رحم الله الشيخ الوجيه/ عبدالرحمن المبارك طيب الذكر(<!--)
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره *** كباقي ضياء الشمس حين تغيب
من الناس من يوفقه الله منذ صغره وفي مقتبل عمره مُحبباً له طرق الخير ومعالي الأمور فيظل عالي الهمة متطلعاً إلى حياة كريمة تسمو به إلى مراقي المجد والسؤدد، وقد يوفق بمن يوجهه إلى طرق الخير ليحيى عزيزاً مكرماً، كما أن الذي يعيش في بيئة صالحة بيئة علم وأدب وصلاح قد لا يحتاج إلى توجيه من غيره فيتأثر تلقائياً بمن حوله وبفطرته السليمة إلى أقوم السبل وأيسرها، كما أن الخلطة بالأخيار لها بالغ الأثر في صلاح المرء مترسماً خطاهم يسير على طريق الهدى كما ساروا، وهذه الصفات الحميدة تعدُ من سمات وشمائل الشيخ الوجيه عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد المبارك الذي ولد في حريملاء عام 1310هـ وفي كتّابها تلقى علوم القرآن الكريم والْكِتابة فحفظه كله غيباً في حدود عام 1333هـ وقد منحه المولى حسن الصوت حينما يجهر بتلاوة القرآن الكريم بصوت تلذ له الأسماع مُشرباً بالخشوع المؤثر في نفوس سامعيه، وقد عاش في بيئة علم وأدب حيث كانت حريملاء تَعْجُ بالكثير من طلاب العلم وبالعلماء الأفاضل، وقد تلقى مبادئ في العلم على يد ابن عمه رائد الحركة العلمية بحريملاء آنذاك ـ فضيلة الشيخ/ محمد بن ناصر بن محمد بن عبدالله المبارك -رحمه الله -، بعد ذلك انتقل مع والده إلى الرياض مواصلاً تلقيه العلوم الشرعية حيث قرأ علم التجويد على الشيخ المقرئ عبدالعزيز بن يحيان إمام مسجد محلة الشرقية، وقد شارك مع والده في الأعمال الزراعية بعض الوقت -وبعد ما اشتد ساعداه التحق بمعية جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل -طيب الله ثراه -، مجاهداً تحت راية السعودية أعزها الله بالإسلام، ويحسن بي أن أسرد شيئاً من خدماته المشرفة مع أولئك الرجال الأفاضل الذين صحبوا جلالة الملك عبدالعزيز مجاهدين تحت راية جلالته -رحمهم الله جميعاً -وذلك منذ عام 1333هـ حتى عام 1340هـ، ومن المواقع التي كان له شرف المشاركة فيها موقعة (الأوبالية) و (عظيم المكحول، والبشوك) بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير/ تركي بن عبدالعزيز (الأول) -رحمه الله -، وموقعة فتح حائل بقيادة صاحب الجلالة الملك سعود بن عبدالعزيز -غفر الله له -، ثم اختاره الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه – مفتشاً عاماً في إمارة حائل، وبعد استرداد الحجاز كُلّف جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله -بتولي النيابة بالحجاز فكان له شرف الالتحاق بمعيته بتوجيه من الملك عبدالعزيز ضمن مجموعة من الرجال تم اختيارهم، ومنهم عبدالمحسن السميري، وحسن بن غشيان، -رحمهم الله - وفي هذه الفترة قام جلالة الملك فيصل -غفر الله له -بأول رحلة خارج المملكة إلى أوروبا، وكان من ضمن المرافقين له في تلك الرحلة، وفي عام 1353هـ عين أميراً لضباء وأثناء توليه الإمارة هناك حدثت بعض الفتن وكان له شرف المشاركة في القضاء عليها وإخمادها والأخذ بالحزم وحسن التدابير حتى حظي بتلقي خطابات الشكر والتقدير في حينها...، وبعد إمارة ضباء نقل أميراً للوجه وبقي فيها عدة سنوات... ، وبناء على طلبه تم نقله منها إلى مكة المكرمة وعين رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يدم طويلاً، فقد اقتضى نظر ولي الأمر جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله -تكليفه بإمارة القنفذه، فلما طال مكثه بالحجاز واغترابه عن وطنه استبد به الحنين إلى الرجوع إلى مهوى رأسه ومدارج صباه مدينة حريملاء ليقيم بها أو على مقربة منها، وليتسنى له الالتقاء بمن بقي من رفاق دربه وأصدقاء الطفولة، وليسرح طرفه في أرجاء البلاد والسير في أزقتها الضيقة والتنقل بين محلاتها وحاراتها ليروي غلته ويطفئ نار تشوقه إليها..
ما من غريب وإن أبدى تجلده *** إلا تذكر عند الغربة الوطنا
فطلب من الملك عبدالعزيز نقله إلى الرياض ليكون على مقربة من بلده حريملاء فلبى طلب نقله، فالتحق بمعية جلالته "غفر الله له" وفي أثناء إقامته بالرياض كلف بأمارة حريملاء ففرح فرحاً شديداً، وكان -يرحمه الله -أثناء عمله أميراً بها مضرب المثل في الحزم والهيبة، وبالكرم وحسن السياسة مع المواطنين، وإنزال كل إنسان منزلته، فهو محبوب لدى الجميع لما يتمتع به من خلق كريم، ومن صفاته الحميدة العمل على لم الشمل بين الناس التي قد يجري بينهم خلافات فيتم حسمها بحضوره وبآرائه السديدة برضا الطرفين ولا تحتاج للذهاب إلى المحاكم، -جزاه الله خيرا -، كما كان يحرص كل الحرص على حماية غابات شعيب حريملاء كثيفة أشجار الطلح والسمر من العبث بها أو قطعها مؤكداً على الحراس باليقظة في حمايتها ولا سيما في الليالي المقمرة، ولا زالت الحماية مستمرة حتى يومنا الحاضر لأهميتها، وحرص الأهالي على إبقاء ذاك الشعيب رحب المناكب محفوفاً بالأشجار الظليلة دائمة الخضرة، ويعتبر من أجمل المتنزهات بالمنطقة الوسطى لمن يؤمه من مدينة الرياض وما حولها، ولا سيما في مواسم الأعياد وإجازات الربيع، وقد سارت الأمور في زمنه سيراً حسناً وخالية من المشاكل، ونحمد الله أن الترابط والألفة سائدة بين المواطنين في حريملاء منذ قِدم العصور... ، وفي أثناء تلك الفترة شيد له قصراً كبيراً ليسكن فيه، ويعتبر من أشهر القصور رحابة في حريملاء – آنذاك -، استفادت منه بعض الدوائر الحكومية بعد ما انتقل منه إلى الرياض حيث استعمل مقراً لأول مدرسة ابتدائية في بداية عام 1369هـ، فأعقبها افتتاح مستوصف لرعاية المرضى بحريملاء وما جاورها، ثم تلا ذلك استقرار البلدية به فترة من الزمن، فإيجاد مثل هذا المبنى المبارك في تلك العصور يكون سبباً في تسهيل تحقيق وجود المصالح الحكومية المذكورة – آنفاً -وفي أثناء إقامته اقترن بزوجته الثانية أم ابنه الأستاذ الفاضل/ عبدالله الذي كان يشغل منصب (وكيل للشؤون المدرسية والمكتبات) بالرئاسة العامة لتعليم البنات، فاختار لها منزلاً صغيراً مجاوراً للمجسد الأثري المسمى (مسجد قراشة) ملتقى تلقي طلاب العلم لدى رائد الحركة العلمية فضيلة الشيخ/ محمد بن ناصر المبارك -رحمه الله -، وقد عاش في تلك الفترة عيشة هناء ومسرة...، وكان المسجد يجمعه مع والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف العالم الزاهد -رحمه الله، فيأنس والدنا المحب له لحسن صوته الرخيم الجميل أثناء تلاوته القرآن الكريم، ويفرح إذا غاب إمام المسجد ولا سيما في الصلوات الجهرية، ويقال أن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -، في أحد غزواته إذا طال بهم المسير ليلاً يأمره برفع صوته أثناء تلاوة القرآن الكريم الجميل الشجي ليطرد النعاس عنهم حتى إن الإبل تمد أعناقها وخطاها تأثراً بحسن صوته في التلاوة -رحم الله الجميع رحمه واسعة -، بعدها وبناء على طلبه نقل إلى الرياض والتحق بمعية جلاله الملك عبدالعزيز، وبعد ما انتقل جلالته إلى الدار الباقية -رحمه الله -اقتضى نظر صاحب السمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن رئيس ديوان المظالم -رحمه الله -أن يلتحق بالعمل لديه في الديوان وقد تم ذلك لعدة سنوات، بعدها انتقل إلى الهيئات الدينية كمفتش حتى بداية عام 1390هـ حيث طلب الإعفاء من الوظيفة وأعفي منها بعد خدمة دامت أكثر من ستة وخمسين عاماً قضاها في خدمة دينه ووطنه بكل تفان وإخلاص، وبعدما تقاعد استقر في مدينة الرياض، وتفرغ للعبادة فأخذ يقضي جل وقته في جامع (المشيقيق بحي الشميسي) بالرياض الواقع على مقربة من منزله يتلو الآيات والسور، وفتح بابه لاستقبال من يقصده من أقارب وعلماء وأدباء، وحتى من خارج مدينة الرياض للسلام عليه، وتجاذب أطراف الأحاديث الودية الشيقة، فمنزله يعتبر من (الصوالين الأدبية) – آنذاك – فهو خزانة علم وتاريخ طويل حافل بسرد الكثير من الأحداث والوقائع التي خاضها مع جلالة الملك عبدالعزيز وبعض أنجاله فترة توطيد أركان البلاد – رحم الله الجميع -، وكنت أزوره أثناء حضوري إلى الرياض فيسألني عن والدي صديقه بحفاوة ولطف قبل رحيله – أي والدي -متذكراً أيامه الجميلة معه بحريملاء أثناء عمله أميراً، وهذه من الذكريات الحبيبة إلى قلوبنا التي لا تنسى على مر الأزمان، ولقد استقيت معظم ما ذكر من أعماله الجليلة التي جرت بصحبة الملك عبدالعزيز من أحد أنجاله الأستاذ عبدالله وكانت وفاته يوم الجمعة 18/4/1402 هـ عن عمر يناهز الثانية والتسعين عاماً، بعد حياة طويلة حافلة بإخلاص العبادة لله، وبالأعمال الحكومية المشرفة التي قضى معظمها بمعية جلالة الملك عبدالعزيز وبعض أنجاله الكرام في مواقع متعددة ذات أهمية، ولئن غاب شخص أبو عبدالعزيز عن نواظر أسرته وعن أحبته فإن ذكره الطيب باق في قلوبهم، ولسان حالهم يردد معنى هذا البيت مثنيا على كرمه وطيب فعاله:
كريمٌ له بيتٌ كريمٌ تقاسَمتْ *** أواخِرُهُ أرثَ العلَى وأوائلُهْ
- رحمه الله رحمه واسعة -
الشيخ عبدالعزيز بن سوداء لا يبرح ذكره خواطر محبيه(<!--)
اخو العلم خالد بعد موته ** وأوصاله تحت الترب رميم
كثير ممن غابوا عن الدنيا من البشر إلى الدار الباقية ما يلبث ذكرهم أن يتلاشى من الذاكرة شيئاً فشيئاً حتى يعدُّ في وادي النسيان وتطمر أفعالهم وأعمالهم تراكم الكثير من الذكريات والأحداث ومشاغل الحياة..، ولم يبق في الذاكرة إلا من أشتهر من الأعلام، والعلماء الأجلاء الذين تركوا إرثاً خالداً مفيداً من مؤلفاتهم أو خلفوا ذرية صالحة تجدد ذكرهم وذكر أفعالهم وأعمالهم في حياتهم بين حين وآخر، فمن أولئك الأعيان الأفاضل الشيخ العالم القاضي عبدالعزيز بن عبدالله بن مسلم "الملقب بابن سوداء "الذي ولد في مدينة حريملاء عام 1318هـ، وبعدما ختم القرآن الكريم في إحدى الكتاب، وتلاه على فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مهيزع، وعلى والدنا الشيخ العالم الزاهد عبدالرحمن بن محمد الخريف مع تلقيه مبادئ في العلم لديه، فلما أنس في نفسه الرغبة الملحة في مواصلة تلقي العلم شخص إلى مدينة الرياض فلازم المشايخ: سعد بن حمد بن عتيق، صالح بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، عبدالله بن عبداللطيف، حمد بن فارس وغير هؤلاء الأعلام الكرام رحمهم الله جميعاً، فالشيخ عبدالعزيز يعتبر من تلامذة الوالد بحريملاء، وبمنزلة الزميل لدى المشايخ العلماء الفضلاء بالرياض، حيث نهل كل منهما من فيض علومهم العذبة مع فارق العمر والزمن..، كما أنه قد حل قاضياً بعد والدنا في "قرية العلياء المشهورة" في أواخر الأربعينيات – تقريباً – من القرن الماضي، ثم تولى القضاء ببلدة الأرطاوية، ثم قاضياً بمدينة المجمعة، وقد قضى زهرة شبابه وعمره في تلك المواقع الثلاثة – بتأكيد من الملك عبدالعزيز رحمه الله – قاضياً وإماماً خطيباً لجوامع تلك البلدان ومعلماً لمجموعة من طلبة العلم وقت فراغه، ومأذوناً للأنكحة، وهذا مما رغب جلالة الملك عبدالعزيز في إبقائه في تلك النواحي، ولأجل تبصير العامة بأمور دينهم عبر الدروس بالمساجد..، لأن الملك يدرك أهمية سكان الهجر والأرياف لتنويرهم وإضاءة سبل الخير والاستقامة إمام كل فرد من أبناء شعبة بصفة عامة..، فالشيخ -أبو عبدالله -من الفقهاء والعلماء المتضلعين من العلم والارتواء من حياضه الصافية، كما أنه على جانب واسع من الثقافة والأدب، والشعر الفصيح، وله ديوان شعر يضم بين دفتيه عدد من القصائد جزلة الألفاظ قوية الأسلوب.. لم يطبع حتى الآن.. فأسلوبه يميل إلى السهولة وسعة الأفق.. يحاكي شعر الحماسة والعاطفة الوطنية، ومما قاله مؤيداً ومُهنئاً لجلالة الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه-في إحدى غزواته وانتصاراته هذه الأبيات:
فلا يستقــيم الملك إلا سطـــوة ** على كل باغٍ خــائنٍ ومشــــاغب
فذو البغي والإفساد يقتل جهرةً ** إذا لم يتب من فعله والمثالب
ومن قصيدة أخرى يقول :
أهني إمام المسلمين بقمعه ** ذوي البغي والطغيان من كل غاشم
أهني إمام المسلمين بقهره ** أولى الجهل والإفراط بين العوالم
فهو – يرحمه الله – يتوقد حماساً وإخلاصاً لدينه ولوطنه ومليكه..، كما كان يحرص على تدوين بعض الفوائد أثناء شرح معلميه في بعض المسائل الهامة العويصة فينقلها في هوامش بعض كتبه بخطه المميز الجميل الذي يؤنس الناظر إليه، ويقال انه يتبادل الرسائل مع بعض أخوته وزملائه ومن المؤكد أنهم يحتفظون بها، وعندما يرجعون إليها بعد وفاته ويسرحون أنظارهم بين اسطر تلك الرسائل متحسرين على رحيله وغيابه عن نواظرهم متذكرين قول الشاعر الأبيوردي الذي رثاء نفسه بها قبل مماته:
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث ** وخطها في كتاب يؤنس البصرا
كــــم من كتاب كريم كان كاتبه ** قد ألبس الترب والآجـــــر والحجرا
يا مــــــن إذا نظــــرت عيناه كِتْبتنا ** كن بالدعــاء لنا والخير مُدكرا
وكان باراً بوالديه واصلاً رحمه ووافياً مع شقيقتيه: هيا والدة معالي الشيخ عبدالله بن ناصر العمار وإخوته وأخواته، ومع أخته لطيفه والدة أبناء ناصر بن عبدالرحمن الشبيبي، حتى أنه يقال إذا طال اغترابه عنهنّ زمن عمله بالقضاء في بلدة (قرية العلياء) وغيرها من البلدان التي عمل بها، فإنه يركب مطيته متجهاً صوب بلده حريملاء لزيارتهن، وجميع أقاربه ومعارفه، رغم بعد المسافة ومخاوف الطريق ووعورته – آنذاك -التي يستغرق قطعها أياماً وليالي، وقد يحمل معه بعض الهدايا مثل الكساء، والأقط والكمأة – أي الفقع – وخاصة مواسم الربيع المبكر..، وهذا الصنيع منتهى الوفاء والبر رجاء رضى المولى، ومضاعفة الأجر، -رحم الله الجميع – وكان أثناء إقامته في حريملاء لا يمل الجلوس مع والدنا الشيخ عبدالرحمن لتجاذب أطراف الأحاديث الودّية، والبحث في بعض المسائل الفقهية، وعلوم الفرائض وسائر الفنون..، ليستفيد من والدنا، وإن كان لا يتظاهر بعلمه تواضعاً وأدباً، وإنما يكتفي بالإيماءات: لعله كذا لعله أصوب، وهذه الصفة الحميدة من صفات العلماء رواجح العقول – رحمهم الله – وله مع والدنا ذكريات جميلة ذكريات محبة وتدارس علم، غابت معه في جدثه حيث توفي في عام 1374هـ حسب ما ذكر في بعض التراجم، وكان محبوباً لدى جماعات البلدان التي عمل بها في سلك القضاء لما يتمتع به من دماثة خلق وتلطف مع الضعيف والقوي، ومع الكبير والصغير، يحث على التآلف والتسامح وحسن التعامل، والعطف على الضعفة والمساكين، وعلى اهتمامهم بتربية أبنائهم وبناتهم التربية الصالحة، وترغيبهم في حفظ كلام الله وأداء الصلوات في أوقاتها، ولذا عذب ذكر اسمه بينهم:
وإنما المرء حديث بعده ** فكن حديثاً حسنا لمن وعى
وبقي ذكره الحسن في صدور من بقي من أسرته ومحبيه، وقد خلّف أبنه الأستاذ الفاضل موسى وعدد من البنات الصالحات – رحمه الله رحمة واسعة.
ورحل الأستاذ الفاضل ناصر بن ابراهيم الجريبة (<!--)
فلو أنني خيرت من دهري الْمُنَى *** لاخترت طول بقائه وخلوده
بينما كنت جالسا في مناسبة زواج ليلة الخميس29/1/1434هـ في قصر الجماعة بحريملاء مغتبطا؛ إذا برنين الهاتف يحمل نبأ رحيل الأستاذ الكريم ناصر بن ابراهيم الجريبة (أبو محمد) إلى جوار ربه، وغربت شمسه متزامنة مع غروب وعبور شمس نهار يوم الأربعاء 28/1/1434هـ فتكدر خاطري فجأة، وكان لذاك النبأ وقع محزن جدا في نفسي، وما لبثتُ أن حلق بي الخيال متذكرا سيرته العطرة منذ طفولته وريعان شبابه حيث أودع في باطن الأرض بمقبرة (صفية) بمحافظة حريملاء بعد صلاة ظهر يوم الخميس 29/1/1434هـ ، وكان – يرحمه الله – في طليعة الشباب النجباء خلقا وأدبا وذكاء منذ المرحلة الابتدائية، ومرحلة الدراسة بمعهد المعلمين، حيث صدر قرار تعييني مديرا لمعهد المعلمين مع الأشراف على المرحلة الابتدائي بحريملاء، اعتبارا من تاريخ 23/4/1379هـ وكان مثالا في الأدب والمواظبة، وحسن السلوك مع زملائه ومعلميه، ولم أذكر أنه قد بعث إلى الإدارة طيلة دراسته في المرحلتين..، وهذا يدل دلالة قاطعة على أنه طالب مثالي جمع الجد والصفات الحميدة.
وأحسن الحالات حال أمريء *** تطيب بعد الموت أخباره
يفـــنى ويبقــــى ذكـــره بعده *** إذا خلت من شخصــه داره
وبعد حصوله على كفاءة المعهد لدينا..، وعلى الدراسة بالمعاهد التكميلية بالرياض..، تم تعيينه بمدرسة المأمون بحي الشميسي بالرياض، وعمل وكيلا مع الأستاذ الفاضل محمد بن عمر بن عقيل مدير المدرسة – آنذاك - وهو يعتبر من رواد التعليم -معطر السمعة (رحمهما الله) وبعدما تقاعد الأستاذ محمد حلّ محله الأستاذ ناصر مديرا ناجحا عبر السنوات الطويلة حتى بلغ سن التقاعد حميدة أيامه ولياليه، وكان محبوبا لدى زملائه المعلمين، وأفواج أبنائه الطلبة المتتابعين، في الدراسة بتلك المدرسة..، ومحترما لدى أولياء أمورهم لما يلقونه من حسن استقبال وتفهم لمطالبهم وحرصه على رعاية أبنائهم، وقد انعكس حسن أسلوبه وتعامله على سلوك الطلاب والمعلمين، فهو يعتبر من أنجح مديري المدارس إدارة وخلقا وحنكة، وأطول مكثا في إدارة مدرسة تقع في قلب مدينة الرياض، وتضم أجيالا متعاقبة من مختلف جنسيات الطلاب مع تفاوت في طبائعهم وسلوكياتهم ومستوياتهم الاجتماعية والتحصيلية، ومع ذلك كله قاد تلك السفينة التي لا تخلو من تلاطم الأمواج وهبوب الرياح العاتية – فقد سارت بأمان طيلة عمله – بتوفيق من الله جل ذكره - ثم بحسن سياسته وأخلاقه في تعامله مع الجميع، علما أن أجواء المدارس بصفة عامة لا تخلو من بعض المشاكل، والخلافات بين المنتسبين إليها طلابا ومعلمين..، بل ومع بعض أولياء أمور الطلبة، ولكنه بحذقه ودرايته بأحوال وطبائع من يتعامل معه كان سببا من أسباب نجاحه في تذليل العقبات والتوفيق بين الأطراف التي قد يحصل بينها بعض المشاكل والخلافات (غفر الله له). كما لا أنسى تواصله معي هو وابن عمه الأستاذ الفاضل عبدالله بن عبدالعزيز الجريبة ودعواتهما الصادقة لي ولوالدي وعقبي، فالأستاذ ناصر رجل كريم يتمتع بطيب القلب ودماثة الخلق معي ومع غيري، فأنا الآن لا أملك سوى الدعاء الصادق له بالرحمة والمغفرة وصلاح الذرية:
ما ودني أحد إلا بذلت له *** صفو المودة مني آخر الأبد
وقبل أيام قلائل زرته في منزله للاطمئنان على صحته وتطرقت لذكر أيام دراسته لدينا في حريملاء، فما أجملها من ذكريات، ذكريات الصبا والنشاط، وعندما حاولت سرد بعض نشاطاتهم في النادي المدرسي، وعن رحلات الربيع اغرورقت عيناه بالدموع، ولسان حاله يردد قول الشاعر:
لك الله لا توقظ الذكريات *** وخل الأسى في الحنايا دفينا !
رحمك الله -أبا محمد-وعلى أي حال فذكرياتنا معه ومع أمثاله من الأخيار باقية في خواطرنا مدى العمر، وكان -يرحمه الله -محبوبا لدى زملائه وطلابه وجيرانه، فمجلسه لا يمل كثير الزوار لما يتحلى به من رحابة صدر وطيب معشر وتواضع جم، ولم يعهد عنه أي إساءة لأحد، بل إنه يتحبب إلى أقاربه وأصحابه، ويتغاضى عن الهفوات لو صدرت من أحد، ويحث على التسامح وقوة الترابط بين الأسر والجماعات، ولسان حاله يتمثل بهذا البيت:
تحلّم عن الأدنين واستبقي ودهم *** فلن تستطيع الودَّ حتى تحلما
ولذا كثر أحبابه ورفاقه..، ومن وفائه أن اتصل علي قُبيل رحيله عن الدنيا بحوالي عشرة أيام، فاستبشرت في بادئ الأمر متفائلا بتماثل صحته وشفائه، وكأنه قد أحس بدنو أجله، وعزَّ عليه أن يرحل إلى الدار الباقية ولم يودعنا لعلمه بعلو مكانته في قلبي فأخذ يمطرني بوابل من الدعوات الصادقة والترحم على والدي بصوته الهادي الحزين الذي ظل مدويا في أعماق نفسي حزنا وتأسفا على غيابه وبعده عنا وعن أسرته ومحبيه، وهو يقول: سامحني إن كان قد صدر مني ما يكدر خاطرك، فبادرته: حاشا أبا محمد أنت من أقرب الطلاب إلى قلبي، ثم استمر والعبرات تكاد تخنق صوته، لا تنساني من صالح دعواتك، لا تنساني من صالح دعواتك يا أبا محمد، فلم أتمالك دمع عيني في تلك اللحظة الحاسمة المفعمة بالحزن العميق، فعلمت أنها لحظات وداع لا تتكرر معه..، فقد أثرت في نفسي تلك الكلمات الموجعة لقلبي، ولئن غاب عن نواظرنا فإن ذكره الحسن مقيم بين جوانحنا مدى الأيام، وقد ترك ذكرا حسنا، وخلف ذرية صالحة تدعو له، وتخلد ذكره، ستة أنجال كلهم يحملون مؤهلات عالية، ودرجة الدكتوراه لأبنه فهد الطبيب المخلص، وأربع بنات صالحات متعلمات ومثقفات، جبر الله مصيبتهم ومصيبة عقيلته (أم محمد) وجميع أسرته ومحبيه – تغمده الله بواسع مغفرته ورحمته.
الشيخ محمد بن مانع وذكره الجميل(<!--)
لا يأمن العجز والتقصير مادحه ** ولا يخاف على الإطناب تكذيبا
من الناس من يبقى ذكرهم الطيب عالقا في أذهان مجتمعهم ومحبيهم، بل ومن غيرهم تتوارث الأجيال ذكرهم جيلا بعد جيل ولاسيما من كان لهم شأن وتأثير عام ولمن حولهم، وهذا لا يتسنى إلا للعلماء الأفاضل وعظماء مشاهير الرجال، بل وبفضليات النساء الذين خلد التأريخ ذكرهم – فقيمة كل امرئ ما يحسنه – فالتاريخ خزانة آمنة تحفظ ما أودع فيها من خير وخلافه، ولا تحتاج إلى حراسة خلاف حراسة الأموال والممتلكات، -فاصنع أيها الإنسان لنفسك قبل موتك ذكرها-فمن أولئك العلماء الأجلاء الذين أضحت أسماؤهم خالدة غضة طرية إلى ما شاء الله...، فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن محمد المانع، وقد ولد -رحمه الله – بمدينة عنيزة بمنطقة القصيم عام 1300هـ، فلما بلغ السابعة أدخله والده كتابا ليتعلم القران الكريم، فقرأ القرآن كله وحفظ بعضه، ثم اشتغل بطلب العلم، فقرأ مختصرات العلوم الشرعية والعربية ككتاب التوحيد، ودليل الطالب، وبلوغ المرام، وشرح الرحبية في علم المواريث، والأجر ومية، على علماء عنيزة وبريدة، فلما ناهز البلوغ سافر إلى بغداد للاستزادة من العلم، فقرأ على علماء النحو والصرف والفقه والفرائض والحساب والمنطق، ثم توجه إلى مصر فأقام بالأزهر فقرأ فقه الحنابلة والنحو وغيرهما، ثم سافر إلى دمشق، واتصل بعلمائها وتعرف عليهم، فقرأ عليهم في الحديث، ثم عاد إلى العراق ولازم مشايخه السابقين، فتزود منهم في علوم العربية بأنواعها، وقرأ عليهم مختلف أنواع العلوم والفنون، وكان جادا مواصلا نهاره بليله في القراءة والتحصيل وإدمان المراجعة والبحث، وكان لا يضيع من وقته لا قليلا ولا كثيرا، ويقال أنه قد أصيب بمرض أرقده وهو بالبصرة، ومع ذلك كان يطلب من أحد المقربين منه أن يجلس عند رأسه رغم شدة وطأة المرض ليقرأ عليه بالكتب المفيدة، وقد أجاد الوزير ابن هبيرة مقدرا حفظ الوقت واستثماره حيث يقول:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ** وأراه أسهل ما عليك يضيع
وكان مع هذا سريع الحفظ بطيء النسيان حاضر الخاطر، ولذا اطلع على ما لم يطلع عليه غيره، فصار آية في حفظ المتون واستحضار مسائلها وما قاله الشراح عليها، وكان فقيها مطلعا على خلاف العلماء يكاد يحفظ نظم ابن عبدالقوي البالغ أربعة عشر ألف بيت في فقه الحنابلة، هذا عدا المختصرات والمتون ونظم العلوم. فالحديث يطول لو استرسلنا في سرد سيرته، وما زال مجدا في تحصيل العلوم إلى أن اصبح من العلماء الكبار المشار إليهم، ومن مشايخه في نجد فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله بن سليم، والشيخ عبدالله بن عايض، والشيخ إبراهيم بن حمد الجاسر وغيرهم كثر، أما أعماله فأولها رئاسة النادي الذي أسسه الشيخ المحسن محمد بن عبدالرحمن الذكير في البحرين لتحرير المقالات والتباحث، وإعداد الردود على النصارى الذين انتشروا في أطراف الجزيرة العربية والخليج العربي، وفي عام 1334هـ طلبه حاكم قطر الشيخ عبدالله بن ثاني فرحل إليه، فولاه قضاء قطر والتدريس والخطابة، فأمضى في هذه الأعمال ثلاثا وعشرين سنة، ورحل إليه الطلاب من عمان وسائر بلدان الخليج، وأخذوا عنه أثناء تلك الفترة الطويلة، وقبل حلوله كان أهلها يقلدون مذهب المالكية، فصاروا من آثار تدريسه وتعليمه حنابلة المذهب، وفي عام 1358هـ طلبه جلالة الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – فأمره بالتدريس بالمسجد الحرام والمدراس الحكومية، ثم عينه رئيسا لثلاث هيئات: هيئة تمييز الأحكام الشرعية، وهيئة الأمر بالمعروف، وهيئة الوعظ والإرشاد، فكان رئيسا لهذه الدوائر الثلاثة في آن واحد، وهذا يدل على سعة علمه وحنكته، وحسن سياسته، وفي عام 1365هـ صدر مرسوم ملكي كريم بتعيينه مديرا عاما للمعارف قبل تشكيل الوزارة – آنذاك – وأسندت إليه رئاسة – أم المدارس – (دار التوحيد بالطائف) واستمر مديرا عاما للمعارف حتى شكلت وزارة المعارف، وأسندت وزارتها إلى سمو الامير فهد بن عبدالعزيز (خادم الحرمين الشريفين) رحمه الله. ومن حرص الشيخ محمد بن مانع على حسن سير الدراسة قيامه عام 1372هـ بجولة تفقدية على مدارس بعض مناطق المملكة شمالها ووسطها وشرقها رغم مشاق السفر ووعورة الطرق في تلك العقود الفارط..، فكل منطقة يزورها يجد حسن الاستقبال والحفاوة التامة من أهلها ومعلميها، فهو يرحمه الله أهل لذلك التكريم والاحترام، وفي عام 1374هـ طلبه حاكم قطر – سابقا – الشيخ علي بن ثاني من حكومتنا فرحل إلى قطر وصار مشرفا على سير التعليم فيها وتطوير المناهج، بعد ذلك صار مستشارا للحكومة في الأمور الدينية، فحصل من ثمرة هذه الثقة به النفوذ لكلمته، فقامت حكومة قطر الكريمة بطبع الكثير من الكتب العلمية النافعة وتوزيعها على أهل العلم مجانا، ولاشك أن له نصيب من الاجر إن شاء الله والدال على الخير كفاعله، والحقيقة أنه قضى حياته الطويلة في خدمة العلم الشريف، متعلما ومعلما ومؤلفاً وداعياً ومشجعاً، وهذا فضل من الله يؤتيه من يشاء :
دمت يامن سما بفضل وعلم ** فوق هام السها مدى الأعصار
ولي مع فضيلته أجمل الذكريات وأفضلها حينما قدمت من بلدي حريملاء إلى مقر مديرية المعارف بمكة المكرمة الواقعة على مقربة من المسعى في الجانب الشرقي الجنوبي لأجل طلب الالتحاق بدار التوحيد عام 1371هـ فطرح علي بعض الأسئلة فأفدته أني من تلامذة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف، وفضيلة الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد قاضي محكمة الرياض وإمام مسجد الامام تركي..، وقد تلقيت مبادئ في العلم وحفظ بعض المتون مثل كتاب التوحيد، ومتن العقيدة الواسطية، وجزء من كشف الشبهات، ومتن الأجرومية في النحو، بعد ذلك أحالني على مدير التفتيش الأستاذ محمد بن صالح الخزامي، لمقابلتي واختباري للقبول، فأعطاني هذا المثال في النحو لأعربه خطيا على ما فيه من صعوبة وخاصة محل جواب الشرط (يعاقبوا) (المسيئون إن يقتلوا أخاك يعاقبوا) فقال بعد المقابلة أحضر صباح غد تجد النتيجة لدى سماحة المدير العام، وعندما أقبلت على سماحة الشيخ نهض من كرسيه وهو يردد (ناجح، ناجح يا ابني) فكدت في تلك اللحظة أطير فرحا لأن هذا المثال هو الجسر الذي عبرت بسببه إلى الدراسة النظامية، فالشيخ محمد بن مانع يحرص كل الحرص على رعاية وتشجيع طلاب دار التوحيد ولاسيما من يتوسم فيهم الصلاح والاستقامة لحاجة البلاد الى قضاة وخطباء مسجد ومعلمين، فالملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه - قد أسسها لهذا الغرض ولسد بعض حاجة البلاد من أمثالهم ثم كتب إلى شيخنا الأستاذ عبدالمالك طرابلسي مدير الدار بالطائف لاعتماد قبولي بالسنة الأولى وإسكاني بالقسم الداخلي ضمن الطلاب المغتربين من نجد، فرحم الله الجميع، كما سعدنا بزيارة الشيخ محمد التفقدية في فصول المدرسة للاطمئنان على حسن سير الدراسة وعلى مستويات المعلمين أثناء شرحهم مواد الدروس، ورغم ما يتمتع به علماء الأزهر من سعة أفق وطول باع في العلوم والثقافات إلا أنه يبدو على البعض أثناء حضور الشيخ للفصول التحفز والاكتراب هيبة لحضور ودقة أسئلة، وكل تلك الزيارات والمواقف من الذكريات الحبيبة إلى قلوبنا معشر الطلاب مدى العمر، فحياته – يرحمه الله – كلها كفاح ونشاط وإخلاص، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
سعدت أعين رأتك وقرت ** والعيون التي رأت من رآكا
وكانت وفاته قبيل صلاة فجر يوم السبت 12/7/1385هـ بأحد مستشفيات بيروت، ثم نقل جثمانه الطاهر إلى قطر، وصلى عليه رجال الحكومة القطرية والأهالي، وقد دفن في مقابر قطر ودفن معه بحر زاخر من العلوم والمعارف، رحمه الله رحمة واسعة، وقد خلف ثلاثة أبناء صالحين علماء وأدباء، وقد سعدت بمعرفة نجله الأستاذ الأديب أحمد في مجلس صديقنا وحبيبنا معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر، فلمست فيه سعة الأفق وطول باع في العلم والأدب قضى ذروة شبابه وعمره مديرا للبعثات السعودية بالقاهرة حتى أحيل على التقاعد، ثم عاد – يرحمه الله – إلى الرياض تاركا سمعة طيبة وذكرا حسنا، ورعاية فائقة للطلبة المبتعثين في أرض الكنانة..، وقد نقلت جل هذه الكلمة عن سيرته العطرة وفاء وتنويها بأعماله الجليلة المشرفة من الجزء السادس من كتاب علماء نجد خلال ثمانية قرون لسماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام – تغمد الله الجميع بواسع رحمته
ورضاه -
هنيئاً له قد طاب حيا وميتا ** فما كان محتاجا لتطييب أكفاني
فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل الى رحمة الله(<!--)
تبلى الحناجر تحت الارض في جدث ** وصوتها يتلو الايات والسور
ما من شك أن فقد العلماء الأفاضل يحدث فراغا وفجوة واسعة في الإسلام وبين أهله يتعذر ردمها، ولاسيما من تعلقت قلوب الناس بهم والذين ترووا من حياض العلوم الصافية النافعة، ومن لهم باع طويل في نشر العلم مع تلاوة القرآن الكريم مرتلا ومجودا سواء حضوريا أو عبر الوسائل الحديثة لينير أفئدة السامعين والمتلقين له في مشارق الأرض ومغاربها أمثال فضيلة الشيخ العلامة/ محمد بن عبدالله السبيل إمام وخطيب المسجد الحرام الذي انتقل الى دار النعيم المقيم - إن شاء الله -عصر يوم الاثنين 4/2/1434هـ وصلي عليه بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء بالمسجد الحرام، ودفن بمقابر العدل مجاورا للشيخين عبدالعزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين:
مجاور قوم لا تزاور بينهم ** ومن زارهم في دارهم زار همدا !
مأسوفاً على رحيله وغيابه عن أسرته ومحبيه بعد عمر مديد نيف على التسعين سنة حافلة بالعطاء في مجال العلم والدعوة وإمامة المسلمين في أطهر بقعة من بلاد الله وفي مدة تربو على أربعين عاماً، وكان قد لازم السرير الابيض مدة طويلة بمستشفى الحرس الوطني بجدة الى أن استوفى نصيبه من أيام الدنيا ـ تغمده الله بواسع رحمته. وقد ولد عام 1345هـ بمحافظة البكيرية إحدى كبريات مدن القصيم بلد العلماء وخطباء المساجد الذين نالوا الشهرة في هذه الأزمان، وقد تعلم على يد والده وعلى يد الشيخ عبدالرحمن الكريديس، وحفظ القرآن الكريم وهو في سن الرابعة عشرة، وأتقن التجويد على يد المقريء سعدي ياسين ـ رحم الله الجميع ـ ثم استمر في تلقي العلم على الشيخ محمد المقبل، كما أخذ عن أخيه الشيخ عبدالعزيز السبيل وكذلك لازم سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رئيس محكمة بريدة فترة من الزمن، ثم تأهل للتدريس في المساجد وبالمعهد العلمي في مدينة بريدة 1373هـ، وكان تلقيه العلم على أيدي أولئك العلماء سببا قويا في ترسيخه في ذهنه، وحفظ القرآن الكريم في قلبه ساعد على تفوقه على أقرانه، وفي عام 1385هـ عين إماما وخطيبا في المسجد الحرام، ورئيساً للإشراف الديني والمدرسين في الحرم المكي، وفي عام 1411هـ صدر الأمر السامي بتعيينه رئيسا للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، كما عمل في هيئة كبار العلماء وعضو المجمع الفقهي الاسلامي في شئون الحرمين وكان صوته مؤثرا جدا حينما يتلو القرآن الكريم مرتلا ومستحضرا الخشوع عند آيات الوعد والوعيد، وكم رددت أصداء صوته أروقة المسجد الحرام..، كما أن صوته أثناء إمامته بالمصلين، وفي صلوات التهجد عبر الاذاعة والوسائل الحديثة الاخرى شجيا يسبق ضوء الشمس التي تشرق على الكون وعلى أنحاء الدنيا وآفاقها، فيسمعه ملايين المسلمين في تلك البقاع النائية، ولسان حاله – يرحمه الله – يردد هذا البيت الذي فيه رائحة المعنى:
فإن كانت الأجسام منا تباعدت ** فإن المدى بين القلوب قريب !
وقد بارك الله في علمه وعمره، فكله علم وأدب محترم أينما حل وسار:
لا يأمن العجز والتقصير مادحه ** ولا يخاف على الاطناب تكذيبا !
فهو على جانب من الذكاء والفطنة وحضور البديهة، وعدم التردد والتريث في انجاز بعض الأمور التي قد تعترضه..، ولقد اجاد الشاعر حيث يقول:
فربما فات قوماً جل أمرهم ** من التأني وكان الحزم لوعجلوا !
ولي معه -رحمه الله-بعض الذكريات التي لا تنسى منها اثناء استضافته في ثلوثية الدكتور الكريم محمد بن عبدالله المشوح في مدينة الرياض مساء يوم الثلاثاء 4/11/1423هـ الذي يُحسن انتقاء واختيار ضيوف أمسيته في صالونه الأدبي كثير الحضور من العلماء والادباء والوجهاء لما يطرح فيه من موضوعات شيقة، وتكريم للمتميزين علما وأدبا وبذلا في أوجه البر والاحسان، وهذا من نعم الله على صاحب المنتدى، وقد أحيا فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله السبيل – رحمه الله – تلك الأمسية بالحديث عن بعض ذكرياته وعن الاعمال المنوطة به في خدمة المسجد الحرام والكعبة المشرفة، وعن عناية ولاة أمر هذا البلد، والسهر على راحة الحجاج والمعتمرين، وعن التوسعات الهائلة للحرمين الشريفين، كما أني اسعد بزيارته عند حضوري إلى مكة المكرمة في مكتبه برئاسة شؤون الحرمين، وزيارة الصديقين الكريمين الدكتور محمد بن ناصر الخزيم نائب الرئيس، والاستاذ الفاضل محمد بن عبدالكريم القويفلي المستشار الخاص بالرئاسة، فأجد منهم حسن الاستقبال والحفاوة التامة، فالذكريات معه تتكرر سنوياً وعلى بعض العاملين معه، وقبل ختام هذه الكلمة الوجيزة أكرر هذا البيت داخل نفسي:
سلام على القبر الذي ضم أعظما ** تحوم المعالي حولها فتسلم
جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، واسكنه فسيح جناته، والهم ذويه وابناءه وبناته وزوجاته ومحبيه الصبر والسلوان0
الشيخ عبدالعزيز الربيعة لم يغب ذكره عن أحبابه(<!--)
وجه عليه من الحياء سكينة ** ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحـــب الله يومـــا عبده ** ألقى عليه محــبة في الناس
من سعادة الإنسان أن يمنحه المولى طلاقة في المحيا وحسن تعامل ولين جانب مع الغير مما يحببه إلى الناس ويجعل القلوب تميل إليه محبة واحتراما، ولقد أثنى الله على نبيه محمد بن عبدالله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في سورة القلم (وإنك لعلى خلق عظيم) فهذه الصفة المباركة تذكرنا بما يتحلى به فضيلة الشيخ الراحل عبدالعزيز بن عبدالرحمن الربيعة من تواضع جم ومنطق يحلو للآذان سماعه ولا سيما إذا تصدر في المجالس متحدثا، ولقد ولد فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن محمد الربيعة بمدينة المجمعة عام 1340هـ وقد نشأ في بيت والده عبدالرحمن الذي كان يتمتع بالكرم وحسن التعامل، وكان محبا للعلم والعلماء مما أثر ذلك الجو العلمي والأدبي في نفس – أبو بدر – في قابل أيامه، وبعدما كبر وبلغ السابعة من عمرة درس القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الصايغ ولم يدم طويلا، حيث التحق بأول مدرسة إبتدائية بالمجمعة تولى إدارتها الأستاذ عبدالعزيز العتيقي الذي سبق أن درس في الهند مجيدا للغة الانجليزية والفرنسية والعلوم الحديثة بعد عودته إلى المجمعة، وظل بدون عمل، فاقترح عليه الشيخ عبدالرحمن بن ربيعة والد الشيخ عبدالعزيز افتتاح مدرسة لتعليم شباب المجمعة فاستحسن الأستاذ عبدالعزيز العتيقي الفكرة إلا أن المال كان عائقاً، -فقام مشكورا – الشيخ عبدالرحمن بن ربيعة فاستأجر له مبنى وقام بتجهيزه وتأثيثه على نفقته الخاصة على نظر الشيخ عبدالعزيز العتيقي -رحمهم الله جميعا -، وذلك في عام 1350هـ تقريبا وبدأ بالتدريس بالأسلوب الحديث، وهذه هي النواة الأولى لوجود المدارس هناك -جزاه الله خيرا - ولقد أجاد الشاعر طرفة بن العبد حيث يقول:
لعمرك ما لأيام إلا معارة ** فما اسطعت من معروفها فتزود
فاحتاج الشيخ عبدالعزيز إلى من يساعده فكان من تيسير الله أن الشيخ عثمان بن ناصر الصالح قد عاد من مدينة عنيزة، وكان مساعدا لأخيه الأستاذ صالح في مدرسة عنيزة، فانضم إلى تلك المدرسة ليساعد الشيخ عبدالعزيز العتيقي، فتولى الشيخ عثمان التدريس فيها إلى أن وصل المُترجَم إلى الصف الخامس الابتدائي وهي مدرسة أهلية – كما أسلفنا آنفا – فافتتحت المدرسة السعودية الحكومية عام 1355هـ فانضم إليها الطلاب، وتولى إدارتها الشيخ عثمان الصالح، ويساعده الشيخ سليمان بن أحمد (القاضي ببلاد رفيدة) فكان الشيخ عبدالعزيز بن ربيعة أول دفعة تخرجت من المدرسة الابتدائية السعودية عام 1356هـ، وكان أثناء دراسته في الصف الابتدائي يحضر حِلَق الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، الذي كان له حِلَق في جامع مسجد المجمعة، وكان الذي يتولى تدريس الصغار فضيلة الشيخ محمد الخيال – رحمه الله – رئيس محاكم الأحساء سابقا، وقد تلقى دروسا في العلم على نخبة من العلماء المشهورين أمثال الشيخ عبدالعزيز بن صالح رئيس محاكم المدينة، وعلى فضيلة القاضي الشيخ عبدالله بن حميد، فانضم الشيخ عبدالعزيز بن ربيعة إلى حلقته إضافة إلى انتظامه في حلقة الشيخ العنقري -رحمهم الله -، ولما افتتحت دار التوحيد عام 1364هـ أشار عليه الشيخ العنقري الالتحاق بها، وبالإضافة إلى دراسته في دار التوحيد فقد درس على الشيخ عبدالله بن حسن، وعلى الشيخ محمد بن مانع مدير المعارف - آنذاك – وكان إماما لمسجد بالطائف أثناء دراسته هناك، وبعد التحاقه بكلية الشريعة بمكة المكرمة أخذ يقوم بالتدريس بالمسجد الحرام حيث كان له كرسي يتناوبه مع بعض زملائه، وله – رحمه الله – كتابات في بعض الصحف وعمود خاص به في مجلة الحج، تحت عنوان (الإسلام عقيدة وكفاح) وقد تخرج من كلية الشريعة واللغة العربية بمكة المكرمة عام 1373هـ ، وتعين برغبته في حقل التدريس في بلده مدينة المجمعة بالمعهد العلمي مع قيامه بالدروس الخاصة للطلاب والوعظ العام في سوق المجمعة، ثم نقل إلى رئاسة محكمة قضاء الداودمي، فعمل بها حتى عام 1394هـ، حيث نقل عضوا قضائيا في محكمة التمييز في المنطقة الوسطى والشرقية، واستمر في ذلك حتى أرهقه المرض الذي طال معه لأكثر من عشرين عاما، وقد ادخل مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض فتوفي فيه يوم الجمعة 11/1/1416هـ بعد حياة طويلة في اقتناص الكثير من العلوم النافعة، وقد خلف ذرية صالحة خمسة أبناء وثلاث بنات كلهم على مستوى عال من العلم والأدب، وذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل حسن رعايته وحسن تربيته – رحمه الله – وكان مثالا في الأدب والأخلاق العالية أثناء حياته الدراسية والعلمية معا، ولنا معه بعض الذكريات أثناء حضوره لنادينا بدار التوحيد عامي 1371-72 هـ هو ونخبة من طلاب كلية الشريعة بمكة، أمثال الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس، والشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ عبدالعزيز العبدان وغير أولئك من الطلاب الأخيار.. فيجمعنا به المجلس في منزل الأستاذ عبدالله بن عبدالعزيز القاسم احد طلاب الدار ليجرى فيه بعض الأحاديث الشيقة والثناء على النشاط الأدبي والثقافي بالدار، كما كان يزور الشيخ عبدالرحمن بن ابراهيم اليحيى قاضي حريملاء – رحمهما الله – لأجل أن يذهبا إلى منطقة السر والبرود للنظر في بعض الأراضي المتنازع عليها، فنسعد بتشريفه منزلنا على عجل للقهوة، فالذكريات الجميلة معه لا تنسى أبد الأيام:
لله درك قد حباك بفضله ** خلقا تجاوز في الثناء نشيدي
ولقد استقيت معظم هذه الأسطر من كتاب علماء نجد خلال ثمانية قرون تأليف سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن صالح البسام، حيث زوده ابنه الدكتور بدر بتلك المعلومات عن سيرته العطرة وعن أعماله المشرفة0 -رحم الله الشيخين رحمة واسعة0
رحم الله رفيق دربي الأستاذ عبدالله الحميدي (_ftnr