ورحل الأستاذ عبدالرحمن محمد الشدى (<!--)
وما الناس إلا راحل بعد راحل *** إلى العالم الباقي من العالم الفاني
آجال بني آدم مَخفيَّات في ضمير الغيب لا يعلمها إلا الله سبحانه جلَّ ثناؤه أخفاها لحكمة ولعمارة هذا الكون الرحب، ففي الآونة الأخيرة من هذا العام تتابع رحيل الكثير من أقربائنا ومعارفنا وجيراننا، فبالأمس القريب رحل ابن أخي محمد الأستاذ الحبيب عبدالعزيز -أبو محمد -وما لبث أن لحق به عميد أسرتنا العم عبدالرحمن بن ناصر الخريف، ومنذ أيام قلائل غادر الحياة الأخ حمد بن عبدالله بن موسى الماجد أحد جيراننا سابقاً وفي يوم الخميس الموافق 25/4/ 1434هـ حمل إلينا الهاتف نبأ وفاة الصديق الأخ الكريم عبدالرحمن بن محمد بن عبدالمحسن الشدي الذي وافاه الأجل في ألمانيا وقبله وفاة والدته -رحمهم الله جميعا -ولقد تراكمت الأحزان في نفوسنا تحسراً على سرعة غيابهم عن نواظرنا، ولسان حال البعض يردد معنى هذا البيت:
تعزَّ فلا إلفين بالعيش مُتّعا *** ولكن لورّاد المنون تتابعا
ولم يعلم عبدالرحمن بن محمد أن روحه ستغادر جسده هناك بعيداً عن وطنه مهوى رأسه وعن أُسرته وأهله ومحبيه، وصدق الله العظيم بقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان، وكأني بأبي فهد عندما سمع تحاور أطباء مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض يتحدثون في شأنه باللغة العالمية الإنجليزية -ظناً منهم أنه لا يفهم ما يدور بينهم -علماً أنه يجيد نفس اللغة-، وحيرتهم في كبح جماح المرض الذي حلّ به فجأة..، وقد أوصوا بأن يذهب به إلى الخارج على جناح السرعة علّ الله أن يشفيه، كمحاولة أخيرة..، فنزل ذاك الحوار وتصريح الأطباء في نفسه كالصاعقة الملتهبة على قلبه، أو كالبركان متلاطماً بين جوانحه تفجعاً وتوقعاً لدنو أجله وغيابه عن أحب الناس إليه..، وقد بادر شقيقه الشيخ عبدالله بجميع إجراءات سفره، وحجز جناح في أرقى مصحات ألمانيا لعلاجه، ولكنه لم يمكث طويلاً حتى غادر الحياة مأسوفاً على فراقه -تغمده الله بواسع رحمته -.
وعندما حضر أبناؤه وإخوته وأخواته، وخاله إبراهيم بن صقيه، وعقيلته أم عبدالله، لتوديعه قبل إقلاع الطائرة به انتابه شعور غير عادي هزَّ كيانه فلم يتمالك دفع عبراته باكياً..، لا يعلم ما الله صانع فيه.. وقد أجهش الجميع بالبكاء في تلك اللحظات النهائية الحاسمة الموجعة لقلوبهم -كان الله في عونهم جميعاً -فما أقسى لحظات الوداع وأمرّها على القلوب.. ولقد ولد في مدينة حريملاء، وعاش بين أحضان والديه وإخوته، ورفاق دربه وصباه، وختم القرآن الكريم بالكتَّاب، ثم حصل على الشهادة الابتدائية بحريملاء ودرس بالمرحلة المتوسطة خارجها مع حصوله على دورة تمريض بالمنطقة الشرقية، وقد أخذ نصيباً من العلوم والثقافات العامة أهّلته للانخراط في السلك الوظيفي، ومزاولة الأعمال الحرة.., وعندما رأى الكثير من شباب حريملاء وما جاورها يؤمون المنطقة الشرقية للعمل لدى شركة أرامكو، فاستفاد لغةً مشافهةً وكتابةً وبعض المصالح الحكومية وقد حسنت أحوالهم المادية وتوسعت آفاق المعرفة لديهم؛ فلم يجد بداً من التوجه إلى هناك مُتذكراً قول الإمام الشافعي:
مـــا في المقام لذي عقــل وذي أدب *** من راحة فــدع الأوطــان واغترب
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه*** وانصب فإن لذيل العيش في النصب
فالتحق بالعمل لدى شركة أرامكو فترة من الزمن.. فاستفاد لغة مشافهة وكتابة..
بقدر لغات المرء يكثر نفعه*** وتلك له عند الشدائد أعوان
ثم عاد وعمل بوزارة الدفاع عدداً من السنين، بعد ذلك عمل بوزارة المعارف مدة عام، كما عمل بوزارة الصحة مثل ذلك، وعند افتتاح جامعة الملك فيصل بالأحساء عام 1395هـ التحق بالعمل في كلية الطب بمدينة الدمام حتى تقاعد عام 1402هـ وكان رحمه الله جاداً في جميع الأعمال التي زاولها في السلك الوظيفي كثيرة المواقع، ومحبوباً لدى رؤسائه وزملائه لما يتحلى به من أخلاق عالية وإخلاص في أعماله كلها.. فقد عاش عصامياً مُكافحاً ومعتمداً على الله في طلب المعيشة والكدح منذ مستهل حياته، وتحمل مشاق السفر ووحشة الاغتراب عن أهله..، وكان بارّاً بوالديه واصلاً لرحمه حَسُنَ التعامل مع الغير، دمث الأخلاق عزيز النفس، مُعرضاً عن مساوئ الناس ميالاً للفكاهة والمداعبات الخفيفة مع صحبة وجلسائه.، وفي آخر أيام حياته أخذ يقضي جلّ وقته منعزلاً وقته في مزرعته التي هي عبارة عن بستان وحديقة غنَّاء.. حافلة بأنواع النخيل المنتقاة جيدة الثمر..، وعلى جوانبها عدد من أشجار الفواكه كالعنب والحمضيات وزهور، وورود يعبقُ أريجُها في نواحي ذاك البستان كما يوجد لديه الكثير من أنواع الطيور والمناحل التي تَمُجُّ لذيذ العسل:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه *** وإن تُعب قلت ذا قيء الزنابير !!
وكان يمنحني من ذاك العسل المصفى بحكم القرابة والصداقة منذ الصغر -رحمه الله رحمة واسعة -فهو يأنس ويستمتع بتلك المناظر الخلابة مع شَم الروائح الزكية التي تنبعث من الزهور..، ومن صفاته المحمودة الأناقة والاهتمام بمظهره العام وهندامه مُبتعداً عن التبذل في ملبسه ومشيته، وكان يساهم في الأعمال الخيرية محافظاً على أداء الصلوات في أوقاتها وكان يحضر مبكراً صباح كل يوم جمعة ويقوم بتطييب المسجد والمصلين بفاخر العود الهندي المريح للنفوس..
وعندما أحس بدنو أجله في بلاد الغربة تحسّر على رحيله بعيداً عن وطنه و أهله وعن أحبّ الناس إليه وكأنه يردد شطر هذا البيت بكل حزن وتفجع:
«أين من عينيَّ هاتيك الديار» ثم أغمضهما هادم اللذات وذلك يوم الخميس 25-4-1434هـ.
وكل مصيبات الزمان وجدتها*** سوى فرقة الاحباب هينة الخطب
وعند إحضار جثمانه الطاهر من ألمانيا أديت عليه صلاة الميت بعد صلاة يوم الجمعة 26-4-1434هـ ، بجامع الحزم بمحافظة حريملاء، وقد صلى عليه جموع غفيرة ضاق بهم المسجد وساحاته، وقد حضر الكثير منهم من مناطق عدة ومن البلدان المجاورة والعزاء في ذلك أنه ترك ذرية صالحة تدعو له وذكراً حسناً، تغمده الله بواسع رحمته، وألهم ذريته وأبناءه وبنات وإخوته وأخواته وخاله إبراهيم الصقيه وعقيلته -أم عبدالله -وجميع محبيه الصبر و السلوان.
رحم الله زميلي الشاعر الأديب عبدالعزيز الرويس(<!--)
الدهر لاءم بين ألفتنا *** وكذاك فرّق بيننا الدهر
كل يوم نفاجأ برحيل غالٍ الواحد تلو الآخر، فجادة الموت عامرة بسالكيها من قوافل الراحلين رجالاً ونساء شباباً وشيبا، فالموت لا يبقي على أحد مدى الليالي والأيام إلى قيام الساعة، فبينما هاتفت الأخ محمد بن الزميل عبدالعزيز بن عبدالله الرويس للاطمئنان على صحة والده حيث كان يقيم بمستشفى الملك خالد الجامعي ما يقارب العام يكابد عقابيل المرض وأسقامه فأجابني ابنه البار.... وهو يكفكف عبراته قائلاً: عظم الله أجرنا وأجرك في زميلك والدنا، حيث صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها قبيل غروب شمس يوم الخميس ليلة الجمعة 2-5-1434هـ -رحمه الله -ولقد ولد يتيماً في بلدة اليمامة بمحافظة الخرج، فاحتضنه بعض أقربائه، وتعلم في إحدى الكتاب وختم القرآن الكريم وحفظ معظمه، وقد وهبه المولى ملكة الحفظ وحب سماع ما يلقى في مسجد محلتهم من أحاديث ودروس وما يقرأه الإمام في بعض كتب المطولات.. قبل الإقامة لصلاة العشاء كل ليلة فنما لديه حب العلم وطلبه لأجل أن يتناسى وطأة اليتم المبكر وحرمانه من حنان أبويه وليهيئ نفسه لحياة ومستقبل مشرق، وكأنه قد سمع قول الشاعر:
وإنما رجل الدنيا وواحدها *** من لا يعول في الدنيا على رجل
فلم ير بداً من الشخوص إلى مدينة الرياض والالتحاق بحلقات دروس العلم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بمحلة (دخنة) لتلقي مبادئ العلم لدى فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم بعد صلاة الفجر مباشرة في غربي المسجد، وبعد طلوع الشمس الاتجاه إلى شرقي المسجد لدى سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وقد سكن في إحدى حجرات البيوت التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -بتهيئتها لطلاب العلم مع صرف مكافأة لكل طالب حسب مستواه العلمي ترغيباً لهم، فاستمر -أبو محمد -ينهل من حلو رضاب العلوم، وعند افتتاح المعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ التحق به مواصلاً الدراسة به حتى نال الشهادة الثانوية عام 1374هـ ثم التحق بكلية اللغة العربية ونال الشهادة العالية بها عام 1378هـ ونعتبر ثاني دفعة بنفس الكلية وعددنا لايتجاوز العشرين متخرجاً.. ثم وجه قاضياً بالرياض، فما كان منه إلا أن أعد قصيدة جزلة المعاني موجهة إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم الرئيس العام للمعاهد والكليات، أبدى فيها اعتذاره عن العمل في سلك القضاء وتوجه للعمل بوزارة المعارف، ثم أعد سماحته خطاباً موجهاً إلى وكيل وزارة المعارف – آنذاك -الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ مثنياً عليه فقال الشيخ عبدالعزيز للزميل -أبو محمد -خطاب سماحة الشيخ محمد وثناؤه عليك نعتبره أعلى شهادة، وقد تدرج في عدة مناصب إدارية وتعليمية حتى أصبح مديراً عاماً للثقافة وأمينا عاماً للمجلس الأهلي لرعاية العلوم والفنون بوزارة المعارف
- آنذاك -حتى تقاعد كما أنه قد أعير عضواً للتدريس في البعثة الجزائرية في أواسط الثمانينيات هو ونخبة من الزملاء، وكان له نشاط ثقافي ملحوظ هناك فهو محبوب لدى طلابه وزملائه، فالشيخ معروف بتواضعه الجم وسعة أفقه الثقافي والأدبي، وله ديوان (حصيد الزمن) حافل بغر القصائد جزلة المعاني وضافية الخيال البلاغي والأدبي، وشعره يحاكي شعر فحول شعراء العصر العباسي جودة وأسلوباً، ومن مؤلفاته بعض الكتب الدينية المدرسية وله نشاطات أخرى دينية وشعرية، وقد استقيت بعض هذه المعلومات من شريط سبق أن سجلته عنه في برنامج «أوراق شاعر» وقد ذكر في مستهله بعضاً عن سيرته - رحمه الله -:
ولي معه ومع الزملاء الذين سبقونا إلى مضاجع الراحلين أجمل الذكريات وأحلى أيام العمر، فالزملاء لهم مكانة عالية في شعاب النفوس يدوم بقاؤها، ولا ننسى تلك الرحلات التي نقضي أيامها ولياليها في نواحي مدينة الرياض، وفي ربوع منطقة الخرج ومتنزهات السيح في أجواء مرح وفرح بصحبة أولئك الزملاء الذين غاب معظمهم عنا تحت طيات الثرى -رحمهم الله -وأسعد من بقي منا. وقد كنت أزور الزميل الشيخ عبدالعزيز الرويس في مرضه على فترات وهو يرقد في مستشفى الملك خالد الجامعي للاطمئنان على صحته، فيكثر الدعاء لي ولأسرتي، وأحاول أن أذكّره ببعض المواقف الطريفة مع أساتذتنا الأجلاء، ومع الزملاء الفضلاء داخل الفصول الدراسية لإدخال السرور على نفسه، وإيقاظ الخلايا الذهنية لديه، فتتهلّل أسارير محيَّاه مُومياً بمقدمة رأسه، وبداخله ما به من تحسر على تعذّر عودة تلك الأيام الجميلة التي مضت ولن تعود أبداً، ومحاجر عينيه تجول بهما الدموع، ولسان حاله في تلك اللحظات الحزينة يردد معنا هذا البيت:
ما أحسن الأيام إلا أنها *** يا صاحبي إذا مضت لا تعود
وعندما هممت بالانصراف مودعاً له -وكان هو الوداع الأخير -أخذ يكرر لحظ عينيه نحوي محركاً شفتيه بالدعاء لي وكأنه يقول وداعاً أبا محمد، فدفعت دمع عيني أمامه حتى خرجت من غرفته، ولك أيها القارئ الكريم أن تتصوّر حالي في تلك اللحظة وأنا أودع صديقي ورفيق عمري الدراسي:
حبيب عن الأحباب شطت به النوى *** وأي حبيب ما أتى دونه البعد
وما لبث أن توفاه الله آخر يوم الخميس في 2/5/1434 هـ وأديت عليه صلاة الميت بعد صلاة الجمعة 3/5/1434هـ بجامع الراجحي، ودفن جثمانه الطاهر بمقابر حي النسيم بالرياض:
فيا ثاويا قد طيب الله ذكره *** فأضحى وطيب الذكر عمرٌ له ثان
رحمه الله رحمة واسعة وألهم ذويه وأبناءه وأختيه ومحبيه الصبر والسلوان.
الشيخ علي بن داوود ما يزال ذكره طرياً (<!--)
وأحسن الحالات حال امرئ** تطيب بعد الموت أخباره
يفنى و يبقى ذكـــره بعده ** إذا خلت من شخصـــه داره
من الناس من إذا بات تحت طيات الثرى نسي واندثر ذكره كأن لم تسر به قدماه على سطح الأرض يمنة وشمالاً وتحركه شرقا وغرباً، على حين أن الكثير من العلماء الأفاضل ومن لهم باع طويل في الأعمال الخيرية يظل ذكرهم حياً تردده الأجيال وإن تقادم عهد رحيلهم إلى ما شاء الحي القيوم جل ذكره، وهذا يذكرنا بفضيلة الشيخ علي بن إبراهيم بن علي بن داوود الذي ولد في مدينة حريملاء في الأول من شهر محرم لعام 1300 هـ وتربى في أحضان أم أبيه ووالده إبراهيم، وعندما بلغ سن السابعة من عمره انضم إلى مدرسة الشيخ عبدالعزيز بن ناصر التريكي لتحفيظ القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب، وكان الأهالي يعملون حفلاً مصغراً لمن يختم القران الكريم له ولزملائه، فيرددون أناشيدهم : خاتمين جزء عمّ والثلاثين يكررونها مرات، فيحضر المقرئ (المطوع) لتناول طعام الغداء المعد لهم من مادة (الجريش) تشجيعاً لابنهم ولتلك البراعم، بعد ذلك اخذ يحضر الدروس بالمساجد وفي بعض مجالس العلماء - آنذاك -ثم تولى إمامة مسجد (الشهواني) رغم حداثة سنه ويصلي بهم في شهر رمضان التراويح والقيام، وله صوت جميل يؤنس السامعين والمصلين:
تبلى الحناجر تحت الأرض في جدث ** وصوتها يتلو الآيات والسورا
واستمر على ذلك مدة من الزمن ملازماً للعلماء أمثال الشيخ محمد بن ناصر المبارك في البحث والاطلاع إلى أن حصل على قدر من مبادئ العلم، ثم طمحت نفسه فانتقل إلى الرياض عام 1327 هـ لاستكمال دراسته هو وزميله والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن ناصر الخريف، وكان الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود -رحمه الله -يطلبهما ليأنس بهما ويسمع تلاوة القرآن الكريم من أفواههما بين حين وآخر أثناء إقامتهما بالرياض, فقد درس على يد مجموعة من كبار العلماء أمثال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ عبدالله بن راشد، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق كل في تخصصه -رحمهم الله جميعاً - وبعدما أنهى دراسته بالرياض عاد إلى حريملاء فجلس للتدريس والتعليم و الإفتاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودرس على يديه جملة من طلبة العلم منهم المشايخ: محمد بن مهيزع، وعبدالعزيز بن سعد بن داوود، وعبدالرحمن بن محمد بن مبارك، ودرس عليه أيضاً ابنه ابراهيم بن على بن داوود، ومحمد بن زوير، وعبدالرحمن بن حمد بن داوود، وغيرهم من طلبة العلم -رحمهم الله جميعاً -ثم بعد ذلك تولى القضاء في مكة المكرمة فترة من الزمن، وتنقل مرات قاضيا ومفتيا ومعلما وإماما بين تربه، ورنية والخرمة بأمر من جلالة الملك عبدالعزيز-رحمه الله -
وليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد
ثم أعيد إلى مدينة حريملاء فقام بالتعليم -كعادته -والإمامة بمسجد(الشهواني) حتى غرة شهر رمضان 1352 هـ وفي ذلك الوقت أمر جلالة الملك عبدالعزيز أن ينتقل إلى الدرعية مساعداً للقاضي، ومعلما هناك حيث أمضى وقته بين التعليم والقيام بأمور القضاء، وممن قرأ عليه من طلبة العلم في الدرعية لما انتقل إليها :عبدالرحمن بن محمد الحصان وحمود بن عبدالرحمن الحمود، وإبراهيم بن مرداس، ومحمد بن عبدالرحمن الباهلي، ومحمد بن إبراهيم الحيد، وفي شهر رمضان 1361هـ نقل إلى مدينة الرياض مرشداً ومعلماً ومفتياً وإماماً لجامع الغراوية في شارع السويلم, ودرس على يديه سعد بن عبدالله بن نفيسة وعبدالله الغماس، وصالح بن حمد الجاسر، وعبدالرحمن أبا حسين، وغيرهم من طلبة العلم.
فاستمر على حالته تلك حتى توقف لكبر سنه عام 1394 هـ, وله بعض مؤلفات تتلخص في تعليقات ورسائل هامة وفتاوى لأسئلة طرحت عليه وسئل عنها في الحرم المكي وفي (بلدة تربه) أيام كان قاضيا بها، وغير ذلك مما كتبه من الأجوبة والردود والفتاوى، وله مع زميله والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف ذكريات جميله حيث قضى معه ربيع عمره في استثمار الوقت بمدارسة العلوم وحفظ متونها ونصوصها عن ظهر قلب فترة طويلة من الزمن تحفهما جميعاً أجنحة الود والمسرات، وقد وعيا معا قول الشاعر الوزير ابن هُبيره الذي يحث على حفظ الوقت:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ** واراه أسهل ما عليك يضيع
فاستمرت العلاقة بينهما قوية ووطيده رغم بعد المسافة بعدما نأت به الديار عن حريملاء أثناء عمله بتلك البلدان و المناطق النائية الغربية والجنوبية، فإن تبادل الر سائل الخطية تجري بينهما على فترات رحمهما الله -، فالمحبة بينهما صافية لا يشوبها شائب، وكأن لسان حاليهما يردد معنى هذا البيت:
فإن كانت الأجسام منا تباعدت ** فإن المدى بين القلوب قريب
كما -كان ابنه الشيخ ابراهيم من زملائي في عصر الطفولة بإحدى الكتّاب لتحفيظ القرآن الكريم, وقد وهبه المولى سرعة في الحفظ والتفوق علينا - رحمه الله-, وكنت أزور والده الشيخ علي, مراراً أنا وإبنة أخيه لأمه عقيلتي أم محمد – رحمها الله -في منزلهم في محلة (الحنبلي) بشرقي شارع العطايف فنحظى بإكرامه وحفاوته بنا، ومنح أطفالنا بعض الهدايا فهو واصل لرحمه وبارا بوالديه، وقد منحه الله رحابة الصدر ولين الجانب مع الصغير والكبير، وهذا لايستغرب على أمثال (أبو إبراهيم) و كان طيب المعشر لين العريكة، قوي الذاكرة سريع البديهة والردود الفورية.. ، يشد السامعين حينما يشرع في تفسير بعض الآيات والسور بأسلوبه المبسط للعامة والخاصة وكنت أحياناً أصلي معه في مسجده الواقع على شارع آل سويلم فاستمتع بسماع تفسيره للآيات الكريمة، وتعتبر كل المواقف والمناسبات المحببة لنا معه من أجمل الذكريات و إبقاءها في طوايا نفوسنا مدى العمر، وقد انتقل إلى رحمة الله في 27/7/1394هـ بعد حياة طويلة حافلة بأعماله الجليلة والذكر الحسن, حيث صلي عليه في الجامع الكبير بالرياض، وقد أم جموع المصلين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز و دفن بمقبرة العود رحم الله الجميع رحمة واسعة, وقد خلفه في إمامة مسجده ابنه الشيخ إبراهيم رحمه الله. وقد اختصرنا هذه الكلمة الوجيزة عن حياة وسيرة شيخنا علي بن إبراهيم بن داوود خشية الإطالة – غفر الله له و أسكنه عالي الجنان.
كريم السجايا ناصر بن عبدالعزيز المبارك في ذاكرتي (<!--)
سلام على القبر الذي ضم أعظماً *** تحوم المعالي حوله وتسلم
من الرجال الصالحين من يبقى ذكره مُتجدداً رغم تقادم رحيله عن الدنيا، وعن أُسرته ومنازله..، لما تحلى به من استقامة في دينه وطيب معشره، ومن شهامة وكرم أصيل ملازم له منذ إطلالته على الدنيا وبلوغه سن الرشد والتمييز..، وكأنما خُلَقْت معه تلك السجية سجية عِزّة النفس، وحب البذل في أوجه البر، وصلة ذوي القربى والإحسان لمن يعرفه ومن لا يعرفه إذا علم بحاله..، بذلاً طبيعياً غير متبوع بِمَنٍّ أو مجاهرة، فكل هذه الصفات الحميدة مجتمعة ومتمثلة في شخص الشيخ الكريم ناصر بن عبدالعزيز بن ناصر بن محمد بن مبارك صديق والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف – رحمهما الله جميعاً- الذي ولد في بلدة القرينة – المجاورة لحريملاء من الناحية الشرقية – عام 1306هـ تقريباً وعاش بين أحضان والديه ومع لِدَاتِهِ وأقرانه، وعندما بلغ سِنَّ السابعة من عمره درس بإحدى الكتّاب حتى ختم القرآن الكريم قراءة وحفظاً عن ظهر قلب.. مما أهله للإمامة والخطابة بجامع البلد – لاحقاً –.. ، بعد والده الشيخ عبدالعزيز الذي قدم من حريملاء واستقر بالقرينة وظل إماماً وخطيباً بها ما يقارب الأربعين عاماً، فأخذ يحضر الدروس بالمساجد التي تقرأ على جماعة المسجد قبل أداء الصلوات وبعدها ولا سيما صلوات العصر والعشاء.. مراعاة لأصحاب الحِرف والفلاحة فيستفيد الجميع من ذلك..، فنمى لديه حب الاغتراف من موارد العلوم النافعة، فلازم مجالسة بعض العلماء في كلا البلدين القرينة وحريملاء فزاده ذلك تنوراً وتفقهاً بأمور دينه، وفي أثناء ذلك تولى إمامة وخطابة مسجد الجامع ببلدة القرينة عقوداً من الزمن، إلى جانب عمله في مزرعة ونخل والده، وقد منحه المولى رجاحة في العقل، وقوة في البدن في تحمل الأعمال الزراعية وغيرها، وقد جمع بين التواضع وقوة الشخصية فهو رجل مهيب يملأ العين وقاراً وهيبة، ومحبوباً لدى الخاصة والعامة لكرمه وإعراضه عن مساوئ الناس، بل انه يعتبر عميد أسرته وحبيباً لأبناء بلده عطوفاً على الصغير ورحيماً للضعفة والأيتام.. يمنح المستحقين منهم من إنتاج الفلاحة ولاسيما في مواسم الحصاد وجذاذ النخيل، فالفلاحة – آنذاك - هي مصدر الرزق، والفائض من إنتاجها يستفاد من قيمته لتأمين مستلزماتهم العامة والخاصة – فسارت أمورهم – أي كل أصحاب الفلاحة – على ما يرام في تلك الحقبة الزمنية البعيدة، كما أنه يقوم بعمل مأذون عقود الأنكحة وحل بعض الخلافات الزوجية والأسرية، ويدفع من ماله ما تيسر للمساكين وإصلاح ذات البين فسيرته عطرة – تغمده المولى بواسع رحمته – وعندما تقدمت به السن وكل أمر الفلاحة لأبنائه.. ، وفي مواسم صرام النخيل يشتري كميات كبيرة من جيد التمور ليتاجر بها، ويذهب إلى جهة الحجاز بواسطة سيارات النقل الكبيرة لبيع أحمالها مُروراً على المدينة المنورة، ثم يواصل السير صوب مكة المكرمة، واستمرعلى هذا المنوال في تسويق كميات التمور – رحمه الله – ، وكان في أثناء مروره على بعض القرى والهجر يمنح بعض الفقراء من أكياس التمر رجاء المثوبة من الله، ولسان حاله يقول "ما نقص مال من صدقة بل تزده".. وقد بارك الله فيه وفي ماله، ويقال أنه إذا جلس في بعض استراحات محطات طريق الحجاز – قديماً – التي تستعمل الكراسي المستطيلة المنسوجة بحبال ألياف النخيل المتوفرة في "قهاوي" المنطقة الغربية – آنذاك– لأجل تناول طعام الغداء أو العشاء؛ فإنه يدعو من حضر حوله ليشاركه في طعامه. وشراب الشاي والقهوة، ومن الطريف عنه إذا قال له صاحب القهوة تريد أبو أربعة أو أبو ستة أكواب شاي؟ فيجيبه بكل رحابة صدر أحضر أبو أربعين كوباً فيشرب كل من حضر. فهو كريم للغاية – رحمه الله رحمة واسعة – ، وبعد رحيل والدي – رحمه الله – أخذت أواصله براً بوالدي وحباً له، وكنت أزوره في بلده مشياً على قدمي لعدم توفر السيارات في مسافة تقدر بأكثر من أربعة كيلومترات، أقطعها في حوالي ساعة مع بطن الوادي المتجه شرقاً من حريملاء إلى بلدة القرينة، فيرحب بي كل الترحيب، وأتناول معه طعام العشاء بعد صلاة العصر مباشرة في ذلك الوقت المتعارف عليه..، ثم أعود قبل غروب الشمس إلى حريملاء، فهو من محبي والدي – رحمهما الله – وكان التواصل بينهما في حياتهما مستمراً، ولسان حال والدي إذا سئل عن قوة الترابط بينهما يرد على السائل بمثل هذا البيت:
نُبادله الصداقة ما حيينا *** وإن متنا سنورثها ألبنينا
وكان – رحمه الله – يهدينا رطباً من بواكير ثمار نخله فنفرح بذلك معشر الصغار لأن نخيلهم يبكر نضجها قبل نخيل حريملاء، وكان في آخر حياته ملازماً المسجد يتلو القرآن الكريم ويكثر من الدعاء والاستغفار، ولسان حاله يكرر معنى هذا البيت:
ونرجو من الديان عفواً ورحمة *** ولطفاً إذا باتت علينا الصفائح
تغمده الله بواسع رحمته وجزاه عنا خيراً.
الشيخ عبدالله بن حمد الحجازي في ذاكرة محبيه (<!--)
وطول مقام المرء في الحي مخلق ** لديباجتيه فاغترب تتجدد
العلماء وطلاب العلم منذ القدم يتحملون مشاق السفر ووحشة الاغتراب عن الأهل والأوطان في سبيل اصطياد العلم والنهل من موارده العذبة ، وإرواء غلتهم من حلو رضابه لأجل نشره بين المسلمين واحتسابا لمرضاة الله، (فالملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم) حيث نسمع ونقرأ عن البعض أنهم يشدون الرحال لأجل طلب العلم إلى أماكن خارج بلادهم ومهاوي رؤوسهم إلى البلدان المجاورة مثل بلدان اليمن والخليج وبلدان الشام ومصر، وربما إلى الهند والسند حتى إن بعض الشعراء قد ألمح إلى ذلك بهذا البيت مثنيا ومخاطبا لأحد طلاب العلم:
في سفر عمرك مكتوب لك السفر** في الهند والسند نصيب منك يا عمر
فمن أولئك العلماء الأجلاء الذين نذروا أنفسهم وأفنوا زهرة شبابهم في طلب العلم والتنقل في بعض نواحي الوطن من أجل كسبه فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن حمد بن عبدالله العيسى المشهور (بالحجازي) فهو نجدي الأصل ولكنه رحل إلى مكة المكرمة قبل دخولها في حكم آل سعود، وكان السفر من نجد إلى مكة قليلا فسافر لأداء الحج فأحب تنويع معلوماته لعلو همته فأقام بها لطلب العلم، فلقب في نجد بـ (الحجازي) وقد ولد في بلدة سدوس ونشأ فيها، بعد ذلك انتقل إلى حريملاء وقراء القرآن الكريم وحفظه بها، ثم قرأ على علمائها مع حفظه المتون المعروفة مثل كتاب التوحيد، ومتن العقيدة الواسطية، وكشف الشبهات، ومتن الرحبية في علم الفرائض، كما حفظ متن الأجرومية في النحو وهكذا..، ولشدة رغبته في التحصيل ومواصلة الدراسة رحل إلى الرياض وأخذ العلم عن مشايخه الذين من أشهرهم: الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ محمد بن محمود وقد لازمه زمنا طويلا والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبدالله الخرجي وغيرهم من العلماء، كما قرأ على الشيخ عبدالعزيز بن حسن في مقر قضائه في حريملاء وفي بلدة ملهم ، لازم أولئك سنين حتى نبغ في فنون عديدة، ثم سمت همته فرحل إلى الحجاز فقرأ على علماء المسجد الحرام، فلما طال مكثه هناك استبد به الحنين إلى نجد إلى مهوى رأسه ومرتع صباه:
ما من غريب وان أبدى تجلده ** إلا تذكر عند الغربة الوطنا!
ثم عاد إلى الرياض وجلس للطلبة، وكان حسن التعليم فالتف حوله طلبة كثيرون، بعد ذلك عينه الملك عبدالعزيز-طيب الله ثراه -قاضيا لبلدان الشعيب والمحمل خلفا للشيخ عبدالعزيز بن حسن الفضلي، فباشر عمله في حريملاء، ومدة قضائه بها قرابة عشر سنوات، مع عقد جلسات للتدريس فاستفاد منه خلق كثير، ثم ترك القضاء وأقام في بلدة ملهم، وكان يتردد على حريملاء بين وقت وآخر للتدريس والإفادة حتى توفي في 12 من جمادى الآخرة من عام 1347هـ ، ومن أشهر تلاميذه في حريملاء الشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، والشيخ علي بن ابراهيم بن داوود والشيخ عبدالله بن محمد بن رشيدان، ويعتبر فضيلة الشيخ عبدالله بن حمد الحجازي من زملاء وأقران والدي الشيخ الزاهد عبدالرحمن بن محمد الخريف، وكان الوالد يتذكره دائماً ويستذكر مناقبه، وما يجري بينهما من مداعبات خفيفة ومطارحات أدبية وشعرية، -رحمهما الله رحمة واسعة - ولا يخلو مجلس من مجالس أسرته ومحبيه من ذكر محاسنه والترحم عليه لما كان يتصف به من كريم الشمائل وبالعلم الغزير، ولقد أحسن الشاعر ابن السيد البطليوسي حيث يقول:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته ** وأوصاله تحت التراب رميم
وقد خلف ذرية صالحة بنين وبنات تدعوا له وتجدد ذكره بالبذل في أوجه البر والإحسان – تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته -
الشيخ عبدالله البسام خزانة علم وتاريخ (<!--)
مازلت تلهج بالتأريخ تكتبه ** حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
خلق الله سبحانه عباده إنسهم وجنهم لعبادته، ولعمارة هذا الكون العريض، وفاوت بينهم في طبائعهم ومذاهبهم، ومأكلهم وملبسهم وقد فضل الله أمة محمد بن عبدالله رسول الهدى على سائر الأمم، وأثنى على العلماء منهم وميزهم حيث قال في محكم كتابه (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ..الآية) ومن علماء هذا العصر الذين وهبهم الله طول الباع في كثير من العلوم الشرعية والتاريخية والأدبية معا فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن صالح البسام، الذي ولد بمدينة عنيزة 1346هـ في بيت علم وأدب، وعند بلوغ السابعة من عمره درس القرآن الكريم في كتاب الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي، فلما سافر شيخه عبدالله القرعاوي الى جنوب المملكة العربية السعودية صار الشيخ يدرس مع شقيقه صالح ابن عبدالرحمن البسام على والدهما – رحمه الله – فشرعا يتلقيان عليه دراسة القرآن الكريم، وكذلك يدرسان عليه في التفسير والسيرة النبوية والتاريخ الاسلامي والفقه والنحو، وكان والده الشيخ عبدالرحمن مبرزا في التاريخ وعلم الانساب، وهذا من اسباب نبوغ ابنه الشيخ عبدالله في هذين العلمين، وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم وبعض المتون العلمية على يد والده درس عند الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله – ولازمه ملازمة تامة مدة ثمان سنوات، كان لها الأثر الأكبر في تكوينه العلمي مع مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من علماء هذه البلاد منهم: الشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل، والشيخ عبدالعزيز بن محمد السلمان، وفي عام 1365هـ استأذن من والده ومن شيخه بن سعدي في الدراسة بدار التوحيد بالطائف بعد أن عرض عليه مديرها فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع الالتحاق بها، ودرس فيها على يد مجموعة من العلماء الكبار منهم – شيخنا الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي، ومحمد بن حسين الذهبي، وعبدالله الصالح الخليفي، وعبدالله المسعري، ولم ير أن الدروس تكفي، فكان يدرس دروسا خصوصية عند هؤلاء العلماء الافاضل في أوقات فراغهم، الاصول والمنطق والمناظرة، فهمته – يرحمه الله – همة عالية للغاية وكأن الشاعر قد املى عليه هذا البيت:
اذا كنت ترجو كبار الامــــــور ** فأعــــدد لها همــــة أكبرا
وقد فعل وأروى غلته من فيض حياض شتى العلوم النافعة. ويقول الاخر:
بقدر الكد تكتسب المعالي ** ومن طلب العلا سهر الليالي
وكانوا يعجبون من حرصه على الاستزادة من العلم وملاحقته مدرسيه بأسئلته ومناقشاته حتى قُرِّر مُدرساَ للفقه في دار التوحيد وهو لايزال أحد طلابها الى أن تخرج من الدار عام 1370هـ، ثم التحق بكلية الشريعة واللغة بمكة المكرمة، واتم دراسته في كلتا الكليتين في وقت واحد، وقد رشح مدرسا في المسجد الحرام منذ عام 1372هـ وكانت دروسه بين العشائين واستمرت دروسه في الحرم نصف قرن الى أن أوقفها بسبب مرضه، وبعد تخرجه من الدراسة الجامعية عام 1374هـ تسنم مناصب مشرفه أولها قضاؤه في القضايا الجزئية المستعجلة في مكة المكرمة، وثانيا عين مدرسا رسميا في المسجد الحرام، فكان يلقي دروسا عامة وخاصة، وعضوا في رابطة العالم الاسلامي، وعضوا في مواسم الحج..، وقام بالإمامة في المسجد الحرام لمدة ثلاثة أشهر، وطلب منه البقاء في الامامة رسميا ولكنه لم يرغب ذلك لانشغاله بأعماله الاخرى..، وعين رئيسا للمحكمة الكبرى بالطائف، ثم قاضيا في محكمة تمييز الاحكام الشرعية للمنطقة الغربية التي مقرها بمكة المكرمة، وأخير رئيسا لمحكمة التمييز بمكة المكرمة عام 1400هـ وقام بها حتى تمت مدة عمله النظامية، ومدد له سنه، ثم تقاعد عام 1417هـ – رحمه الله – وقد أفنى شبابه وعمره الطويل في اقتناص صافي العلوم، ونشره عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتأليف الكثير من الكتب النفيسة، وبعض الرسائل والمحاضرات المفيدة..، وجمع كتابه الضخم (علماء نجد خلال ثمانية قرون) المكون من ستة أجزاء كبيرة الحجم جيدة الطباعة..، وقد استنفد الكثير من وقته حتى اُخرج بهذه الدقة والشمول.
ولي معه بعض الذكريات التي لا تنسى منها تبادل الرسائل ومن ضمنها رسالة سبق أن بعثها لي منذ سنوات يرغب إرسال سيرة وترجمة لوالدي الشيخ العالم الزاهد عبدالرحمن بن محمد الخريف – رحمهما الله – كما لا ننسى حضوره من مكة المكرمة إلى نادينا بدار التوحيد بمحلة "قروى" بالطائف عامي 71/1372هـ هو ونخبة من طلاب كلية الشريعة واللغة بمكة المكرمة تشجيعاً لنا، والمشاركة في إلقاء بعض الكلمات والقصائد الخفيفة، منهم على سبيل المثال المشايخ عبدالله بن خميس، عبدالعزيز المسند، عبدالله الفالح، وعبدالعزيز بن عبدالرحمن الربيعة – رحمهم الله – والأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله العبدان. وغيرهم من الطلاب –آنذاك – فبين طلاب دار التوحيد وطلاب كلية الشريعة بمكة ترابط قوي، كما لا أنسى مقابلته في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض قبل رحيله بسنوات قلائل ففرحت به كل الفرح، وهو يسرح طرفه في بعض المخطوطات النفيسة فعرضت عليه تشريفنا في حريملاء فأبدى اعتذاره بأنه على وشك العودة إلى مكة المكرمة وأن حجزه مؤكدا.. فهو – رحمه الله – نهم في حب القراءة مولع بانتقاء الكتب النادرة الدسمة، وله باع طويل في حفظ الأنساب ومعرفة أعلام القبائل البوادي والحواضر. ولسان حال الشيخ عبدالله حينما أحس بدنو أجله بدأت عليه آثار الحزن والتأثر فأخذ يجول بلحظه في أرجاء مكتبته ويصوب نظره إلى تلك الرفوف التي تنوء بأحمال الكتب، وبداخله ما به من تحسر ولوعات الفراق المتوقع مردداً في خاطره هذين البيتين:
اُقلب كتباً طالما قد جمعتها** وأفنيت فيها العين والعين واليدا
وأعــــلم حقاً أنني لست باقياً** فيا ليت شعـــري من يقلبها غدا
وقد استقيت معظم هذه السيرة والمعلومات من مصادر متعددة، لأجل التنويه بأفضاله وأعماله الجليلة – تغمده المولى بواسع رحمته – وقد انتقل إلى رحمة الله يوم الخميس الموافق 27/11/1423هـ إثر سكتة قلبية وصلي عليه بعد صلاة الجمعة بالمسجد الحرام. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته0
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم السبت 4 جمادى الأولى 1434هـ الموافق 16 مارس 2013م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 8 جمادى الأولى1434هـ الموافق 20 مارس 2013م.
(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 15 ربيع الآخر 1434هـ الموافق 25 فبراير 2013م.
(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الأثنين 6 جمادى الأولى 1434هـ الموافق 18مارس 2013م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 9 جمادى الآخرة 1434هـ الموافق 19 إبريل 2013م.
(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الثلاثاء 29 جمادى الأولى 1434هـ الموافق 10 إبريل 2013م.