د. زغوان أمحمد
كلية الأدب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية
جامعة د. مولاي الطاهر.
سعيـــدة. الجزائر
نقدنا الأدبي بين ا لعربنة والغربنة(المنظور والمأمول )
تحاول هذه الورقة أن تبعث جملة من التساؤلات نقرأ في سياقها جانبا من وجهة نظرنا لما هو مطروح علينا كاختيارات ثقافية وأدبية يراد لنا أن نلعب في ساحتها دور المنقاد المستجدي في جبرية ثقافية وفكرية تلغي فينا الإرادة والعقل... وحسبه هذا من دور .
هل تلك المناهج ومن ورائها العلوم الإنسانية يمكن استحضارها في واقعنا العربي بمعزل عن حاضنتها الاجتماعية ؟. ، وهل هي نبت متجذر في تربته وعلى أرضه انقدح عن سياق حضاري وظرف تثويري شهدته بدايات النهوض العنيفة التي عرفتها أوربا فيما سمي بعصور الأنوار والتحديث ؟ وهل لها قابليات التبني في سياقات مجتمعية متعثرة لم تع بعد ذاتها، ولم تؤسس بعد لمشروع ثقافي نهضوي متكامل يزاوج مزاوجة حكيمة وبصيرة بين الأصالة والمعاصرة ، يعيش حاضره وعينه على مستقبله دون نكران ماضيه ؟، وهل يمكن استنساخ خبرات الآخرين والتماهي معها، ومن ثم استيراد حلول أنتجتها بالأصل مشاكل الآخرين وتجاربهم دون أن تفقد تلك الحلول هويتها وفاعليتها الأصلية في الإطار الحضاري الذي انتقلت إليه ؟ وهل يحدث هذا الانحياز غير الواعي بلبلة وفوضى، وعقد وتوترات في السياق الثقافي العام كالسياق العربي ؟.
لا تزال العلوم الإنسانية لعهدنا ـ بشكل عام ـ بعيدة كل البعد عن الاستيعاب الكامل لمحددات نظرية تنطلق من الروح الخالصة لهذه القومية أو تلك، أو هذه الثقافة أو تلك تحديدا حادا يصل حد التباين الحاصل بين الأبيض والأسود في الصورة العتيقة ( أبيض وأسود)، ومرد ذلك إلى حكم التداخل والممازجة والتصاهر الحاصل بين الثقافات طوال خط التاريخ البشري، فالفارابي مثلا، وابن رشد، والرازي وغيرهم هم أقرب إلى أن يكونوا أبناء الثقافة العالمية والسياق العالمي الذي أنتجهم أكثر منهم أبناء للسياق المحلي الذي ظهروا به في الثقافة الإسلامية التي قامت على أسلمة المعرفة وتثقيفها وفق رؤية منهجية أطرت العلاقة بين الإنسان والكون والخالق انطلاقا من مقررات السماء وتوجيهاتها، بدءا من مقروئية ( اقرأ باسم ربك ).، و ( ن . والقلم وما يسطرون )، ولعل ما يتأيد به هذا الاستهلال مقالة ابن خلدون: من أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم فيقول : " من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه ومشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي . و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة " (1).
فالعرب الذين انفتحوا بفعل الحداثة القرآنية على الفرس والإغريق واليونان، احتفظوا بموقعية الآخذ الواعي بما ينبغي أخذه، والتارك لما لا يتواءم مع روحية الثقافة العربية فترجموا لأرسطو وغير أرسطو من السابقين، وأخذوا عنهم علوم الطب ، والحكمة والفلسفة ، وعلوم المنطق، والرياضيات وعلم الهندسة وغيرها من العلوم ولكنهم لم يأخذوا عنهم ما يتصل بإنسانهم الثقافي، فقد أعرضوا ـ مثلا ـ عن استجلاب المسارح لأنها لا تتناسب وطبيعة المضامين التي تدور على خشباتها، كما لم يلتفتوا للثقافة الإغريقية القائمة على الأسطورة حيث تتداخل فيها أفعال الآلهة بأنصاف الآلهة، والبشر وأنصاف البشر لتقدر الأقدار ، وتمصر للأمصار، على غرار ما هو مبثوث في الملاحم الشعرية كالإلياذة عند الإغريق أو الأساطير الفارسية بالصورة التي حفظتها الشاهنامة فيما بعد فكانوا في
وإذا كان الزمن الماضي يتيح لنا الإطلاع على هامش من الممارسة الماضوية التي يغلب عليها نفَس الخصوصيات، وطابع التمايز ، والأصيل والدخيل، والمحلي والخارجي فذلك عائد بالواقع إلى أسباب مبررة يعود جانب كبير منها إلى محدودية التواصل ونسبيته لانقطاع البلدان عن بعضها البعض انقطاعا جغرافيا، وتواضع المادة المعرفية وغلبة الشفهية في تلقي العلوم والانتصار لها وانحصار الإقبال العلمي النوعي ـ غالبا ـ في دوائر محددة هي دوائر الطبقة العلمائية ومن احتطب في حبلهم من طلبة العلم مع أخذنا بعين الاعتبار الفروق التي بين الناس إذ ليسوا على ذات الدرجة من الرغبة في العلم، والرحلة في طلبه ، وتحدثنا الآثار ـ مثلا في الحالة الإسلامية ـ كيف كان العالم يخرج طالبا التثبت من رواية من المرويات الحديثية في رحلة غدوها شهر ورواحها شهر دون أن يثنيه عما عزم عليه شيء. والأمر اليوم في الراهن الإنساني على خلاف ذلك بالكلية ، ذلك أن حركة الانبعاث العلمي الطفري غير المسبوق في تاريخ العالم أجمع تيسر للواحد منا ـ بأقل جهد ـ أن يفتح مكتبة بحالها بكبسة زر، وهو جالس في بيته بحضرة جهاز صغير اسمه الحاسوب.
ففي هذا الزمن زمن التنوير العلمي تقاربت المسافات على كل الأصعدة ، وتراجعت السيادات الثقافية للدول بفعل تيارات المثاقفة، وعاد الناس أشبه حالا بسكان البيت الواحد والسقف الواحد ، والحديث عن التأسيس لنظرية في المعرفة العربية والتي تعتبر النظرية الأدبية أحد فروعها المتصلة حلقيا بفروع أخرى لا تقل شأنا عنها بحكم الطبيعة التسلسلية لهذا النوع من المعارف بحيث ما يؤثر في هذه الدائرة تستجيب له الدوائر الأخرى تباعا، لهذا نؤكد على أنه ينبغي أن تستزرع حركة الإبداع الأدبي في تربة ثقافة المجتمع ومبادئه، وقيمه باعتبار تلك الحركة ليست بالنهاية سوى اللسان المترجم عن دينامية وفاعلية الثقافة المجتمعية التي تغدو ـ والحال هاته ـ أشبه بالمظلة التي تظلل الجميع ، ويقف الناس منها على مسافة واحدة، ولهذا كان جل أدبائنا إلى عهد قريب مثقفين ابتداء، وهي الصفة الغالبة فيهم، مما يعني ضمنا ضرورة تحصين الجبهة الثقافية داخليا ضد الميوعة وضحالة التقليد.
إن من الوفاء لذواتنا، وحرصنا على حاضرنا ومستقبل أجيالنا يفرض علينا أن لا نتماهى في ثقافة الآخر ولا نرضى بأن نكون مضافا إليه أو صفة من صفاته حتى لا نبقى مفعولا بنا وفينا طوال الوقت، لأن المرء بمجرد أن تتولد لديه عقدة الدونية تجاه الآخر ، وتعلن عن ذاتها بتقليده يكون قد جعل نفسه أدون منه منزلة، وضريبة ذلك أنه يتنازل عن " أناه الثقافي " ليصير ظلالا باهتة لغيره ، فيفقد بحكم تلك التبعية الباهتة معالم شخصيته وهويته،
تماما مثلما يشوه المزور المعتوه بصمة إصبعه بالنار ويقنع بالتشويه على أن تكون له بصمة مميزة يعرف بها ويشار إليه من خلالها.
إن العلوم الإنسانية بعامة ذات فعالية متحولة ومتغيرة ومتبدلة، كونها لا تعرف السكونية والثبات وتلك هي طبيعة التركيبة البشرية التي تعركها الاعتبارات المحلية أو الإقليمية وتتداخل فيها جملة معقدة من العوامل الموضوعية التي تطبعها بطابع الخصوصية كالبيئة ، والجنس ، والعادات ، والتقاليد، والدين والتاريخ... وما قد ينطبق على هؤلاء الأفراد داخل جماعة لغوية ما يشذ عنه آخرون تبعا لاختلاف تجاربهم الشخصية ، وأمزجتهم، وظروفهم الحياتية حتى إن الدارسين يرصدون فروقا ناتجة عن طبيعة اللغة ذاتها فهي وطن بحاله . إنها تنمط العقلية المفكر بها، وتؤثر في الميل العاطفي والمشاعري والفكري، فقد رأوا ـ مثلا ـ أن متكلمة الفرنسية ينزعون منزعا يميل للمنطق العقلي التجريدي، في حين ينحو متكلمة اللغة الإنجليزية إلى التصنيف والترتيب والتجريب، أما المتحدثين بالعربية فتغلب عليهم الوصفية الإنشائية، والاستفاضة البلاغية وما ذاك إلا لأن اللغة مشحونة بالفكر فنحن نفكر بلغة، ونتعقل الأشياء والأوضاع من خلالها، ولهذا فاللغة لا تحمل طابعا حياديا بالمرة كما نشاهد في الواقع العملي من استحكام الميل المركب الذي يغدو رابطة ولائية لكثير من التجمعات البشرية فهناك منظمة للناطقين باللغة الفرنسية، وأخرى للإنجليزية وهكذا.. ومثلما ينطبق ذلك على الجماعة اللغوية ينطبق على الأفراد اللهم إلا في القليل ممن سبقت له المناعة الطبيعية : ثقافة وفكرا.
ولهذا كان أصحاب القرار في الدول المتحضرة يحرصون الحرص كله على إبقاء عنصر الخصوصية والبصمة الثقافية خطا أحمر لا يتقدم ولا يتأخر، ولا مساومة عليه، فيتحول إلى سلوك ثقافي يومي يعيشه أفراد المجتمع يتشربون مبادئه، وينشأ عليه الصغير، ويفنى عليه الكبير، فيغدو هوية ثابتة تعصم من الزلل في عالم المتغيرات، أشبه باحتياطي الذهب الذي يعطي للعملة المتداولة في السوق قيمتها، ويمدها برصيد من القوة تحفظ لها توازنها بين العملات الأخرى، ولهذا يؤثر عن " بن غوريوم " الإسرائيلي غير المتدين قوله: ( نحن ندعو لدين لا نؤمن به )، وبرر ذلك بدافع براغماتي يقدم مصلحة الجماعة على القناعة الإيديولوجية، ولم ير في ذلك بأسا بذلك ما دام عنصر الدين هو أحد مقومات الارتكاز التي تقوم عليه حركت البعث التأسيسي للثقافة والدولة الناشئة في محيط مضطرب بالعداوات والحروب.
وليس خافيا اليوم في أن الدول المتحضرة التي غدت تنتج الفكر والثقافة وتسوقها إلى عالمنا الثالث ، وتروج لها على أنها نهاية التاريخ مستندة في ذلك على شرعية النجاحات المتحققة لها على أكثر من صعيد تدين في نهضتها تلك للعلوم الإنسانية، وما حوته من تعاليم ومفاهيم، وأفكار ومبادئ ، هذه الإنسانيات سبقت علوم الطبيعة والمادة الجامدة بمراحل وقرون على طريق النهضة ثم تبعتها بعد ذلك العلوم التقنية والمادة.
إن عنصر الإنسان هو خامة التأسيس الأولى. ويعنى هذا أننا في عالمنا العربي تبنينا نتائج التحديث الغربي دون أن نعيش مقدماته، أو ربما ارتضينا أن نقتبل ( من القابلة ) الحلول الجاهزة دون أن نسأل أنفسنا بالفعل عما إذا كانت تلك الحلول تصلح لأن تكون علاجات ناجعة لمأزوميتنا ومشاكلنا المستعصية والمتوارثة عبر قرون مع علمنا أن لكل مجتمع أزماته ومشاكله وتحولاته الثقافية والمجتمعية، وأن ما يكون هنا جزءا من الحل قد يغدو هناك جزءا من المشكلة، وقانون الطبيعة يقضي بأن الكائن الحي ينمو من داخله لا من خارجه.
ولعل مرد هذه النقلية الحرفية القائمة على التبني غير الواعي وغير المقدر لطبيعية المراحل وظرفيتها عائد إلى الانشطار المكاني للقطبية الغربية القائمة على النسخ ثم الاستلحاق المضعف الذاهب بالريح ، ويعكس حالة من الإبهار بحركة التنوير في الغرب والاستلاب وخير من عبر عن هذا التوجه بجرأة وصراحة لا لبس فيها طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عندما قال: "فإذا أردنا أن نتقدم فعلينا أن نأخذ بأسباب الحضارة الغربية كلها حلوها ومرها، خيرها وشرها، إن كان فيها شر" وهذا يعكس حجم الصدمة الثقافية التي أحدثها الاحتكاك العنيف بالعالم الغربي، والتي كان لها صداها المدوي في الشرق العربي في بدايات القرن الماضي. لقد كان هذا الاحتكاك يماثل في صورته الحسية انحطاط صخرة كبيرة في بحيرة راكدة أعقبتها رجات وتموجات لا حصر لها ، ولفعل الصدمة دوما عنصر المفاجأة التي ينجم عنها ردود أفعال استعجالية قد تكون عنيفة أحيانا وموقف طه حسين هنا أقرب إلى الصورة الأخيرة منه لموقف مبدئي، وهذا بخلاف رفاعة الطهطاوي الذي بدا في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريس " أكثر تصالحا وتسالما على مستوى لغته ، وإن عبر بدوره عن حالة من الإعجاب والانبهار بالغرب وأشياء الغرب ... ولم تكن تلك المقروئية للواقع قائمة على تبصر وإدراك ناضج وإحاطة بسنن الله في التغيير، والإنشاء والعمارة وإنما بدت قائمة على النظرة الارتجالية الشبيهة بالمنبه الشرطي، وهذا بخلاف الأطروحة الواعية التي أبان عنها مفكرون آخرون من ذات الفصيل الثقافي مثل الكواكبي والأفغاني، والشيخ الإبراهيمي ومالك بن نبي في رسم معالم شروط النهضة وآليات التغيير المجتمعي.
à بين علم الإنسان وعلم الطبيعة
ربما توهم البعض أن لا فرق هناك بين علم الإنسان الذي يتخذ الإنسان مادة بحثه، وميدان درسه، وعلم الطبيعة الذي يجعل المادة الجامدة موضوع مقرراته، وحقل تجريبه دون اعتبار للفارق بين الوضعين، ومادة البحثين، فالإنسان كائن فاعل والمادة منفعلة له، وهو يمتلك وعيا بوجوده، ولفعله معنى يتحقق من خلاله، كما أن قياساته نسبية، ويختص بطبيعة مركبة ومعقدة تؤثر وتتأثر، وأنه لا يقبل الإنتاج، وإنما يتابع بمرافدة الظواهر الاجتماعية.
أما علوم المادة فعلى العكس مما ذكر، فهي تحكم بالقياس، وتنضبط بالمعيار والقاعدة. وهي وإن كانت تطبع الحياة العامة للمجتمعات الإنسانية وتؤثر فيها بطريقة أو بأخرى فهي بالواقع علوم جافة صماء، منفعلة خادمة للإنسان ومسخرة له ورهن إدارته وإرادته يدخلها المعمل والمخبر للتثبت من الفرضيات المرصدة والمبادئ المسطرة لها سلفا كملاحظات، ومن ثم الخلوص إلى نتائج قطعية، أو في حكم القطعية على أقل تقدير، وميزة هاته العلوم قابليتها المرنة للترجمة عن ذاتها مما يجعلنا نتلقى المعرفة والأحكام المباشرة عنها، فعندما نتحدث عن تمدد الحديد بالحرارة، أو التقلص بالبرودة أو قانون طفو الأجسام، فهي طبيعة نمطية مطردة على توالى الأزمنة، وتغاير الأمكنة. إنها معرفة متلقاة بشكل مباشر عن كتاب الطبيعية كون تلك المعرفة منضمرة فيها كمونيا فلا يكون من الباحث إلا الكشف عنها متوسلا إليها بالآليات المنهجية العلمية وأدواتها من مثل : الملاحظة ، ،التجربة، والنتيجة ، ولهذا قلما تجدد مساحة الاختلاف كبيرة في علوم الطبيعة والمادة الجامدة لأنها معطى ناجزا على الأرض.
وهذا ما لا يتوافر للعلوم الإنسانية ـ كما أشرنا قبل ـ فالمبدع في أحواز الحاضنة الاجتماعية يعتبر جزءا من النسيج الاجتماعي فهو كائن عضوي يتأثر بمحيطه وبنمط الثقافة السائد في حدود جغرافيته، فيؤثر فيه اقتصاد بلده، وسياسته، وظروفه الاجتماعية، وهو ما تنماز به المجتمعات بعضها عن بعض ، وتختلف أنساقها الفكرية والمعرفية التي تملي على المبدع نمط تاريخه وطبيعة تفكيره وتحدد موقعيته من هذا الموقف أو ذاك .
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن أي مجتمع لا يكن بمقدوره أن يوجد الحلول لمشاكله وعقده وأزماته، دون حل إشكالاته الإنسانية ممثلة في ثقافته لأنها مرتبطة بفلسفة المعرفة ـ على رأي مالك بن نبي ـ ولقد أحدث الفكر الغربي قطيعة ابستيمولوجيا مع الفكر الألماني الذي كان قائما على عقدة الامتياز ، وكبرياء الجنس، وشيطنة الآخر، وإلى اليوم لا يزال الغرب يحظر إنشاء حزب على أساس نازي، وجعله في مضاددة السامية التي ذاقت منه الويل والثبور، وفظائع الأمور ، فلقد كان هذا الفكر الصدامي أشبه بالطعام المسموم الذي لا شفاء للمريض منه إلا أن يتقيأه.
à المذهبية الغربية وفلسفة التحديث
جملة التحولات في البنى الثقافية والاجتماعية والفكرية ارتبطت بثنائية صراعية ورثها الألمان عن الفكر الروماني الوثني ، وأعلنت عن ذاتها في أحواز الحلبة الأوربية بين تيار العلمنة ممثلا في الحركة العلمائية الواعدة بعصر التنوير، وتيار الإقطاعات الملكية المتحالفة مع هيئة الإكليروس المشدودة إلى ماضوية متهالكة، وتفاعل التياران عضويا كل على شاكلته مع حركة الاحتجاج البروتستانتي الديني، والتي كانت ثورة إصلاحية بكل المقاييس، فلوثر الجرماني يعد قامة فارقة في التاريخ المسيحي، ورائدا من رواد حركة الإصلاح الديني بإحداثه تلك الهزة العميقة انطلاقا من المراجعة الاتهامية للموقف التراثي التقليدي من حركة العلمنة، وعلاقة الإنسان بالإنجيل المختطف بأيدي حفنة من أدعيائه تمارس الوصاية على تفسيره ، وتحتكر فهمه، فقام بعملية ترجمة الإنجيل للألمانية بعد أن طال حبسه في اللاتينية، وكان هذا نصرا مؤزرا صاحبه وصل الإنسان المسيحي بكتابه المقدس، وإلغاء سلطة الوصاية البابوية، وفتح الباب للفرد في أن يتصل بالإله بغير وسائط، وأمكنه أن يمارس الاجتهاد ويعيد صياغة مقروئيته الخاصة به وبواقعه، ولم يعد يعيش في جلباب الآباء، وكان البعث بعثا تثويريا للغة وجد صداه في تلك الثورة اللسانية ذات النفس المتفجر عن المقروئية الإنجيلية الاحتجاحية ، والتي منها ما يؤثر من مفاهيم الدال والمدلول الذي صيغ من فكرة الناسوت واللاهوت، والحلول المتفاني في قالب الجسمية، أو فيما عرف بعد من دعوى التفكيك ذات الصلة بعقيدة التثليث المسيحي القائمة على فكرة التركيب من الأب والابن وروح القدس، فحلحلة لبنة من لبنات البنية المركبة يطيح بجملة البناء، وربما هي ذات الفكرة التي تناسخت في قصيدة الحجر الصغير لـ " إيليا أبوماضي ".
ثم جاءت الكاليفانية مع " كليفان " السويسري في القرن السادس عشر لتعطي دفعة جديدة لما كان قد بدأه " لوثر "، وتحفظ فيه على بعض جوانب الإصلاح لطبيعة الظرف، أما " كليفان " فقد قام بالرجوع إلى العهد القديم أيضا، وأظهر بعد ذلك عداء للسامية ، ويقال أنه كان يرى ضرورة أن يقيم الإسرائيليون دولتهم حتى تتحقق نبوءة الكتاب المقدس في ظهور المسيح الحقيقي، وربما تناسلت دعوى العداء تلك ووجدت طريقها في ما قامت به النازية الألمانية فيما بعد.
لامس كليفان بشدة القوة ما يتعلق بشكل مباشر بالمجتمع كالأخلاق، والتنظيم، والدين، والسياسة، وأعطى للدولة سلطات واسعة ليس أقلها حق التصرف المطلق في شؤون الدين بعد الانفراد بسلطة الدنيا إلى أن وصل الغرب إلى عزل المسيحية بالكلية وفرض إقامة جبرية عليها في مؤسسة الفاتيكان، جريا على القاعدة الإنجيلية في تشطير الحياة وقسمتها بين الإله، وقيصر، وأن يكون لكل منهما شأن يغنيه، وقد هيأت النزعة الأخيرة الأرضية لنمو الفكرة الليبرالية بشتى فروعها.
إذن فبدايات البعث العلمي الثقافي والصناعي والنزعات القومية رشحت كلها من وعاء الفكرة الدينية كما يدلل على ذلك مالك بن نبي في قوله : "كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي للإنسان في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتماعي فإنه يجد سطورا من الفكرة الدينية... ولقد سارت هندسة البناء من كهوف العبادة في العصر الحجري، إلى عهد المعابد الفخمة جنبا إلى جنب مع الفكرة الدينية التي طبعت قوانين الإنسان بل علومه " (2).
لقد بدأت حركة التحديث بأشكال عنيفة تحت يافطة العلمنة، وكان ذلك رد فعل طبيعي للزواج الكاثوليكي بين الملكيات الإقطاعية الفاسدة، ورجالات الدين الذين شرعنوا للفساد والاستبداد، وأجرموا بتحالفهم هذا حين أشاعوا الروح المعادية للعلم وتيارات التنوير : فالنجوم كائنات روحانية ملائكية، والأرض مركز الكون، وأن الهندسة من عمل الشيطان ونزق إلحادي ، بالإضافة إلى ما لحق العلماء من أمثال " كوبرنيكوس " و " جاليليو " و " جيور برونو " وغيرهم من حظر لكتبهم وحرقها، وسجن وتشريد وإعدامات وتنكيل ، ولهذا لم يكن غريبا أن يرفع الشعار المعروف " اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس " .
à المذهب الأدبي وجدلية الخصوصية
يرى بعض الدارسين أن اتجاهات البحث في العصر الحديث " تعتمد في أكثر أحوالها، على فروض أصبحت
أساسية في الفكر الإنساني الحديث مميزةً له. ويعود الفضل في هذه الفروض، في المقام الأول، إلى أربعة علماء عظماء من مفكري القرن التاسع عشر وأوائل العشرين وهم: دارون وماركس وفريزر وفرويد... وقد يضاف إلى هذه الفروض والأفكار نظرية ديوي في " الاستمرار " ، وأن قراءة الأدب وكتابته ليستا إلا صوراً لفعالية إنسانية يمكن أن تقايس بأي فعالية أخرى، وأنها خاضعة للقوانين نفسها ويمكن دراستها على المناهج الموضوعية نفسها…. ومن الناحية السلبية يتميز النقد الحديث بغياب مبدأين كانا يحتلان مقاماً رئيسياً في الماضي كلما جرى الحديث عن الأدب وهما: أن الأدب نوع من التعليم الأخلاقي، وأنه في أساسه نوع من اللذة أو المتعة " (3) .
وتفصيل ذلك كالآتي:
1. فالدراوينية: نظرت للإنسان على أنه جزء من التطور الطبيعي العام، وبالتالي فهو يمثل الجزء الحيواني من هذا الإطار العام، وطبقت عليه ما ينطبق على الحيوان، وأن الوجود أصلا ـ بحسب هذه الرؤية ـ ارتبط في نشأته وتخلقه بعامل المصادفة ، وقد عكست هذه الفلسفة نزعة إلحادية جاءت في سياق الثورة على المؤسسة الكنسية، والسعي إلى تقويض مفاهيمها المتوراثة عن عهود عتيقة فقدت مبررات البقاء والاستمرار، وطبيعة الصراع يومها كانت تقضي بضرورة استزراع بدائل فكرية كنوع من الإمعان في هدر التعاليم الكنسية، والنكاية بها ولو على حساب الحقائق الإنسانية الكبرى، وقد التقطت تلك الفرضية ذات الصبغة التعميمية التعويمية لإسقاطها أيضا على الأدب، فقد رأى بعضهم مثلا أن الأجناس الأدبية أيضا تتطور كالكائن العضوي ومصادق ذلك أن الوعظ الديني والخطب تطورت مع الزمن إلى الشعر الوجداني بالشكل الذي ترجمت عنه النزعة الرومنسية، وأن الملحمة الإغريقية الوثنية ذات المنشأ الشعري الأسطوري الخرافي تطورت لتأخذ شكل القصة الواقعية والرواية في قالب نثري وتلك هي طبعتها الجديدة والمعدلة... وهكذا.
2. الماركسية: الأدب يترجم عن العلاقات الاجتماعية والإنتاجية لهذا العصر أوذاك ، وهي محكومة بثنائية التناقض والصراعية بين البنى الفوقية والتحتية فأي خلل في البنى التحتية ( الاقتصادية ) يؤثر رأسا على البنى الفوقية ( السياسية )، والعلاقة دائما تؤطرها عقدة صراعية وفق جدلية ثنائية النقيض عند هيجل، وما عيب به ماركس سعيه إلى شعارات أخلاقية كالعدالة والمساواة بوسيلة غير أخلاقية حين ألغى عامل الأخلاق، وأجاز للبروليتاريا التوجه نحو افتكاك السلطة لأجل مصالحها فقط، وقد عكس الأدب العربي هذه النزعة وجسدها الأدباء في أعمالهم بصورة مؤدلجة لا تعترف بالآخر، وتعمل على تصفيته أخلاقيا ودينيا وفكريا، فليفكر المرء كيفما شاء، وبالصورة التي يراها، ولا يحق له أن يعبر خارج الهامش المتاح له سلطويا.
3. الفرويدية: الأدب يعكس رغبات مكبوتة قياسا على الأحلام، والعمل الأدبي يرتبط بالغريزة والإشباع الجنسي لها، ومن معوقات هذا الإشباع وجود شيء اسمه الأخلاق والمقصود هنا الدين طبعا لأنها منه تستمد حرارتها ووجودها ، وهذا يعكس موقفا صريحا من الدين وطرحت لنا نموذجا إنسانيا غير سوي لأنه يعيش حالة من انعدام الأمن النفسي والاجتماعي، كونه يعيش صراعا أبديا بين الرغبة والرقيب، أو ما يمكن أن نسميه بثلاثية النقاط القلقة : مثل [ الهو ] : الدافعية البيولوجية غريزة الليبيدو ( الجنس ) .
[ الأنا ] : الدافعية النفسية.
[ الأنا الاجتماعي ] : المحظور الاجتماعي عاداتيا ودينيا وقانونينا..
ومفاد تلك الفكرة أن الفعل الإنساني مقهور ومذلل لرغائب الجسد، وما يتحدث عنه من غيبيات وميتافيزيقيات مجرد أوهام مختلقة والمرء محكوم بأوهامه وهي حالة مرضية، تجد علاجها في إشباع العنصر الغريزي في الكائن البشري والجنسي منه تحديدا، كما أن الفعل الإبداعي مرتبط باللذة الجنسية التي هي المحرك الأساسي أو الرئيس للسلوك الإنساني كله، وهذه نظرة قائمة على أساس التعصب على القيم الكنسية لا غير لأن علماء البيولوجيا حديثا يرون خلاف ذلك فالدافع الأول وراء السلوك الإنساني هو دافع الأمومة، ثم يليه دافع العطش، ثم الجوع، ويرتب العامل الجنسي في المقعد الرابع في هذا الترتيب.
4. جيمس فريزر: وتتخلص رؤيته في أسطرة العمل الأدبي، وأن أعلى النماذج الخالدة والموارد الأدبية قامت على عنصر أسطوري إيتيمولوجي، كما أن للأساطير دورا هاما في حشو الفكر الإنساني وفي تعليلاته لكثير من الظواهر، وأنها مراكمة إنسانية كانت تعمل على إيجاد الكثير من الإجابات عن التساؤلات الإنسانية، ولما عادت عاجزة عن الاستمرار تطورت في جوانب منها إلى ما يعرف بالدين ، ويؤرخ لذلك بعصر الزراعة أي عصر التخلف الذي هو في مقابل عصر الصناعة : مجتمع الحضارة، ويقسم مراحل التطور البشري إلى مرحلة السحر، وتليها مرحلة الدين الذي ظل محتفظا بالسلوكات السحرية وطلاسمها، ويختمها بمرحلة العلم، وكانت كل مرحلة تفضي إلى تاليتها ، فلو لم يوجد هناك سحر لما وجد هناك دين فالإنسان إذن دشن عهد وجوده الأرضي ساحرا، وكان فرويد ممن وظف هذه الأطروحة وتأثر بها في مباحثه النفسية، كما تلقفها " كلود ليفي شتراوس " حفيد الحاخامات الذي "اختار ... قبائل هندية بدائية للغاية في أميريكا اللاتينية أي مجتمعات تعيد بنيتها إنتاج ذاتها إلى ما لا نهاية بدون تغيير يذكر أي مجتمعات هي بمعنى من المعاني بلا تاريخ ، وتطبيق النموذج اللغوي عليها لوصف هذه البنية التي تكرر نفسها لا يعني صحة وتسليما بما تذهب إليه أنثربولوجية شتراوس ، فما ذا ستكون النتائج التي يفضي إليها منهج شتراوس إذا ما طبق على مجتمعات ذات إعادة إنتاج موسع نظير المجتمعات التي هي قيد التحول المستمر في بنيتها بالذات بفعل تطور الرأسمالية... وهذا المنهج وتطبيقه سيبرز إلى السطح المشكلات المتولدة عن التعارض الفعلي بين البنية والتاريخ " (4) .
وهذه الفرضية كانت تدندن حول استحضار هوية تاريخية لإسرائيل في فلسطين التي وجدت عقدة كبيرة في إثبات تلك النسبة، والبحث عن روابط وصل على أساس الانتماء للمكان والجغرافيا ، وكانت فرضيات شتراوس تعمل بطريقة توراتية واعية ولا واعية في ترميم منظومة فكرية بين ركام الأساطير ، وهو ما يشير إليه روجيه غارودي في كتابه " الأساطير المؤسسة للدولة الإسرائيلية " كما أن اختيار اشتراوس لتلك القبائل لتكون ميدان عمله لم ينطلق فيه من فراغ فتلك القبائل ما يميزها أنها بدائية يجمعها الرابط الأسطوري أو الديني لا فرق، وهو ما يسقط على النموذج الإسرائيلي الذي قام على منطق شعب الله المختار وزرع القدوس، والجنسية الدينية، واعتزال الأغيار ( الغوييم ) الذين لا يجري فيهم دم الإله، الأمر الآخر أنها بغير تاريخ وهو ما يستدعي نموذج الشتيت الإسرائيلي الذي ارتبطت هويته ببلاد المواطنة التي هو فيها.
إذن فقد كانت دعوى اشتراوس مشبعة بالأسطرة الصهيويهودية ، فالرجل دخل من باب الأسطورة ليشرعن للحقيقة التاريخية الضائعة عبر القرون والأزمان من عهد التوراة والتلمود إلى عهد متأخر جدا.
وإلى اليوم يتقن الفكر الإسرائيلي لعب دور الضحية، ويوجه من طرف خفي ويتسلل للثقافة والسياسة والفكر دون ضجيج إعلامي، فأنت في الغرب يمكن أن تكتب ضد الله، وأنبيائه، وإنجيله وقرآنه وتوراته، ولكن لا تجروء أن تطالب ببحث قضية تاريخية عالقة في حاجة إلى درس وتفصيل مثل " حقيقة الهولوكوست " حيث تختلط الإيديولوجيا بالتاريخ.
هذه الواقعة التي استحلبت حتى أعطت دما استثمرت بدهاء شديد، كان له ما بعده في متأخر الأيام ، وفي إنشاء كيان بديل خاص بإسرائيل، واستغلت حتى على مستوى رمزية اللغة فاللفظة ذات المنبت اليوناني كان يراد بها في الأدبية الدينية المحرقة التي تجلب لها القرابين فتحرق تقربا لله في طقوسية فلكلورية مؤداها التضحية والفداء ، وهذا يعني ضمنا أن الشعب اليهودي كان ضحية مما يستدعي استدرار العطف العالمي، وإذا كانت القرابين توسم بصفة القداسة فهم أيضا مقدسون، أليسوا أبناء الله وأحباؤه بزعمهم ؟! .
ولربما تقاطعت هاته الأطروحة مع ما يروج في الثقافة المسيحية من عقيدة صلب المسيح ـ عليه السلام ـ وتضحيته التي افتدى بها البشرية تكفيرا عن خطيئة أبيهم آدم أبي البشر، إلا أن التكفير في الحالة الإسرائيلية يتحول إلى مقابل مادي هو التعويضات التي قام عليها الوجود الصهيوني العنصري، والتكفير أيضا عما اقترف في حق اليهود هو التضحية ببدلاء آخرين لا ناقة لهم ولا جمل فيما تأذّوا به من أصحاب القداسة ممن يشاطرونهم العهد الواحد ( القديم)، والروح الكتابية الواحدة .
5.ديوي: كتابة الأدب ما هي إلا صور لفعالية مصدرها الانفعال الفني الجمالي الذي يستعلن بذاته في أشكال تعبيرية، وربما تجد هذه النزعة صداها فيما ذهب إليه هازوليت الإنجليزي في قوله بالانفعالية في العمل الشعر فـ " الخوف شعر، والأمل شعر، والكراهية شعر، الإرادة، الحقد، تأنيب الضمير، الإجلال، الرحمة كل هذا شعر "، فالشعر يمثل أدق تفاصيلنا الذاتية، ويزيدها إشراقا المبدع بعمله كما يتضاعف الإشراق على المرآة عند انعكاس الضوء عليها، وعرف الشعر عند العرب واليونان : بأنه شيء تستجيش به صدورنا، فتقذفه على ألسنتنا، وليست تلك الألسن القاذفة غير اللغة بمفرداتها التعبيرية الإبلاغية. وإن ذلك كله ثمرة لحاجة طبيعية فطرنا عليها : حاجتنا للتعبير عن ذواتنا، وعما يختلج في صدورنا، وما انطبع من أثر ما يحي
ساحة النقاش