كثيرا ما تثار إشكالية التعابير الشعرية وجمالية الفن من جهة والمعيار الديني من جهة ثانية، لذا ارتأينا معالجتها في نقاط منها: الشعر العربي كما تناص في أدبيات الأقدمين ابتداء، ثم المذهب الجمالي في الشعر العربي في شقيه: المعنى والمبنى، ونعرج على بيان الشعر وعلاقته بالمعيار الديني في ضوء ما تحيل عليه حقائق النصوص على مستوى النظرية والتطبيق.
وبداية نبدأ في هذه المداخلة بعنصر الحظوة التي للشعر في الذاكرة الجمعية العربية، والهالة التي أحيط بها في تاريخه قبل الإسلام وبعده، وذلك قبل التطرق إلى غيره من العناصر. تطالعنا الآثار أن نبوغ الشاعر قبل العهد الإسلامي كان يكتسي في البيئة العربية طابعا احتفاليا إذ "تصنع الأطعمة وتجتمع الناس يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة لذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"(1).
فالكلمة الشاعرة عند العرب تتدثر بالطابع الخلودي وتتأبى على النسيان لأنها روح يسري في جسم التاريخ "وفي البدء كانت الكلمة" ولأمر ما قيل: إن "الشاعر تاريخ قومه" فهو من يتغنى بأمجاد القبيلة، ويعدد مناقبها فتتلقف ذلك منه الركبان، ويتسامع الناس وتعزف روائع أعماله لحونا على فم الزمان. ألم ينتش بنو تغلب إلى حد السكر بقصيدة قالها عمرو بن كلثوم فيهم؟ حتى سجل عليهم هذا الموقف الذي يحاول أن يستوقف عجلة التاريخ عند نقطة بعينها لا يتعداها، ولا يحفل بما سواها، وكان مما أخذوا به أن قيل فيهم: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم:
يفاخرون بها مذ كان أولهم *** يا للرجال لشعر غير مسؤوم!
وفي ذات السياق يقول عمر بن الخطاب (ر) وقد سمع بعض أولاد هرم بن سنان ينشد مدائح لزهير بن أبي سلمى في أبيهم فأعجبه ذلك، وقال لأبنائه: لقد كان يحسن في أبيكم القول فقالوا: ونحن والله كنا نجزل له العطاء، فقال "قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم".
وفي المرحلة الإسلامية نقف في الجملة على حقيقة مفادها أن الشعر لم يتنازل عن تلك الحظوة التي نالها في الأدبيات العربية، وإن خضع لبعض التهذيب والتشذيب بما يتماشى والمقررات السماوية الجديدة في غير مساس بجوهره إلا بالقدر الذي أريد به لهذا الجوهر أن يكون خادما للقضايا الرسالية، وصوتا لها، وما ذلك إلا لكون الشعر شديد الاتصال بالنفسية العربية، وطريقا للتأثير فيها والتأثر بها وفي الحديث "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين"(2). ويكفي هذه الشهادة شهادة لأنها ممن لا ينطق عن الهوى، ومن عارف بدخائل النفوس التي كان يتعامل بها، وهو هنا لا يفشي سرا وإنما كان هذا منه تقريرا لواقع حي متحرك على الأرض، كما استلهمه من أرخوا للظاهرة الأدبية والعلمية - فيما بعد - وقرّروا في مباحثهم أن الشعر يأتي في "الدرجة العليا من الكلام كله بعد الكلام الإلهي والكلام النبوي"(3)، وكان ابن عباس يتداول في جيله أن الحرف من القرآن إذا خفي عليه رجع إلى الشعر ديوان العرب، ويكفي للاستدلال على ذلك مناقشاته وردوده على نافع بن الأزرق وهي مبسوطة في كتاب الإتقان للسيوطي بإسهاب.
هذا موقف مبدئي في ساحة الثقافة العربية أحببنا تسجيله باعتباره أصلا وكل ما انقدح عنه فهو بالواقع مجرد تفاصيل.
الأمر الآخر الذي نبتغي تحصيله هنا أن نشير إلى أحزمة من النقاط الجمالية التي ترجم عنها الشاعر العربي في بوحه عن طوايا النفس وشحناتها العاطفية: مشاعر، أحاسيس، هواجس، أفكار. ولنختزل ذلك في عنوان فلسفة الحياة والموت وما يطفح به إناؤها من آمال وآلام طويلة عريضة كثيرا ما تبدت في مواقف الشعراء على الأطلال، وبكائياتهم على فقد الأحبة، وفيما تكلس بنفسياتهم من قلق وجودي كان بمثابة رد فعل طبيعي لنوع البيئة العربية المغلقة والرتيبة التي وجدت في الشعر المعين الطيع الذي يسلس لها القياد فتبثه من أشجانها وأحزانها، وترجمانا عن حياة أهلها بلا منازع وتجسدت في هذا الواقع الأمثولة القائلة "الأدب والحياة تؤمان لا ينفصلان".
وعود هنا إلى مفردات التعبير عن الجمال في النفس والطبيعة والحياة والعلائق التي انتظمت ذلك والتي كثيرا ما أطرتها أجواء الصلح حينا، والصدام حينا آخر وتلك سنة الحياة، فكان قوام الإطار التعبيري على حاملين اثنين - فيما نتصور- الحامل الأول يقوم على المستوى المضموني، والثاني ينتهض على حامل جمالية المبنى وتحسينه. فعلى المستوى الأول نرصد بداية: يغدو المذهب الجمالي قالبا يسكب الشاعر العربي فيه نفحات من روحه وفكره في لحظات من التجلي والكشف تسفر عنه الظاهرة الكلامية في حال من الانسجام مع الذات، والأشياء من حوله، وسعيه لتحديد نمط علاقته مع هذه الأشياء في الطبيعة أو كما تنعكس هي في النفس وتتجلبب برداء الفردانية والذاتية، وعلى خلفية صدق التجربة وفطريتها، وعلى ما فيها من بساطة وسذاجة بريئة، ذلك أن هذه التجربة بهذا المفهوم وإن لم تنشأ عن نظرة فلسفية للأمور فهي ثمرة تفاعل داخلي في رحم النفس العربية بين الذات والأشياء والعلائق تكون تولدت عفوا صفوا، ومثالها نظرة الشاعر للطبيعة حيث نراها من خلال نصوصه قد صارت الأم الرؤوم في شدتها وفي قسوتها، فهي وإن اشتدت عليه فشدة العاطف، وإن قست فقسوة الحاني وهي في حال يسرها وعسرها لا تعدو جزئيات المشهد الجمالي الذي تدين به الطبيعة. ولم يكن إيليا أبو ماض منذ وقت قريب غريبا عنه هذا المشهد بمعناه حين ينشد:
والذي نفسه بغير جمال *** لا يرى في الوجود شيئا جميل
إنها جمالية تستنبت في النفس وتخالط حناياها إلى درجة من الهيام الصوفي بها خاصة في صورة التعشق الغزلي الذي يتجاوز الحسي والغريزي إلى آفاق روحية رحبة محيطية الامتداد تلتمس في الجمال رواء لعطش لا ينطفئ أواره على مر الزمن.
وفي هذا السياق ندرج الجمال الفني بجملة أبعاده المتعددة الأغراض في حال المدح والفخر والغزل والرثاء. وما تحت هذه الأغراض من دوال شاعرية كالإحساس بالفرح والحزن والشدة والتبرم والضيق. وكل هذه المعاني الشعرية التي ما هي بالنهاية إلا امتداد طبيعي لما تولد فينا من الإحساس بالحياة ككل.
إن التعابير الشعرية العربية تتمظهر فيها صور البحث عن الحقيقة حقيقة النفس وما يتولد عنها من حب وبغض وانبساط وتبرم. وحقيقة العالم والنظم التي تحكمه وآليات التبرمج معه بقصد التوحد مع حركته، وكانت مرجعية الشاعر العربي أحاسيسه وأفكاره اللدنية التي تضفي بظلالها على ما يعد خارج أناه. أو ما ينطبع من أثر هذا الخارج كخواطر تعنّ للنفس في شكلها الحرفي والنمطي المطرد. وكثيرا ما يتوسل العربي لتفسير الواقع بالوصفية على نماذج من صنع تصورات خاصة به مما يبسط الشيء وضده، وقد يجأر إلى التعليل الدوغماتي القائم على ظلال باهتة من الأسطورة والخرافة.
الحرص على التميز والتفرد بجملة من المواصفات الخلقية كالكرم والشجاعة والافتخار بالأنا توكيدا للذات إلى حد التضخم أحيانا، وهذا ما تشي به المضامين المطروقة في حرصه على الثناء والذكر الحسن، وانعكس ذلك كله في الجانب الشكلي للعمل الأدبي وما يجسده الشعر وما حوى من استقلالية للبيت، وانعدام للوحدة في الموضوع...
المستوى الثاني القائم على جمالية المبنى والتحسين، ويمكن رصد أثره في الشق الإجرائي العملي وقوامه اللزوميات الشعرية على مستوى القافية، وحرف الروي، والوزن على نحو من أنحاء التفعيلات المعروفة وهذا - فيما نتصور- يعرب عنه الأداء المقاطعي في بناء القصيدة ويسفر عنه عنصر الموسيقى. فالقصيدة العربية عرفت بطابعها الغنائي حتى أنه ليقال عن الشعر العربي إنه شعر غنائي بامتياز. يقول ابن عبد ربه عن هذه الموسيقى أنها "فضل في المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان". وفي ذات الفكرة يقول أبو حامد الغزالي "من لم يهزه العود وأوتاره والربيع وأزهاره فهو شديد المزاج صعب العلاج". ولعل أحكام التلاوة في النص القرآني واشتراط وجوب القراءة بها تتنزل هذه المنزلة باعتبارها وسيلة من وسائل التبليغ يقترن فيه الانتفاع بالإمتاع.
ودائما في سياق المبنى نشير أيضا إلى بناء الصورة التي لم ترد جدارية جامدة بل هي حية متحركة تلقي بظلال كثيفة من الحس على المخيال الذهني وترسم في مساحته أشكالا من المعاني المتعددة ذات أبعاد وأطوال قد تزيد وقد تنقص بحسب مقدرة كل شاعر ومكنته من أفانين القول والتصرف في نظم المشهد التصويري من مادة الكلام تماما مثلما ينحت المثال تماثيله من الأحجار، والمغني بتطويع الألحان وميدان التفاوت التميز والإجادة...
فالشاعر يقوم برصد العلاقات بغية التأليف بينها دون اعتساف أو صنعة وهذا هو المأمول المتفق عليه من حيث المبدأ إذ يتساوق عمله مع جدلية ثلاثية طرفاها اللغة والشيء المتصور ونقطة توسط هي ذات الشاعر فقولنا مثلا "أكلت الشمس نسقها" هي غير التعبير الحرفي الذي لا يتجاوز معنى الوصف بشدة الحرّ، وقوله تعالى مثلا "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" (الأحزاب، الآية 23). فالأفق الدلالي المتوقع أن ينتظر الإنسان العافية والسلامة فكيف ينتظر الموت؟! ولنأخذ أيضا قوله تعالى: "والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا" (سورة العاديات، الآيات 1 – 5).
إنه مشهد تصويري لجو المعركة وجانب من تفاصيله كعدو الأفراس، وما ينقدح من شرر بفعل احتكاك سنابك الخيل بأحجار الأرض، وما يصحب ذلك كله من تلاحم الجموع، وغشيان النقع للجمع. وملاحقة لهذا المعنى يعيد بشار بن برد تركيب بعض أجزاء المشهد التشخيصي بطريقة اختزالية:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
إذن فهناك سر كامن في اللغة وفي النفس وفي الشيء ذاته، ومن استطاع فك رموز هذه المعادلة صار هو صاحب الفضل والسابق والنموذج المحاكى الذي يجب النسج على منواله.
إن اللغة تمتلك من القابلية لأن تقول الشيء الكثير ولا يغني عنها غيرها شيئا، وتمتلك من السيولة بالمقدار الذي يؤهلها لاحتواء المعاني المتخيلة والمفاهيم الذهنية، والمواجد النفسية إلى حدّ الإعجاز. هذه اللغة بمثل هذه الخصائص لا يقابلها في حس العربي من حيث الوضوح والإعراب عن النفس إلا كتاب الطبيعة المفتوح أمام بصره وتحت سمعه وما يوحي إليه من ضخامة الحس في خلق الإبل وارتفاع السماء وانتصاب الجبال وتسطح الأرض، كما تشير الآية المعروفة "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت" (الغاشية، 17 – 20).
ويكفي أن يتسمى التركيب التعبيري العربي "نصا" للدلالة على البعد عن الضبابية والإغلاق إذ النص مأخوذ من المنصة التي تبرز عليها العروس، وهي في هذا الموقف أكثر ما تكون تمظهرا وتبهرجا، والنص بالمناسبة في الأدبية العربية يختلف عنه في أدبيات الغربي إذ يعني بالفرنسية مثلا: (texte) التي هي من النسيج وما يحيل عليه من صناعة وحبك وعقد لأنه يعكس طبيعة النفسية الأوربية التي تميل إلى نوع من التعمية والانغلاق وهي أحد خواص الأسلوب في تلك البيئة بخلاف متون النص العربي الذي الأصل فيه أن يقوم على إبراز المعاني والحرص على التصريح وتوضيح ملامح الموضوع، ويكون الميل إلى مقاربات المشابهة والتشخيص في أدبياتهم التي قلما يخلو منها نص دليلا على سلامة هذا الطرح. وهذا مضمون مقالة المبرد أننا لو اعتبرنا: أن ثلاثة أرباع كلام العربية قائم على التشبيه لما جانبنا الصواب.
إن التعبير الشعري بهذه المواصفات أحد مقاييس الجمال في تقاليد النقد العربي خاصة أيام أن كان محكوما بالفطرية والانطباعية، وعدّ أحد المحددات التي اعتمدت في تصنيف جنس الكلام القرآني وتوصيفه بالشعر وربما كان ذلك لسببين - في رأينا - الأول: عائد لطبيعة التميز والتفرد التي تفرد بها إلى حد الإعجاز، وكذلك كان الوضع مع الشاعر الذي ينسب نبوغه الذي يتفوق به على نظرائه إلى شيء غيبي وليكن من عمل الجن، وهذا الأصل اللغوي الذي استنبتت في ضوئه لفظة عبقري كما هو معروف.
والسبب الثاني: هو قيام النص القرآني على قاعدة جمالية هي قاعدة التصوير التي طالما حفل بها الشعر، لذا نسب القرآن إلى الشعر في نقطة التقاطع هذه جريا على خصوصيات الثقافة السائدة تاريخئذ في اعتبار الكلام المنثور المبني على الأخيلة البديعة ذات التأثير الوجداني شعرا، ومن ذلك قول حسان: "شعر ورب الكعبة" لما سمع ابنه يصف زنبورا لسعه "كأنه ملتف في بردي حبرة".
ولهذا سنرى صاحب العمدة يستدرك على أصحاب هذا الموقف النقدي ويضع ضوابط لفن الشعر معتبرا أن القصد هو جوهر الشيء فمن لا يقصد إلى شيء لا يحسب عليه لخلوه من إرادته وإن حصل له ذلك اتفاقا، وفي هذا المعنى يقول "الشعر يقوم - بعد النية - من أربعة أشياء وهي اللفظ والمعنى والوزن والقافية هذا هو حد الشعر لأن في الكلام موزونا مقفى وليس بشعر لعدم القصد والنية كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي (ص) وغيره ذلك مما يطلق عليه أنه شعر"(4). والشعراء لذلك التاريخ "هم أهل المعرفة" معرفة الأنساب ومثالب القبيلة ومناقبها وقد يساعد على هذا الرأي اشتقاق المادة. فشعر في الأصل معناه علم تقول شعرت به علمت، وليت شعري ما صنع فلان: أي ليت علمي محيط بما صنع "وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" (الأنعام، 109) ما يدريكم(5).
إذن فما تراه يكون الموقف الديني وما معياره في الحكم على الشعر؟ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره - كما يقال - خاصة إذا كان هذا الشيء بمنزلة الشعر وما يمثله من خطورة. لا نجد في لملمة شتيت هذا الموقف خيرا من مداخلة عبد القاهر الجرجاني في الموضوع إذ يذكر جملة من المساءلات كفيلة بإضاءة الموقف بما لا مزيد عليه وهي لا تخلو من أمور:
"أحدها: أن يكون رفض الشعر وذمه من أجل ما فيه من هزل وسخف، وهجاء وكذب وباطل على الجملة.
والثاني: أن يذم لأنه موزون مقفى ويرى هذا بمجرده عيبا يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه.
والثالث: أن يتعلق بأحوال الشعراء ويقال قد ذموا في التنزيل(6).
ويرتب الجرجاني على هذا الطرح تصوره للقضية قائلا: أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسخف وكذب وباطل فينبغي أن يذم الكلام كله، وأن يفضل الخرس على النطق والعي على البيان، فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه. والشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامة ومن لا يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل، ولو عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرا في عصر واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظما في الأزمان الكثيرة ولغمره حتى لا يظهر فيه.
والوجه الثاني من المسألة يتصور عبد القاهر أن "السبيل في منع النبي (ص) الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام الموزون غير ما ذهب إليه المعترضة، وذلك أنه لو كان منع تنزيها وكراهة لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونا، وأن ينزه سمعه عنه كما ينزه لسانه ولكان (ص) لا يأمر به ولا يحث عليه، وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرا ولا يؤيد بروح القدس. وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن سبيل الوزن في منعه عليه السلام سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط، بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر، والدلالة أقوى وأظهر... وأقمع للجاحد، وأرد لطالب الشبهة، وأمنع في ارتفاع الريبة"(7).
أما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذموا في كتاب الله تعالى، ويلزم على قود هذا القول أن يعيب صاحبه العلماء في استشهادهم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن وفي غريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم من أمر النبي (ص) بالشعر وإصغائه واستحسانه له. ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله، وأن يحمل ذم الشاعر على الشعر لكان ينبغي أن يخص ولا يستثنى فقد قال الله عز وجل: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا" (الشعراء، 227)(8). والواضح من سياق الآية أن الذم ينصرف بداية إلى شعراء المشركين الذي كانوا حربا على الإسلام وأهله.
إذن فالمعيار الديني لا يعنيه الكلام من حيث كان جنسا: شعرا أم نثرا بقدر ما يتجه إلى الشق المضموني في القضية على اعتبار المبدأ الرسالي الذي يؤطر حركته ويحكم جملة العلاقات التي تربطه بمتعلقات الإنسان معنوية كانت أم روحية وهذا معنى قول الشاعر:
وما من كاتب إلا سيلقى *** غداة الحشر ما كتبت يداه
وما من قائل إلا سيلقى *** غداة الحشر ما نطقت شفاه
فمثلا قول الشاعر:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
يستشهد به في الجانب الفني على الإيغال في المبالغة إلى حدّ الخروج عن حدود المعقولية، ولعل هذا معنى قولهم "أعذب الشعر أكذبه". وقد تساهل أهل النقد في الموضوع بإجازتهم هذا النحو من القول على اعتبار أنه كذب فني، وأن الشاعر يطلب بعمله تحسين كلامه بخلاف الكذب الخلقي الذي يبتغي صاحبه تحقيق كلامه. كما يدلّ بالبيت على أن الألفاظ في بعض أحوالها توسم بميسم الحيادية أو لنقل إنها لا تملك صفة الإطلاق: أن تكون رفيعة أو وضيعة إلا باتحاد مجموع ألفاظ العبارة، فهذه ألفاظ رفيعة وسوقها في هذا النظم أهدر بهاءها، وجنى عليها.
وبالمقياس الديني فالبيت شحن بمزلق كفري تورط فيه قلم الشاعر بقصد أو بغير قصد، وأن مسؤوليته قائمة على رأي من قال "من فمك أدينك" أو قولهم "يكاد المريب يقول خذوني"، وما كان أغناه عن هذا الانحراف العقدي - وفي اللغة متسع - حتى ليقال عنه أكفر بيت. لهذا نجد نماذج التوجيه النبوي في سماع الشعر تركز على الشق المضموني وما يستقر في الأذهان من ظلال الكلمة ومن ذلك ما جاء في الخبر من "حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله (ص) قولي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهر
فقال النبي (ص): أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت إلى الجنة يا رسول قال: أجل إنشاء الله"(9). فالنبي الأكرم يوجهه هنا الوجهة التي ينبغي أن يسلكها في التعامل مع الكلمة ومقام الالتزام يقتضيه الاعتدال في القول والإنصاف من نفسه، وألا يتعلق المرء بأوهام لا رصيد لها من الواقع لأن ذلك يبعد المرء عن واقعه العملي، ويستهلك قدراته في الساحة الخطا، وهذا مذهب البطالين السائرين في دروب الأحلام التي تزخرفها شطحات الخيال المتفلت من صوت العقل والمنطق.
وفي موقف مشابه نجده (ص) يستمتع بإنشاد لبيد بن ربيعة ويقـول أصدق كلمة قالها شاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ويروى أنه لما سمع الشطر الثاني - قبل هذا الموقف - وكل نعيم لا محالة زائل فقال (ص) ويحك يا لبيد إلا نعيم الجنة. فوجهه الوجهة السليمة التي ينبغي أن يسلكها لأنه صاحب رسالة وصاحب قضية وليس له أن يقف موقف من يزجي الفراغ، وما أصدق مقالة الشاعر الذي نستحضر في طياتها هذا المعنى الأخلاقي التوجيهي:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وقد نجد في الموقف الديني القائم معياره على البعد الرسالي التوجيهي أنه لا يترك الأمور تمضي سبهللا لأن الحياة ليست كذلك، بل لا بد أن يسجل موقفه، وأن يكون له حضوره دوما ولا بأس أن نأنس بفعل الرسول الأكرم، وقد بسط أحد الأبناء القول بين يديه شاكيا ظلم أبيه وأخذه ماله منه بغير حق الأمر الذي حمل النبي (ص) على أن يقضي للولد على أبيه فكان ردّ الوالد بأبيات نذكرها كما انحفرت بألفاظها ومعانيها حفظا في الذهن. قال الوالد فيها:
غذوتك مولودا وصنت يافعا *** تعلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت *** لسقمك إلا ساهرا أتململ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها *** لتعلم أن الموت حتم موكل
كأني أنا المطروق دونك بالذي *** طرقت به دوني فعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي *** أتتك مراما فيه كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة *** كأنك أنت المنعم المتفضل
إنها كلمات صادقات نفثتها نفس في حالة كشف وصفاء روحي لامست شغاف قلب المصطفى، فكان لها مفعولها وأثرها في نفسه الأمر الذي جعله يتمثل تلك المعاني الرقيقة التي ينضح بها الموضوع إلى حدّ جعله يجهش بالبكاء، ويرى أن الولد لم يقابل والده بما يستحقه من الوفاء، فأعلنها صريحة في وجه الولد قائلا: "أنت ومالك لأبيك".
وفي ضوء هذا الواقعة قرر الفقهاء جواز تصرف الوالد في مال الابن بقدر الضرورة بهذا الحديث، وفي غير هذا الموقف أيضا نجده (ص) يوجه بعض النسوة اللائي خرجن يقصدن بيتا من بيوت الأنصار بقصد الخطبة إلى ما ينبغي أن يكون عليه الخاطب، والشكل الواجب أن يظهر به من أدب ولياقة تتفق وأجواء المناسبة قائلا ما معناه: "الأنصار قوم يعجبهم الغناء ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم *** حيونا نحييكم
ولو لا الحنطة السمرا *** ءُ لم نحلل بواديكم
إذن فجمالية التعابير الشعرية لا تتعارض مع المعيار الديني طالما ظلت هذه الجمالية تتعلق بأهداب الدين، وما يمليه الخلق الكريم، وطالما عبرت بصدق عن النفس الإنسانية والطبيعة والحياة دون تزييف ولا مغالاة أو تحريف للقيم الإنسانية السامية وعالميتها وكل مثل الخير والعدل. إن الفن الأدبي لا يخرج عن أن يكون موصوفا بالنفع للمجتمع، أو الإضرار به، أو لا يضر ولا ينفع، ومقياس ذلك تبع لمدى تحقيق صفة من هذه الصفات، والحكم على هذا العمل الفني سلبا أو إيجابا فرع عنها.

الهوامش:

1 - السيوطي: المزهر، دار الفكر- دار الجيل، بيروت، 2/473.
2 - ابن رشيق القيرواني: العمدة، تح. محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط. 5، بيروت 1981، 1/30.
3 - د. محمد عيد: الاستشهاد والاحتجاج باللغة، دار عالم الكتب، ط. 3، القاهرة 1988، ص 116.
4 - ابن رشيق: المصدر السابق، 1/193.
5 - أحمد أمين: فجر الإسلام، دار الكتاب العربي، ط. 10، بيروت 1969، ص 55.
6 - عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، موفم للنشر، الجزائر 1991، ص 27.
7 - المصدر نفسه، ص 38.
8 - المصدر نفسه، ص 39.
9 - المصدر نفسه، ص 34.
المصدر: مشاركة ملتقى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 121 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2012 بواسطة makhbarsaida

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

9,496