسول وغيره من الأنبياء والرسل..

وتركيز النص القرآني على هذا المستوى من إدارة الحوار الذي لا يستبعد فيه مناقشة أي قضية مهما بدت مستعصية إذ بالإمكان أن تطرح على بساط البحث، وتغربل على محك التحقيق العلمي تحريرا لوجه الحقيقة أولا وآخرا اتساقا مع قاعدة " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " البقرة ( 111)، ومعيار صدق الدعوى أن ينصب البرهان شاهدا لها:

                       والدعاوى ما لم يقيموا عليها    بينات أبناؤها أدعياء.

فالبرهان والاحتكام إلى الدليل هو الرصيد الذي تصرف منه عمولات الحق، دون التفاف على

القضايا بغرض تمويهها وتمييعها أو فرضها بسلطان الإكراه قال تعالى: '' أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين  '' يونس 99). وقوله تعالى جده: '' لست عليهم بمسيطر '' الغاشية (22).

إننا نجد مواقف الحوار في العام الأغلب تخلو من التعرض لأسماء الأشخاص بذواتهم، ويتجنب ذكرهم بأسمائهم فرارا من التشهير بهم بل يختزلون في مضامين وأفكار لأنهم نماذج إنسانية مكرورة على مدار مسيرة التاريخ الرسالي إذ الطبيعة الإنسانية هي هي من يوم بدء الخليقة إلى يوم الناس هذا وإن بدت عليها فروقات واختلافات في الظواهر والأشكال فالجواهر والمعاني واحدة تبقى لصيقة بالطبيعة الإنسانية متوحدة بها بوجه من الوجوه، وإذا تعقلت المسائل على هذا النحو لم يعد هناك معنى للإكراه. إذ لا خير في قوم يقادون بالسلاسل والأغلال للإيمان بالحق الذي نعتقد أحقيته.

وكان هذا التوجه ديدن الرسول  r فهو إذ ذكر قوما كثيرا ما يجتنب ذكر الأسماء حتى مع المنافقين تماشيا مع الخلق القرآني في التعامل ويقول ما بال أقوام ؟.

فالتعدد والاختلاف يراد به حكمة عليا، وبالنهاية هو سنة كونية " ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم   " هود (118-119).يقول أهل التفسير تعقيبا على قوله '' ولذلك خلقهم '' أي للاختلاف خلقهم، إذ ليس من حق أي أحد أن يفرض على الناس رؤية بمواصفات معينة، فالأمر لا يتعلق بوصفة طبية إجرائية تقدم بمقادير وجرعات محددة سلفا وينتهي الإشكال.

2. مستوى الممارسة: تجسدت في شخص الرسول الأكرم  r ومن تربوا في مدرسته واتبعوا بإحسان النموذج الأمثل في أساليب التعاطي مع الغير المختلف باعتباره بالنهاية ميدانا للعمل الدعوي ومشروع هداية. وأن " الخلق عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله ".

فدعوة المسلم تهدف بحسب النصوص النبوية إلى ربط الناس بخالقهم، وتبليغ ما يراه صالحا للبشرية، وإن لم يستجيبوا له فليست الهداية من المنظور النبوي القرآني بأيد أحد إلا الله، وهذا لا يلغي شرط المحافظة على حدّ أدنى من التواصل لأن هذا الغير إن لم يكن جزءا من أنانا الجمعي فكل الخير في ألا نخسره، وهكذا يقف المسلم موقف الطبيب الذي له مشكلة مع المرض لا المريض..

إن المسلم وهو يعيش بهذا النوع من المشاعر الإنسانية السامية مطالب بالتركيز على مواطن الالتقاء واعتمادها مداخل يتسلل من خلالها إلى عقول الآخرين، وكسب ودهم وقلوبهم.

وفي هذا المعنى نذكّر بموقف محمد عبده ـ رحمة الله عليه ـ وقف فيه يخاطب نظراءه من طوائف أهل الكتاب مبينا لهم أنه لا يشكو من أي قلق ديني على مستوى إيمانه. ويذكر لهم: إن قدّر لأنصار عيسى u دخول الجنة فسيصحبهم إليها لإيمانه بعيسى وبكتابه الذي أنزل، ونفس الشيء يقوله لأتباع موسى  u ثم يستدرك عليهم أنهم لن يصحبوه إليها لأنهم لا يؤمنون بمحمد   u نبيا ورسولا. 

ونلاحظ هنا ـ مع الأسف ـ أن المسلمين لا يحسنون توظيف ما عندهم خدمة لقضاياهم العادلة

فنجد مثلا وبحسب المقررات القرآنية أن النصارى أقرب للمسلمين من اليهود، والمسلمون لا يؤمنون بواقعة الصلب من حيث المبدأ، وفي ذات الوقت لا ينفون أن هناك قرارا صدر يمثل العقلية اليهودية التي سعت في استصدار قرار الصلب هذا، ويؤمنون في نفس الوقت بالميلاد المعجز لعيسىu  ولا يكتمل إيمانهم إلا به. في حين لا يعترف اليهود بنبوة عيسى ويرمونه بالدجل، ومع هذا تناسوا الأحقاد مع مخالفيهم لحساب ما يحقق مصلحتهم ولا بأس بخطوة إلى الوراء مقابل خطوتين إلى الأمام

 وبودنا أن نستعرض هنا في هذا الجزء من الموضوع بعض النقاط المحددة لمستوى الممارسة كالتالي:

      q    لقد جسد الرسول الأكرم  نموذج التفاعل وقبول الآخر على صعيد الممارسة خير تجسيد في معاهدته مع اليهود لأول مراحل تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بإعلانه ميثاق مواطنة بين أبناء البلد الواحد بعيدا عن نظرة المصادرة والحظر على معتقدات الآخرين. فكان ذلك دعوة منه إلى قبول شرف الانتماء إلى حضارة الإسلام كمواطنين وأبناء لهذه الحضارة دون خدش لدينهم ومعتقداتهم، ويتخطى العداوات والأحقاد لأجل سلام الجميع وسعادتهم.

ومن جملة بنود ما جاء في إعلان حقوق المواطنة هذه: " أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن ليهود بني النجار والحارث وساعدة، وبني جشم وبني الأوس إلخ مثل ما ليهود بني عوف.

وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.. وأن عليهم النصر على من دهم يثرب. وأن من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم وأثم..(1) ".

فهذه الآثار النبوية نعتقد أنها تمثل قاعدة للسلوك العام في التعامل مع الآخر وضوابطه، وتحيطه بسياج من القوانين التي تحيل التجاوز في دائرة النص.

      q    مرافدة للسياق المتقدم نذّكر بالأصل الفقهي الذي ينفي الأجر مع الإكراه جريا على قاعدة " لا أجر مع الإكراه '' ونستحضر هنا واقعة للفاروق عمر  t وقد جاءته مشركة في قضاء حاجة لها فدعاها إلى الإسلام، فأبت  فقضى لها ما جاءت لأجله، واستشعر شيئا من الحرج بينه وبين نفسه أن يكون في مسلكيته تلك ما ينطوي على الإكراه فقال مستغفرا " اللهم إني أرشدت ولم أكره '' وقرأ قوله تعالى : '' لا إكراه في الدين '' البقرة (256).

        إن الإنسان لا يعطيك بالإكراه إلا أقل القليل أما بخيار الحرية فهو على استعداد أن يهب لك روحه، وهذا توجيه قرآني يتعاضد بواقع الناس، ومنطق الأشياء ذلك أن كثيرا من الإمبراطوريات التي ألغت خيار الإنسان وأقامت صروحها على الإكراه الإيديولوجي كشفت الأيام أنها كانت كيانات من كرتون لم تصمد مع أول هبة ساقتها رياح التغيير حين جد الجد، واشتد الخطب، ورأينا الذين هتفوا بهتاف الفداء بالروح والدم تحولوا إلى شامتين لامزين.

          وفي كتب الأدب العربي نقرأ كيف أن عنترة العبسي يطلب منه أن يكر على العدو بعد أن استبيحت الدار وكاد يلحق بقبيلته العار يقف ليقول إن العبد لا يحسن الكر والفر وإنما يحسن الحلب والصر.. ثم يقال له كر وأنت حرّ، فيتحول إلى فارس حلبة يصول ويجول ويثأر لشرف القبيلة الذي أوشك أن يمرغ في الوحل وما ذلك إلا لأن الرجل غدا سيد نفسه، وموقفه، وخياره.. فالإنسان الحر هو الذي يصنع المستقبل والعبيد لا يصنعونه لأنه لن يكون لهم من شرفه شيء.

إنهما موقفان الأول موقف العبد والثاني موقف السيد الحر ولكل منهما معنى ومضمون يجب أن نحسن قراءته، ونقف عند دلالاته ومراداته.

      q    الأمر الآخر الذي نعده امتدادا للمواطنة يتعلق بالتساوي أمام العدالة الأمير والخفير سواء بسواء، ومثالها قصة الترافع المشهورة بين أمير المؤمنين عليt مع اليهودي ـ وهو أحد رعايا الدولة ـ على الدرع وحكم القضاء في آخر المطاف لصالح اليهودي لأن الخليفة لم تكن له من قرائن تثبت أحقيته بملكيتها، وإذا باليهود يتساءل بينه وبين نفسه أو أترافع إلى قضائهم ومع من ؟ مع خليفتهم ويحكم لي ؟ . أليست هذه أخلاق أنبياء ؟ ، وكان هذا سببا فاعترافه بأحقية الإمام علي t بالدرع، وإعلانه الدخول  في الدين الجديد، وقال له الإمام: أما وقد أسلمت فهي لك. والحق ما شهدت به الأعداء.

ويحفظ للإمام مقالته المشهورة لأحد ولاته " وأعلم أن الخلق إما أخو لك في الدين، ونظير لك في الخلق " وهذا مضمون التوجيه النبوي الكريم " كلكم لآدم وآدم من تراب "

      q    والأمر الآخر يتصل بالعدل مع الخصم حتى في الظروف الاستثنائية مثل ظروف الحرب  ومنها قصة انسحاب الجيش من سمرقند في عهدة عمر بن عبد العزيز حيث يوفق أهلها في استصدار قرار من المحكمة يقضي ببطلان استيلاء الجيش على المدينة لما فيه من نقض للعهدة، وكان على قتيبة بن مسلم قائد الأجناد أن يرد عليهم الموثق الذي قطعه لهم امتثالا لقوله تعالى " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء. إن الله لا يحب الخائنين " الأنفال (58 ).

ولم تكن هذه النظرة للآخر إلا امتدادا للالتزام بالتوجيهات التي كرسها الأنبياء وأغنوا بها رصيد التاريخ الإنساني، في محاولة جاهدة لربطه بقيم السماء.

" وإلى عاد أخاهم هودا " ( الأعراف 65).

'' وإلى ثمود أخاهم صالحا '' (الإعراف 73).

'' وإلى مدين أخاهم شعيبا"  هود 84

إذن فالعلاقة مع الآخر كانت دوما محكومة بالحوار كقيمة إنسانية، ومن حيث المبدأ فإن هذا الآخر إما أن يكون لنا أخا في الدين أو نظيرا لنا في الخلق ـ كما يقول علي   t ـ  هذا هو الأصل وإن بدت بعض الانحرافات السلوكية في فترات متأخرة من تاريخنا حين ينضب عنصر الروح وتتيقظ   الغرائز * وهذه الوضعية لا تعدو بالواقع أن تكون الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

لهذا كان صوت الروح دوما حاضرا في مواقف الرسول  r من أول يوم بشر فيه بدعوته فلم يشهر سيفا في وجه خصومه، ولا بادأهم بعدوان وإنما التمس منهم أن يخلوا بينه وبين العرب فإن هلك فذلك الذي أرادوا، وإن ظهر عليهم كان في ذلك عزهم وشرفهم، ولم يكن إشهاره للسيف إلا انتصارا على السيف الذي كان يمارس الإكراه ويحول بين الناس وما يجب أن يعرض عليهم، وتعطى للحق نفس الحظوظ التي للباطل، أو كان منه دفاعا عن كيانه الناشئ وسط ذلك الركام من الجاهليات.

إذن فالمرتجى من الحوار أن يزيح عقدة الاستعلاء التي كثيرا ما تكون أثافيا يرتفع عليها مرجل الفتن والأحقاد وأن ينمي رأسمال الخير، وأن الحوار لا يأخذ هذا المدلول، وينهض بهذا الاسم باستحقاق إلا إذا كان بين الأغيار، وإلا ما سمي بذلك.mso-spa

المصدر: مشاركة ملتقى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 64 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2012 بواسطة makhbarsaida

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

9,496