الاسم واللقب: أمحمد زغوان

                      

      نموذج الأنا والآخر في سياق الحضور والغياب

 

       استهلالا نفرش بفرشة للموضوع تغدو مقاربة نتغيى من خلالها كشف المدلول المصطلحي للفظ " النموذج " في محاولة لاستبيان عوالقه المعرفية حتى يكون الحديث في ظلاله فصيحا صريحا لأن الكثير من مسائل المصطلح عادت في أدبياتنا عائمة رجراجة تثير إشكالات أكثر مما تفتح آفاقنا على الوضوح، وتضيء البقع المعتمة في مساحات الفكر، الأمر الذي أسلمنا إلى تشوش في المفاهيم وغبش في نظرتنا حتى لبعضنا في قضايا هي أقرب للمسلمات فضلا عن نظرتنا للآخر مما يعيق تواصلنا وروح الحوار بيننا من جهة، ومع غيرنا من جهة ثانية لأننا ننسى أو لأننا تثقفنا بثقافة تتعقل القضايا من منطق: يا أبيض يا أسود.

       ولعل أبا فراس كان يدندن حول ذات المعنى حين قال ـ نافيا التوسط ـ : نحن قوم لا توسط بيننا     لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

لقد فاته أن الأمة قد يأتي عليها حين من الدهر تجد نفسها مقبورة وبلا صدر فضلا عن أن تكون أوسط الأمم.

إننا كثيرا ما نغلط أو نتغالط حين لا نضع في الحسبان أن بعضنا ـ حتى داخل دائرة الأنا ـ قد يتحرك في فهمه لعدد من القضايا بخلاف ما نتصوره عنه في حين نصر بعناد أن نجعل من أنفسنا مقاييس للحقيقة ومرجعية وحيدة للحق، ونحيل على نموذجنا بذاتية صرفة.

إن المرء ـ كما العادة جارية ـ يفكر ضمن أنساق سياقية محددة المعالم والنماذج، وأن حق الاختلاف الفكري والمصلحي وتعدد النماذج مما تقر به الطبيعة، وتقول به الحياة.

أليست فصول السنة: صيف خريف شتاء ربيع نماذج للطبيعة، وهي بالنهاية تتكامل تكاملا تستمر به الحياة ؟.

إننا في هذه المداخلة المتواضعة لن نعدو أن نضع بين يدي المتلقي الكريم مقاربة ومحاولة للقراءة نسهم بها في موضوع النموذج وما يعلق به من فهوم إثراء للحديث، وإثارة للنقاش، وقد اختزلنا جملته في العنوان المتقدم، ونلحق ذلك بعنصرة محاوره في نقط إشارية خاتمة:

—       إشكالات النموذج وحدوده

يقدم النموذج في أدبياتنا التراثية بمعنى متعدد فهو القدوة أو والأسوة وأحيانا المنوال الذي يحتذى والقالب الذي يصب فيه الجهد*.. ولتأثر مثل هذه الدوال للفظ أحرى أن يبحث عن شحنته المعرفية في أحواز الاستعمال تحديدا، فالنحوي واللغوي مثلا عندما يضعنا بين أن نقول كذا ولا نقول كذا، وأن الأصل في الأسماء الإعراب، وفي الأفعال البناء، وأن الاسم هو كذا، والفعل هو ما حسن فيه كذا.. فنحن هنا أمام معيار قدّ وقصّ من صميم لغة الاستعمال، وهما في حرصهما على سلامة الاستعمال الأول كما يؤثر عن العربي الصميمي يقولان لنا بصراحة هذا هو النموذج.

والقول في الحالة الدينية بعصمة الأنبياء عند أهل الأديان هو حديث متصل بكمال النموذج، وأهليته في أن يقتدى به ويتابع في طريقته، وإن الكتب السماوية وهي تثني على المؤمنين وصفاتهم وتعرض بالذم والتشنيع على المكذبة والجهلة كانت تعالج مشكلة النموذج الإنساني في أوضح صوره.

ولو قلنا أيضا إن النماذج يجب أن تكون وفق القاعدة التالية.. لا على سبيل التعيين، فالمتلقي لا بد أن يتساءل عن طبيعة النموذج المشار إليه، وما مرجعيتي في تقديم هذا النموذج وإقصاء الآخر ؟ هل هو التوافق الجمعي بيني وبينك ؟ وهو مما تسهم في تركيبته عناصر متعددة ومختلفة تصهر في بوتقة فرن التعاملات الاجتماعية.. عادات وتقاليد دين جغرافيا..

وقد لا أكون مع الأغيار على نفس الموجة لغياب عنصر التوافق الجمعي ، بحيث أنه لكل ثقافة مثلها ونماذجها وأعلامها، وتتقارب النماذج الإنسانية الخالدة بقدر ما خدمت هذه الإنسانية وقدمت لها من المنجزات الإنسانية الحيادية القيم وهي قيم مشتركة متسالم ومتصالح عليها أشاد بها الأنبياء والرسل ونوه بها المصلحون، وأنشئت بها الأمم والدول لأن هناك حقا لا جنسية له ولا دين له ولا وطن بل هو قيمة أممية مشاعة يتعاظم بها البشر ويتنمذجوا في أعين الجماهير ومجتمعاتهم بقدر ما نالوا من حظها، وما تمثلوه منها قناعة وسلوكا، لقد سئل " برنارد شو " هذا السؤال : هل قرأت أدب النفس لأرسطو. فقال : لقد قرأت أدب النفس لمحمد لأن أدبه غير البشرية، وأحيى من العدم من كانوا رعاة للغنم فصاروا رعاة للأمم.

فهذا الرجل رغم أنه ينتمي إلى ثقافة غير الثقافة، ويحمل في قناعاته نماذج مغايرة إلا أن النموذج الرسالي للرسول الأعظم الحافل بالقيم الأخلاقية جعل منه نموذجا أمميا عالميا خرج عن دائرة المحلية والقطرية، فعاد ملكا للبشرية وعقلاء الإنسانية. 

وهناك حالات مغايرة لا يمكن فيها قراءة النموذج بسعة أفق، ونظرات متسالمة بمثل الصورة الأولى، وإنما يركز فيها على نماذج مقولبة ومعدة سبقا وفق مقادير وصلاحيات بعينها لا تتجاوزها ولا يرى المرء من أصحابها نفسه إلا من خلالها، وهنا نجد أنفسنا ـ حال الدرس ـ لسنا أمام نموذج وإنما أمام نماذج لا حصر لها وهو ما يجعل المدلول الذي يحيل عليه مفهوم " النموذج "، والحال هاته مطاطا لأنه يحتمل أكثر من مقاييس حاضرة بجملة من الحوامل المفاهيمية القارة في الذهن على نحو من الأنحاء التي يقرأ حيالها نمط النماذج المعروضة علينا.

والظاهر أن النمذجة هي بصورة عملية أكثر التصاقا بالواقع في حس الناس ـ ولا نتحدث هنا عن المثاليين ـ لارتباطها بالممارسة منها بالنظرية وإحالات القواميس ومدلولاتها، ولما كان الإنسان أكثر انجذابا للمادة بجملة أشكالها وصورها من ميله للتجريدات وللغيبيات نراه يعمد منهجيا إلى تحرير المجردات المعنوية من خلال التماسها في الشاهد المادي فمثلا عندما يتحدث أحد الباحثين في الحقل العلمي عن نشأة الاضطرابات العصبية والنفسية عن المكبوت الغريزي ومراكماته لا يجد مصادق لنموذجه إلا بحال البخار المتسرب والمنبعث عبر شقوق المرجل في آلة البخار إظهار للمرض وتصويرا لنموذجه حتى يكون حضوره الذهني مستوفى.

وهي حالة نمطية تقتضيها أحوال الفكر، وتشهد لها اللغة في واقع الاستعمال اليومي حتى إننا لنرى كثيرا من خواص الناس وعامهم ـ حال حديثهم ـ من يعالج المعاني بإنزالها في شكل صور بيانية وتشبيهات وتمثيلات كزيادة في توصيف النموذج، بحيث إذا أغلق على الواحد منهم باب تعقل حقائق الأشياء المجردة عمد بطبعه الفطري إلى تجسيد نماذج ذلك وتشخيصها، ولعل من أمثلة ذلك الأكثر حضورا وألفة ثنائية الخير والشر في كل مسيرة الحياة الإنسانية حيث تواتر هذان المفهومان في كل ثقافات الشعوب والأمم، ورغم كرار الدهر، وتطاول الزمن ظل المعنيان يحتفظان بنفس النسق الفكري كل منهما على حدة، ولا يمكن التدليس بهما على الآخر إلا مكرا ولزمن قصير وسرعان ما ينكشف الحق فيهما من الباطل، ويتمايز النموذجان ولو بعد حين.

منذ أقدم العصور غدا نموذج الخير والشر عنوانين كبيرين يدرج تحتهما تصنيفا كل مفصل من مفاصل الحياة الإنسانية في هذا الوجود، وقضت أعراف الجماعة البشرية أن تثبّت لهما مثالين رمزيين تقيس بهما ما يشكل عليها:

الأولى رمزية الشيطان والتي قد تحضر في الذهن حال تملي المواقف، واستدعاء الرسم بصورة مادية ذهنية كثيرا ما نحتفظ بها لأنفسنا دون أن نعلن عنها خشية أن نرمى بالتجني، وهي بالنهاية تعكس مواقف نترجم عنها حين نجد أنفسنا نفكر بسلبية مفرطة. 

والرمزية الثانية تختزل نموذج الملاك في صورة على النقيض من الأولى، وهي تعكس حالا من أحوال التفكير عندما نفكر في مواقف بإيجابية زائدة عن الحد، ومن سبيل هذا ما يشيع في الكنائس مثلا من رسم لصور ملائكة ذات أجنحة تتقاطع بصور صبيان صغار على درجة كبيرة من الوضاءة والصباحة والجمال كلهم وداعة وبراءة، وما من أحد يجادل في أنها صور للملائكة، أو يتورط في هكذا برهان، كل ما هنالك أن هذا من عمل الفكر وليس بين أيدينا من صور الترميز للبراءة والطهر أقوى رصيدا من وجه صبي* بهي الطلعة، معتدل القسمات، وادع النظرة ثم تضاف إليه أجنحة تغدو مثالا للتسامي والرفعة والتحليق إلى ملكوت السماء.       

إننا حال الجمع بين النموذجين المتقدمين سنجد أنفسنا بالواقع محصورين بين طرفي هذه المعادلة بحديها الاثنين حيث يتحرك نموذج الأنا في هذه الثنائية كما نصطلح عليه وكما نريده ولو في حساب النظرية، ونموذج الآخر الذي كثيرا ما نشعر بالرضا ونحن نضع له صورة نمطية نركنه فيها قد تكون بالسلب كما هو الغالب، وقد تكون بالإيجاب على حسب الحالة ونمط الموقف ونظرتنا للأشياء،

وعين الرضا عن كل عيب كليلة*  وعين السخط تبدي المساويا

 ولا بأس من استبيان ما هو بسبيل هذا المعنى من قاعدة السلوك الأخلاقي الذي نحجمه كما أشرنا في حدين:

الحد الأول : ويمثل النموذج العالي المتسامي، الذي يسفر عن نقصانية النموذج الإنساني، وهذه النقصانية هي التي تشعره بالحاجة إلى نشود الكمال، بحيث لو كان كاملا لما فكر في شيء اسمه الكمال بالمرة.

إنه شعور لا يختلف تماما عن شعورنا بالعطش الذي يعني لنا حاجتنا للماء، وكما يحوجنا الجوع إلى ضرورة الطعام، وهي قوانين كونية تحكم الإنسان وحركته في الحياة.

وأما النماذج التي نتوخاها دون أن نتمثلها في واقعنا المبدئي ولا السلوكي فقط نعيش أنفسنا في أنفسها، كونها تعبر عنا حين نفشل عن التعبير عن ذواتنا بذواتنا، وسنبدو مثار سخرية عندما نتحدث عنها بحماسة، ونخالفها بسفور وفجور.

غير أن نظرتنا للنموذج تبقى مرهونة برؤيتنا الذاتية ـ في الغالب ـ للأشياء وتقديرنا للأمور، وحتى في هذه الحالة لا يمكننا أن نزعم أن نظرتنا تلك هي من عمل أيدينا، وصنيع إرادتنا لأننا بالواقع مشاريع مختزلة أسهم في تشكيل الجانب الأكبر منها المجتمع أو بمعنى آخر نحن أبناء بيئاتنا، ووسطنا الثقافي، وإن وجدت نماذج شردت عن هذه القاعدة فهي لا تعدو أن تكون الاستثناء الذي يثبت تلك القاعدة، لأن المعنى القائل في أدبيات الاجتماع : " إننا عندما نتكلم فإن المجتمع هو الذي يتكلم من خلالنا " ، نتصوره أكثر انطباقا على القاعدة العامة للسلوك الاجتماعي في العادي من أحوالنا، ولذلك فإن هذا المعنى يتجلى أكثر ما يتجلى في واقع حياتنا اليومي، ولنعتبر بحال الأفراح،  والأتراح أين سنرى الفرد فيها ابن مجتمعه يمارس طقوسه بجبرية نادرة حتى لو كان رافضا لها على مستوى النظرية.

وأظن أن المثال الدارج: " اصنع كيما صنع جارك، وإلا غيّر باب دارك " فيه إشارة صريحة لهذا الناموس القاهر الذي لا ينجو من فتكه إلا قلة قليلة قد تصمد وتعارض، ولكنها تبقى بمنظار المجتمع متهمة ومتمردة كونها تحاول الظهور بمظهر المتمرد على النموذج الانطباعي السائد في المجتمع ففي أعراسنا مثل نسلك نمطا نموذجيا من الأعراف باطنه كلفة وتصنع ، وظاهره مواكبة الموضة والتنافس في الظهور بمظهر الأحسن والأفضل، وكلها تعكس في اللاشعور الجمعي نوعا من الوفاء للمجتمع بتمظهراته التي يريدنا أن نبقى أوفياء لها ، ولا يسلم حتى نموذج الفقراء في تقليد الأغنياء .

وهذه النماذج المقولبة مجتمعيا لا يحاد عنها لا الرجل ولا المرأة على حد سواء، ولو يستحضر الواحد منا أمثلة ذلك على وجه التعديد لولى فرارا ولملئ رعبا من حجم التعقيدات والتشديدات التي تحكم مثل هذه العلاقة، فيكون المرء بعد زواجه أشبه بمن قدر له أن يخرج من عنق الزجاجة*، وليس حال الأتراح بأحسن حال من الأفراح في مجتمعاتنا وما يصحب ذلك من طقوس وأعراف لا أول لها ولا آخر والظاهر أن الفرق بين النموذجين في الحالة الاجتماعية هو كالفرق بين حرف ( الفاء . والتاء ) في اللفظين.

الحد الثاني : ويمثل في قاعدة السلوك ـ كما أشرنا ـ النموذج الناقص الذي يقع على الجهة المقابلة للأول على قاعدة الشيء بالشيء يذكر، وقد مثلنا للنقيضين ـ كما ألمعنا قبل على سبيل البيان ـ بنموذج الملاك، ونموذج الشيطان، وكلاهما نموذج يقرأ في سياقه، ويستحضر لوازمه وامتداداته في الثقافات المجتمعية والإنسانية بعامة.

وعموما تبقى النماذج حيال المواقف متباينة مما يعني نسبيتها ولكل نموذج أتباع ومريدون ، ونحن لا نعرف على أي نحو من الأنحاء يقدر لهذا النموذج أن يعيش ويتسع في واقع الناس، ولا نعلم ما الأسباب الكامنة وراء غياب نموذج بحيث لا يعود يذكر إلا للتاريخ أو في مقامات الوعظ والترشيد، ولعل مقالة أحد الفلاسفة عن سؤال له عن مراد الله من خلقه، فقال : ما هم عليه، ولهذا سنرى من يتخذ نموذجه حتى في مقام الاعتقاد النار، أو البقر، وحتى الشيطان، ويخلص لهذه النماذج ما وسعه الإخلاص، ويستميت في الدفاع بحرارة عن نموذجه الذي قد يقتنع به، وانطلاقا من هذا الإلزام يمكن أن نصنف هذا النموذج تبعا لقناعاته.  

ثم إن نظرتنا لنماذج الآخرين، ونظرتهم لنا من خلال نماذجنا نسبية بحيث لا توجد في المسألة حديات فاصلة على طريقة استعمال البرجل والمسطرة والورقة لقياس الزوايا، وتحديد الأبعاد  فنتصور أن نماذجنا نشأت معنا، وكبرت في أذهاننا منذ كنا في حجور الأمهات، وأن الناس يتوارثونها أبا عن جد، وبالتالي فالعمل الاختياري القائم على الدرس والبحث في الموضوع قليل، فالناس مسيرون اجتماعيا في ذلك، كما هو الغالب على مجموع الأفراد والجماعات، حيث نجد أنفسنا أمام نماذج مناطقية وجغرافية كما تشي به الحالة العامة التي عليها التجمعات البشرية، ولا مناص من إعادة ترتيب الأمور وإصلاح القناعات وتغيير نمط النماذج إلا ببعث الأنبياء، وظهور المصلحين حيث يلاقون الأمرين من أقوامهم، وما ذلك إلا لاستحكام النماذج المتوارثة والمقلدة من الطبع والأنفس. 

وإن استحضار صورة نموذج ما تستدعي جملة من متعلقاته، ويتحدد من خلال هذه المتعلقات نمط المواقف، وطبيعة الثقافة وزاوية النظر، وإذا كان الناس على الرأي القائل : كل مليحة بمذاق، فإننا واعتمادا على مفهوم المخالفة نحرر بالموازاة ما يفيد أيضا : أن كل مستهجن بمذاق.

ولعل اعتماد المثال التالي أفضل ما يقرب من مجال إدراكنا هذا المفهوم ذلك أننا لو أجرينا مسابقة بين رسامين رجاء أن يرسموا لنا صورتين نموذجيتين للقبح والجمال: فلا شك أن الأولى ستكون مختزلة للقباحة في أسوأ شكل، وأبشع نموذج، والثانية تقوم على رسم صورة للجمال في أحلى صورة، وأكمل شكل، وكل ذلك في حدود التصورات البشرية المحدودة بحدود الثقافة والخبرة.

ولو حاولنا تثمين الجهدين وبادرنا بوضع جائزة تكريمية للعملين، فدون شك سيكون الحاصل على جائزة المثال الأول هو من أغرق في تشخيص مفردات القبح بجلاء في أبشع صورة للشيطان، وتكون صورة الثاني على النقيض من ذلك على خط مستقيم كوننا في سياق الحديث عن الجمال والكمال (الملاك)، وهنا يرتقي الراسم في نسبة كل قيمة جمالية إلى النموذج الملاكي.  

إن هذه الحدية المصنفة بالتقابل بين نموذجين مختلفين وإن كان الواحد منهما يجسد حالة إثبات للآخر نراها حاضرة في مفاصل حياتنا الخاصة كأفراد وحياتنا العامة كمجتمعات، ثم إن تلك الحياة العامة أكثر حضورا بنماذجها في واقع الأفراد وهم أشد انشدادا إليها في وعيهم الباطن وفي لا شعورهم الفردي ذلك أن تأثير المجتمع بجملة توجهاته سيف مسلط على رقاب الأفراد لا يرجون من سلطته فكاكا إلا نادرا حيث يعمل المجتمع على فرض سلطته وقولبة أفراده وفق نماذج معرفية، وأطر فكرية منذ النشأة الأولى وينوب عنه في هذه المهمة ابتداء الوالدان أو الأسرة الصغيرة وهي بالنهاية تعد عينة مصغرة أنتجها المجتمع ليمارس من خلالها فرض تلك السلطة القهرية على الناشئ الجديد، ولا فرق بين مجتمع متحضر أو ثالث فلكل منهما طريقته في الهداية لنماذجه. 

إننا نتصور أن ثقافة الإنسان هي ثقافة موروثة في الجانب الكبير منها وهي لا غيرها من يتجلى في شكل نماذج حية متحركة تعيش معنا، ونعيش معها في الجامعة في المكتبة في السوق.

ولننظر ـ على سبيل التمثيل ـ في جانب من جوانب الاجتماع التي تبدو أكثر اختصاصا وتحديدا ومنها الحالة السياسية، وفيها نفترض وجود مرشحين في حملة انتخابية لعهدة مؤسسية من مؤسسات الحكم ما ذا سنلاحظ ؟

سيحرص كل واحد منهم على إخراج ما يمتلك من كفاءات علمية، ثم يبشر بنظافة ماضيه، ويشيد بطهارة يده،  ولا يفوت شاردة ولا واردة مما قد يراه يقوي رصيده ويزيد من نقاطه عند جماهيره إلا سلط الضوء عليه ويحيط نفسه بهالة من الوعود والأماني، وهو في كل هذا يرنو إلى أن يكون النموذج الأفضل في أعين من يحتملهم بحملته الانتخابية، ويحاول الظهور في نظرهم بصورة المميز عن منافسيه أي نموذج لا كالنماذج المعروضة.    

ولذلك عندما نقف مثلا أمام صورة لأحدهم سنراه عمليا يضع مصنفة تحوي جملة من الشرائط التي يفترض أن يكون عليها النموذج المتوهم في قناعة الناس وفكرهم، فسنجد مثلا مكتوبا بالبند العريض بين يدي الصورة : النزاهة، الكفاءة، الالتزام، الأخلاق، الابن البار، المستقبل.. وإلى ما هنالك من هذه العمولات النافقة في سوق الساسة، وما دخل في حكمهم.

إن النماذج التي كثيرا ما نتماهى معها ونتصور أنها تترجم عن أخلاقياتنا ومثلنا فهي ـ كما أشرنا من قبل ـ تتوافر على سقف كبير من الجاهزية والقدرية كوننا اخترناها إملاء وتنشئة، ويتبدى هذا  بشكل أوضح فيما لو فكرنا بعزم في لحظة من اللحظات في التمرد والرفض مثلا لنموذج من نماذجنا الثقافية المصطلح عليها في الضمير الجمعي، ورميناها بالبؤس محددين ما لها وما عليها لوجدنا من أنفسنا من ينكر علينا، والظاهر أنها سنة تكوينية تتكرر بالمعنى القرآني ) إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون( (1) .

وهذا حين ينتقد النص القرآني بحدة الجمود الذي يريد ضحاياه إيقاف عقارب الساعة وتوقيف حركة الزمن في الحالة الماضوية والانكفاء عليها على طريقة ليس بالإمكان أفضل مما كان.

وبالواقع إننا حين نجتلي الأمر بعين فاحصة سنجد أنفسنا نتحرك في محيط ما ننتقد من نماذجنا الثقافية في المبادئ العامة ـ على أقل تقدير ـ كوننا نعيش داخل أسوارها حتى ونحن نخاصمها، بما تكلس في أذهاننا عنها، وحتى في حال موازنتها بغيرها فهي نماذج حاضرة في أذهاننا شئنا أم أبينا.

إننا لم نختر مثلا العيش وسط تلك النماذج لأننا ومنذ وعينا وجدنا أنفسنا بينها، ثم إننا ومرافدة لهذا المعنى لم نختر بالمرة ساعة ميلادنا ولا بقعتنا الجغرافية، ولا عائلاتنا، ولا مجتمعاتنا، ولا ما رضعناه ثقافة وفكرا من وسطنا الاجتماعي من عهد التمائم إلى عهد العمائم، وهي كلها حلقات مساهمة في تخليق نموذجنا اجتماعيا.

وإنه لو قدر لأحدنا أن يزداد في مجتمع بوذي أو هندوسي، أو مسيحي، أو يهودي لكان على دين قومه وتشبع بمبادئ تلك الطوائف وأفكارها، وبالتالي فلا معنى لإدعاء ملكية الحقيقة في المستوى البشري إلا بعد البحث والدرس والتمحيص للوصول إلى الحقيقة التي تتولد عن قناعة شخصية باعتبارات ذاتية وموضوعية، ويكون المتحدث في أحسن أحواله يحيل على قناعاته وأفكاره التي طبع عليها فانطبع بها وكثيرا ما تكون نفس الفرد هي موضوع حديثه، ودائرة اهتمامه في الغالب وهو الذي يغيب عن بال الكثير.  

ولعل هذا مضمون الحديث النبوي : يولد المولود على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " .

ففطرته هنا ليست سوى مؤهلاته الإنسانية التي تجعله متميزا عن عالم الحيوان الأعجم، وتبعده عن عالم الأشياء. الأمر الذي يعزز موقعه ويثري رصيده القيمي الإنساني باعتباره يحمل رسولا باطنا خالدا هو العقل حيث سيرشحه عن اقتدار لأن يستعيد قراءة ـ في الصورة السوية ـ مراكماته التلقينية قراءة ناخلة واعية عندما يكبر ويرشد فيمايز حينها بين الغث والسمين، والجليل والضئيل، وبسبيل هذا المعنى قول الشاعر :

وينشأ ناشئ الفتيان منا       على ما كان عوده أبوه.

ما دان الفتى بحجى ولكن     يعوده التدين أقربوه                              

فأول ما ينفتح الطفل في الوجود على بيته ونموذجه الشاخص في ذويه، فترتسم في ذهنه معالم الحياة وصورها مما يراه من واقع حالهم، وطرائق معيشتهم ، فتغدو نفسه نفسا منفعلة بكل تأثيرات بيئته تلك وأشكالها، فيكون نموذجه والحال هاته قابلا للتعبئة كما تعبأ القوارير بالسوائل وللشحن كما تشحن البطاريات.

وما أن يخف تأثير الأسرة مع الزمن والنضج العقلي حتى ينخرط الناشئ في محيط مجتمعه الكبير المتلاطم بأمواج لا حصر لها من التناقضات الحادة سواء في التعامل وقواعد السلوك، أو في تركيبة المجتمع الطبقية : أغنياء فقراء، أميون متعلمون. أشراف ومنبوذون.

إنها فسيفساء تتوزع فيها كل أنواع الطيف من النماذج التي تغدو معرضا كبيرا للقبح والجمال، وللقدوة والنفرة.

وإن إخفاق الأفراد في تمثل نماذج مجتمعهم والتماهي مع مثلهم دليل إخفاق منظومة المجتمع الثقافية ابتداء، ولهذا كان مالك بن نبي يشير في مقارباته إلى أن الفرد مشروع مجتمعه ابتداء، ويضرب المثل التالي : " هب أن إنسانا.. يأتي للوجود كائنا بشريا.. فإن هذا الكائن سيوضع في احتمالين

                    1.        احتمال أن يأتي إلى الدنيا على محور واشنطن، موسكو.

الآن يمتد إلى طوكيو.

      2.        احتمال أن يأتي إلى الدنيا على محور طنجة جاكرتا.

فعلى المحور الأول يدخل هذا المولود تحت قانون الإحصاء فهو

مثلا في أمريكا متعلم بنسبة 95٪، في فرنسا أكثر قليلا، في ألمانيا أكثر، 190٪ الاتحاد السوفياتي إلى حد ما، في اليابان 100٪، نسبة العمل .

       لكن لنتوقف عند الضمانات الاجتماعية:

1.   التعليم 2. العمل مثلا 85٪ .

أما في المحور الثاني طنجة جاكرتا فإن هذا الطفل سوف يدخل

margin: 0cm 0cm 6pt; text-align: justify; text-justify: ka

المصدر: مشاركة شخصية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 115 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2012 بواسطة makhbarsaida

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

9,496