(الشيخ / فيصل بن عبدالعزيز المبارك منارة علم) (<!--)
تخالف الناس إلا في محبته *** كأنما بينهم في وده رحم
إن الإنسان السوي والواسع الخيال حينما يخلو بنفسه في ساعات استرخاء وسعة بال ما تَلبثُ أطيافُ أحبته ومعارفه إلا أن تتحرك وتجول بخواطره أحياء وأمواتا تلقائياً، وبدون أن يطلبها فتطير به مسرعة في عوالم متموجة من الأخيلة فتلمع بعض صور أشخاص لهم دور في الحياة، ومكانة عالية في نفوس مجتمعهم، ومن أولئك الأعلام الذين مروا بخاطري فضيلة الشيخ الزاهد طيب الذكر فيصل بن عبدالعزيز المبارك (قاضي الجوف)؛ وقد ولد عام 1313هـ وتوفي في عام 1376هـ الذي وقف حياته خدمة للعلم وطلابه، فيطيب لي أن أتناول شيئاً من صفاته وسيرته العطرة وأعماله الجليلة، فقد بدأ حياته منذ صغره مهتماً بقراءة القرآن الكريم حيث ختمه مبكراً على يد المقرئ عبدالعزيز الخيال من المجمعة، وفي عام 1331هـ عاد إلى بلدة (حريملاء) ثم أخذ بحفظ بعض المتون مثل: ثلاثة الأصول، ومتن كتاب التوحيد، وكتب الفقه والحديث، وتدارسها مع نظرائه، وتلقى شروحها وإيضاح معانيها لدى مشايخه الأجلاء، ولقد بعثه الملك عبدالعزيز (يرحمه الله) واعظاً ومرشداً إلى بلدان الحجاز وتهامة: فنفع الله بعلمه وهدى الله به أمة منهم حيث أثرت فيهم دعوته وإرشاده، وبعد ما تروى من صافي العلوم وتهيأ للقضاء والإفتاء عينه الملك عبدالعزيز قاضياً بتثليث، فأبها، فبيشه وعدد من تلك البلدان الجنوبية، وفي ضرماء، وأخيراً في الجوف ابتداء من 1362هـ وبقي فيه حتى توفي في آخر عام 1376هـ (رحمه الله) فأول ما قدم إلى الجوف بدأ ببناء جامع كبير يعرف الآن باسمه وكان (رحمه الله) مُعرضاً عن زخارف الدنيا ولا يقيم لها وزناً، وكان يدير شؤونه الخاصة عبدالله بن عبدالوهاب الذي جاء معه مرافقا له فيستلم راتب الشيخ من المالية ويصرف على بيت الشيخ الحاجات الضرورية والبقية يصرف إعانة للطلبة المحتاجين والمغتربين فأخذ مسجده يعُجّ بطلبة العلم من نفس المدينة ومن نواحي أخرى، وكأنه خلية نحل، وظل الشيخ يتعاهدهم ويشجعهم بالمادة من مرتبه رغم قلته كما أسلفنا، ومن المالية بأمر من الملك عبدالعزيز ومن بعده الملك سعود (رحمهم الله) ، لأجل أن ينهلوا من صافي العلوم على يديه وقد استفاد الكثير منهم وخرّج نخبه من طلاب العلم ورجالا تسنموا المناصب العالية في خدمة الوطن وأهله، فكله خير وبركة لتلك المنطقة وأهلها...، وينظر له في هذا المجال العلمي من الأخيار: الشيخ / عبدالله ابن محمد القرعاوي شيخ الجنوب (رحمه الله) الذي كان سبباً مباركاً في تنوير منطقة الجنوب من ظلمة الجهل (آنذاك) بانتشار عدد كبير جداً من مدارسه لتحفيظ القرآن الكريم وتلقي مبادئ في العلم شملت جازان، ونجران، وأبها، وصامطة والقرى المنتشرة هناك بدعم قوي من الدولة -أعزها الله -وبمتابعة خاصة من جلالة الملك سعود (رحمه الله) حيث خصص رواتب للمعلمين ومكافآت للطلبة ثم ضمت تلك المدارس إلى المدارس الحكومية النظامية وكان الشيخ / فيصل والشيخ / القرعاوي سبباً في تنوير الجهتين الشمالية والجنوبية، وقبلهما الشيخ محمد ابن عبدالوهاب (تغمده الله بواسع رحمته) الذي عم نفعه بتصحيح المفاهيم الشرعية والمعتقدات الدينية، ومحاربة البدع والخرافات -جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء -ثم امتدت يد الإصلاح والتوسع في تبصير الأمة بأمور الدين والإفتاء على أيدي العلماء والمشايخ الكثر مثل: رائد الحركة العلمية بحريملاء قديماً الشيخ / محمد بن ناصر المبارك، وسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ / محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ/عبداللطيف، وبعدهما الشيخان الجليلان الشيخ/عبدالعزيز بن باز والشيخ/محمد بن عثيمين ومن ماثلهما من العلماء، فأعقب ذلك انتشار المعاهد العلمية والكليات والمدارس عموماً، حيث ازدهرت العلوم والثقافات عامة بهذا العصر الزاهر في ظل ملوك وولاة أمر هذا الوطن، فالشيخ فيصل المبارك (يرحمه الله) شمعة سطعت وأضاءت صدور الكثير من أبناء منطقة سكاكا والجوف وغيرهم من تلامذته بدروسه ومؤلفاته ومخطوطاته التي تربو على عشرين كتاباً، فقد حباه الله سعة في العلم ورحابة صدر وتواضعا جما حبب الناس إليه، ومن كانت هذه صفاته استعذب الناس ذكره وأحبوه وصدق الشاعر حيث يقول:
وجه عليه من الحياء سكينة ** ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحـــب الله يومـــاً عبده ** ألقــى عليه محبة في الناس
وكانت مكتبة الشيخ فيصل ومخطوطاته العلمية ـ التي سحبت مكتبة الملك فهد أصولها ووعدت ببعث صور لتلك المخطوطات ولم تصل حتى الآن..! هي نواة لتأسيس المكتبة العامة بحريملاء التي بلغ مجمل محتوياتها الآن ما يقارب من اثنين وعشرين ألف كتاب، ولا زال المدد من قبل الوزارة يرد إليها بين وقت وآخر، وقد اقترحنا على الوزارة افتتحاها رسمياً فوافقت على افتتاحها فافتتحناها في عام 1388هـ وفرغنا لإدارتها الأستاذ الراحل محمد ابن عبدالعزيز الناصر (رحمه الله) أحد المعلمين لدينا في المتوسطة ومعه بعض المستخدمين، ولا زالت أبوابها مفتوحة على فترتين صباحية ومسائية، وكل ذلك من بركات الله ثم من الشيخ فيصل (يرحمه الله) وقبل نقل تلك الكتب إلى المبنى الذي كان يحتاج إلى ترميم وصيانة أبدينا للشيخ محمد بن صالح ابن سلطان أن المبنى يحتاج إلى صيانة فما كان منه (رحمه الله) إلا أن سلم لنا مبلغ خمسة آلاف ريال، والخمسة لها وزنها في تلك العقود الفارطة، فالشيخ فيصل يعتبر من نوادر العلماء الأفاضل علماًَ وسخاء وحرصاً على أن تخرّج مدرسته (المسجد) طلاب علم وقضاة ينفع الله بهم أذكر من أولئك أن الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب الذي قدم معه إلى الجوف مرافقاً تخرج على يد الشيخ ثم تولى القضاء في عدد من البلدان.... إلى أن توفاه الله، ويقال إن الملك عبدالعزيز قد طلب من الشيخ فيصل بعد مدة من إقامته في الجوف أن يعينه في موقع آخر فأفاد الشيخ أن لديه غروسا ولا يرغب مغادرة الجوف حتى تؤتي تلك الغروس ثمارها فلما علم الملك (يرحمه الله) أنه يقصد بالغروس الطلبة الذين يهتم بتعليمهم وتهيئتهم للمستقبل أكبر الملك عبدالعزيز ذلك منه فعدل عن نقله لحرصه على نشر العلم وتنوير أفراد شعبه فاستمر الشيخ هناك حتى توفاه الله عام 1376هـ... ، ولنا مع الشيخ بعض الذكريات حيث جمعتنا به الأيام في مستشفى أرامكو بالظهران عام 1370هـ وكلانا يراجع المستشفى، وكان يدعوني لتناول طعام الغداء معه ويؤكد ذلك علي مرارا لعلمه باغترابي في تلك البلاد فجزاه الله عنا خيراً، فكرمه مستمر في حله وارتحاله وكأن طرفة ابن العبد يذكره بهذا البيت:
لعمرك مع الأيام إلا معارة ** فما استطعت من معروفها فتزود
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه عالي الجنان.
الأستاذ عبدالله القعيد وحلاوة الأيام (<!--)
ما أحسن الأيام إلا أنها ** يا صاحبي إذا مضت لا تعود !
مر بالإنسان في هذا الوجود فترات جميلة من الزمن يعيشها جذلا فرحا برفقة صحبه وأحبته ورفاق دربه، وكأنه يملك زمام السعادة واستمرارها وديمومتها. فلا يخطر بباله شيء من كدر العيش ومنغصات الحياة، ولكن سرعان ما يعقب ذاك الفرح والمرح أتراح وأحزان يطول مدى مكثها بين جوانحه وفي ذاكرته..، حيث يفاجأ بغياب ورحيل أحد أصفيائه، وأقرب الناس إلى قلبه من والدين وإخوة، أو صديق ود سكنت محبته في أغوار نفسه، فبينما كنت أودع صديقي وزميلي في العمل الأستاذ الكريم عبدالله بن عبدالعزيز القعيد -أبو خالد -وهو واقف في انتظار سيارة أجرة تنقله إلى مدينة الرياض قبل صلاة عصر يوم الخميس 8/5/1391هـ وبعد ما استقر في مقعد السيارة الخلفي أومأ بيده اليمنى مودعا ثم ما لبث أن لوى عنقه نحوي بعد تحرك السيارة بأمتار قليلة وهو ينظر إلي نظرات خلتها نظرات مودع، وربما أنه قد استشعر أو أحس شيئا ما بداخله على خلفية رؤيا منامية أو إحساس باطني فكانت آخر نظرة! ولحظة منه أوجعت قلبي، حيث إنه لم يمض على تلك اللحظات سوى نصف ساعة فقط، فإذا هو في عالم الراحلين فجأة على إثر انقلاب السيارة وبصحبته رفيقه إبراهيم بن محمد الجريبة رحمهما الله، وكان وقع ذاك النبأ موجعا ومؤلما لنفسي، فما كان مني إلى أن استرجعت تاليا هذه الآية الكريمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ومتذكرا قول الشاعر الأستاذ/محمد بن سليمان الشبل الذي سبق أن مر به ما مر بنا من أحزان ولوعات فراق :
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي ** إلا الأسى في حنايا القلب يستعر
ولقد آلمني رحيله وغيابه عن ناظري، وعن ساحة أحبائي ورفاقي..، هي الأيام ولياليها التي لا يدوم لها سرور وراحة بال، وقد طبعت على تفريق الجماعات والأحباب، ثم انطلقنا إلى موقع الحادث الذي وقع على مقربة من موقع كلية القيادة والأركان حاليا، فوجدنا من آثار الحادث قليلا من الشعيرات التي تساقطت من رأس -أبو خالد رحمه الله -لشدة ارتطامه على الأرض، فالتقطتها واحتفظت بها داخل ظرف للذكرى، كما أن صورته لم تغادر مفكرة تسجيل أرقام الهواتف لدي رغم مضي أكثر من أربعين عاما على وفاته؛ وذلك لشدة حبي له وقربه من نفسي، فذكراه لا تغيب عن خاطري مدى الأيام -تغمده الله بواسع رحمته -ولقد عرفته مُبكرا في أثناء قدومي إلى المنطقة الشرقية للعلاج بمستشفى أرامكو عام 1372هـ وهو (آنذاك) يقوم بأعمال خاصة داخل قصر معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان الذي كان يمثل حكومتنا الحبيبة إلى قلوبنا لدى شركة أرامكو ومديرا للمالية، كما كان يقوم بخدمة وقضاء حوائج عمته -أم عبدالعزيز -متعها الله بالصحة والعافية عقيلة الشيخ عبدالله بن عدوان. وكان (يرحمه الله) يتصف بالحيوية والحذق، وبالترحيب بزوار وضيوف معالي الشيخ في أثناء غيابه عن القصر.. فهو شاب نبيه ووجيه، وفي عام 1379هـ عينته وزارة المعارف كاتبا وملاحظا للطلاب ليعمل معنا في إدارة معهد المعلمين بحريملاء والمدرسة الابتدائية -آنذاك -وظل التعاون والتآلف بيننا مستمرا، وعند استقلال المرحلة المتوسطة في مبنى خاص رشحناه مديرا للمرحلة الابتدائية فوافقت الوزارة على ذلك، واستمر في عمله القيادي المشرف حتى غالته يد المنون -كما أسلفنا -في 8/5/1391هـ. كما سعدت بمشاركته معنا في شراء وبيع قطع من الأراضي السكنية في حي أسميناه: (حي العزيزية بحريملاء) على الشارع العام حاليا فنقوم ببيع بعضها، والآخر نتقاسمه، ونعتبر في نظر الأهالي بحريملاء من أوائل العقاريين في بيع الأراضي، ومن الطريف أننا في أثناء قسمة الأراضي نقسمها بدون استعمال الأمتار ونكتفي بخطى الأقدام معتبرين كل خطوة مترا تقريبا، وعندما نمد الخيط لأجل وضع المرسام الذي نعتبره الحد الفاصل بين القطعتين يحصل بيننا تزاحم وتدافع وابتسامات الرضى تعلو محيا كل واحد منا لأجل تزويد نصيب الغالب منا بعدد قليل من السنتيمترات لا تتجاوز 30 سنتيمترا تقريبا فتنتهي القسمة برضى الطرفين دائما، كما أن ذكريات الرحلات المدرسية والقنص معه لا تنسى أبد الأيام، ولا ننسى والده -عبدالعزيز -الذي كنا نستفيد من أحاديثه الشائقة وأشعاره جيدة السبك وقصصه التاريخية عن الملك عبدالعزيز (رحمه الله) وعن غزواته الموفقة في أثناء زياراتنا له في نخله بحريملاء، فالزميل عبدالله - أبو خالد -كله خير وبركة والعزاء في ذلك أنه ترك سمعة طيبة وذكرا حسنا وذرية صالحة تدعو له، وهذه الكلمة الوجيزة عبارة عن جزء يسير من سيرته الاجتماعية وحياته العملية الوظيفية، وما علينا إزاء الحادث الجلل الذي كان سببا في غيابه عنا إلا الصبر والإيمان بأقدار الله جل جلاله.
وإذا تصبك مصيبة فاصبر لها ** عظمت بلية مبتلى لا يصبر
تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته.
الأستاذ/ عبدالرحمن الناصر إلى دار المقام (<!--)
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره *** كباقي ضياء الشمس حين تغيب
يختلف وقع المصائب على النفوس من شخص لأخر قوة وضعفاً، منها ما ينزل على المهج هوياً كبعض الأجرام السماوية الملتهبة نزولاً بانحدار سريع صوب الكوكب الأرضي داكةً تلك الجبال المواكث والهضاب دكاً، فمصائب الدنيا لا تأتي متتابعةً وإن صفت يوماً أعقب صفوها كدر، فهي دار أحزان وأتراح، وسعيد من إذا انتهت مدة إقامته في الدنيا يرحل بزادٍ من التقوى يضيء له الدروب إلى دار المقام دار النعيم، وبذكرٍ جميل تردده الأجيال على تعاقب الملوين:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ** من الله في دار المقام نصيب
فبينما كنت مغتبطا أسير على متن حافلةٍ بصحبة بعض أفراد أسرتي بقيادة أحد أنجالي البررة متوجهين صوب المسجد النبوي بالمدينة المنورة مضجع ومحضن جسد سيد البشر محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، وقبر صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب عليهم رضوان الله يحدونا الشوق للصلاة في ذاك المسجد المتربع على أرض تلك البقاع الطاهرة التي يضاعف فيها الأجر والحسنات، والسلام على صفوة الخلق سيدنا محمد بن عبدالله، وعلى صاحبيه رضي الله عنهما حيث رن الهاتف المحمول رنةً أعقبها نبأ محزن بوفاة شابٍ نشأ في طاعة الله قل المماثل له خلقاً وأدباً وسماحة خلق، إنه الأستاذ الفاضل المربي عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد الناصر على إثر مرضٍ عضال لم يمهله طويلاً ولم يعطه فرصة للأخذ بالأسباب لصده وإبعاده عن جسده، وكأني بشعوب – على سبيل التوهم – قد اعتذر منه قائلاً: قد أمرني المولى بإنهاء عمرك، حيث سطر مقداره في اللوح المحفوظ منذ الأزل، ففاضت روحه الطاهرة بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء 6/5/1431هـ بعد رحلة مشرفة في حقل التربية التعليم والتدريس في عددٍ من المواقع حتى ألقى عصا التسيار والترحال في مهوى رأسه ومهد طفولته – محافظة حريملاء – وقد بدأ مشواره التعليمي بالمرحلة الابتدائية في المدرسة السعودية بحريملاء، ثم بالمعهد العلمي بها مواصلاً دراسته بالمرحلة الجامعية بكل نشاط وتفوق علمياً وأدبياً وقد تخرج في كلية الشريعة بمدينة الرياض عام 98/ 1399هـ ثم عين مدرساً بالمعهد العلمي بحوطة سدير عام 1399هـ، وظل هناك على ملاك إدارة المعاهد والكليات مدة من الزمن، فلم يعقه ذلك عن مواصلة زيارته وبره بوالديه كبيري السن للاطمئنان على صحتهما، والقيام بخدمتهما في أواخر كل أسبوع حيث يحضر من حوطة سدير إلى حريملاء محاولاً طلب نقله إلى المعهد العلمي بحريملاء ليكون على مقربة منهما، ونظراً لتعذر تحقق أمنيته بحريملاء لكثرة عدد المعلمين بالمعهد العلمي طلب بإلحاح أن ينقل على ملاك وزارة المعارف – آنذاك – فتم له ذلك فنقل إلى متوسطة "رغبة" الواقعة غربي حريملاء على بعد 35 كيلو تقريباً ومكث فيها حوالي سبع سنوات وأخيراً وجه إلى متوسطة وثانوية حريملاء. وكان في أثناء وجودنا على رأس العمل يعمل بكل جد وإخلاص وأمانة، ويتقبل القيام بحصص الانتظار بصدر رحب فيستغلها فيما ينفع الطلاب ويجدد نشاطهم رغم كثافة عدد الحصص والمواد في جدوله ولم يعهد عنه – رحمه الله -تقطيب حاجبيه، وقد حباه المولى رحابة صدر ولين جانبٍ، وإخلاص في أداء عمله طيلة الفترة الزمنية التي عاشها محبوباً ومقدراً في حقل التدريس، وقد ظهر ذلك جلياً على تفوق أبنائه الطلبة في جميع المواد التي كان يدرسها في كل المواقع وذلك من تأثيره النفسي عليهم وحبهم إياه، حيث ينفحهم بالنصائح والتوجيهات الأبوية التي تضيء لهم سبل النجاح والفلاح في قابل حياتهم العلمية والاجتماعية، وحسن التعامل مع الأخرين، فلسان حاله – يرحمه الله – يذكرهم بفضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما وهب من خلق عظيم بقوله {وإنك لعلى خلقٍ عظيم} من سورة (القلم). فالتحلي بالأخلاق والآداب العالية المستوى تحمي المرء المسلم -بحول الله وقدرته – من الزلل والجنوح، ولقد أجاد الشاعر المصري حاثاً على الاتصاف بجوهر الآداب والفضائل حيث يقول:
فإنما الأمم الأخلاق مابقيت ** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأستاذ عبدالرحمن – أبوفهد – قمة في الأخلاق الحميدة والاستقامة وحسن التعايش مع الجميع، والحث على قوة الترابط والتآلف بين الأسر وسائر أفراد المجتمع، بل وبالبر وصلة الرحم حيث احتضن إخوته الصغار وقام برعايتهم بعد رحيل والده والدهم جميعاً حتى كبروا مع بره المتناهي بوالدته الحنون قبل أن يفجع برحيلها عنهم -رحم الله الجميع -، فهو محبوب لدى زملائه وأبنائه الطلبة لما يتحلى به من أدب رفيع، ومن دماثة خلق ولين جانب وثغر باسم. ولقد كان لرحيله بالغ الحزن العميق في نفوس أسرته وأبنائه وإخوته ومحبيه، حيث خيم الحزن على أجواء حريملاء وماحولها، وعلى ساكنيها لما له من مكانة عالية ومحبة صادقة في طوايا نفوسهم، وقد اكتظ المسجد الجامع بالحي الجديد وساحاته بحريملاء رغم رحابته واتساعه بجموعٍ غفيرة قدموا من عددٍ من المحافظات والبلدان المجاورة رجالاً ونساءً وأطفالاً رافعين أكف الضراعة للمولى بأن يحسن وفادته ويتغمده بواسع رحمته، ومما زاد حزن المشيعين له تدافع تلامذته وأبنائه الصغار على حافة القبر وهو ينزل برفقٍ وأعينهم تتابع النظر إلى جثمانه الطاهر قبل أن يغيب عنهم إلى الأبد، وقد أجهشوا بالبكاء المر المسموع فأبكوا من حولهم، وقد رطبوا حافات قبره بوابل من دموعهم الحرى، ولك أن تتصور مابداخلهم من لوعات الفراغ الأبدي عندما يعودون إلى منزله وقد خلا من شخصه، تغمده الله بواسع رحمته، وألهم ذويه وإخوته وأبناءه وبناته، وعقيلته – أم فهد – ومحبيه الصبر والسلوان. {إنا لله وإنا إليه راجعون}.
رحمك الله أبا عبدالرحمن (<!--)
(الفقيد عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد الداود رحمه الله)
أمن المنون وريبها تتوجع ؟ *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
الإنسان مهما تطاول به الزمن على ظهر هذه الأرض يظل متعلقا بالبقاء فوقها باذلا ما في وسعه بأخذ الأسباب التي قد تكون سببا في مد أيام عمره – بإذن الله – فنجد بعضاً من البشر يشد الرحال يمنة ويسرة، بل فربما يشخص إلى أقصى وأبعد أطراف الدنيا عله يجد شفاء يبعد عنه شبح حضور شعوب الموكل بقبض أرواح جميع الخلائق، ولكن كل تلك المحاولات قد لا تجدي وقد أجاد الشاعر حيث يقول:
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل (وسيلة) لا تنفع
وهكذا الدنيا حياة ثم موت، وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم النشور، فبينما أبناء الفقيد عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد الداود الذي رحل عنا إلى الدار الآخرة قبيل فجر يوم الأحد 2/6/1431هـ يترددون على بعض المستشفيات الكبرى في مدينة الرياض وإجراء الفحوصات اللازمة له، ثم رجوعهم إلى منزلهم بحريملاء خائبة آمالهم لعدم وجود أسرة لتنويمه هو وبعض المرضى المماثلين لحالته من أهالي حريملاء وغيرهم، ولك أن تتصور حال المريض وحال أسرته، وقد دب اليأس في نفسه وبين جوانحه عند تعذر الجهات المختصة لعدم وجود سرير له، ولسان حاله يلقي اللوم على وزارة الصحة التي منحتها الدولة – أعزها الله – كل الصلاحيات وكل الإمكانيات المادية والبشرية للرعاية الصحية لكل مواطن ومقيم.. ، ومع ذلك كله لم توفر أعدادا من السرر والغرف، وكأنه يردد في خاطره قول أبي الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام!
ومعلوم أن كثافة السكان المتزايدة، واستقبال المستشفيات الكم الهائل من المرضى، ومن الحوادث المستمرة قد تكون مبررة لها..، ولكن كما يقال (صاحب الحاجة أعمى لا يريد إلا قضاءها..!)، والأمل معقود في الله ثم في وزيرها المخلص
– الذي أصبح مفخرة للوطن في تخصصه النادر: فصل التوائم – في بذل المزيد واستثمار ما خصص لوزارته من أموال طائلة تفوق الخيال بالتوسع في إنشاء مبان عملاقة للمصحات في كبريات المدن والمحافظات مع تزويدها بأطباء متخصصين مهرة..، لسد الحاجة، وتقليل الهجرة إلى المدن، وهذا مدرك لدى المسؤولين ولكنها حاجة في النفس بالتذكير:
إذا الحمل الثقيل توزعته *** أكف القوم خف على الرقاب
ولقد أوشكنا في الخروج عن موضوع التأبين للراحل، ويعلم الله أنه عين الإخلاص، والرأفة بالمرضى، والحرص التام على السمعة المشرفة لهذا الوطن وأهله..، والحقيقة أن أبا عبدالرحمن الذي انتقل إلى رحمة الله ولاقى وجه ربه من الذين نشؤوا في طاعة الله ومرضاته منذ صغره حيث ختم القرآن الكريم وحفظ معظمه على أيد المقرئين في الكتاب بحريملاء مع المحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، وكان يتعاهد حفظه وتلاوته ومدارسته مع شقيقه الأستاذ الفاضل محمد الذي سبقه إلى مضاجع الراحلين منذ عقود من الزمن – رحمهما الله -، وبعد ما كبر التحق بالأعمال الوظيفية بالضمان الاجتماعي في حريملاء فترة من الزمن، ثم انتقل إلى مندوبية تعليم البنات في نفس البلد حريملاء ومكث بها عددا من السنين حتى تقاعد بقوة النظام، مع إمامته المصلين مدة تقارب الثلاثين عاما..، وكان له صوت جميل في أثناء تلاوة القرآن الكريم تلذ له الأسماع، فهو موهوب في سرعة الحفظ والفهم، وله بعض الإلمامات بعلوم المواريث، وأحكام الصلوات رغم عدم دخوله المدارس النظامية، ولكن ملازمته الحضور إلى المساجد التي تلقى فيها الدروس والمواعظ أكسبته تفقها في أمر دينه، وأضفت عليه السكينة والاطمئنان النفسي وهدوء الطبع، وحسن التعامل مع الكبير والصغير، فهو – رحمه الله – مضرب المثل في البر وصلة والرحم، والإعراض عما في أيدي الناس، فهو كما يقال (عاف كاف) ، فلسانه رطب بذكر الله – جل جلاله -، كما أنه يحفظ كثيرا من أشعار الحكم والأمثال والنظم فدائما يترنم بها مع أصحابه وفي خلواته..، فيجد في ذلك سلوة ومتع لذيذة، ولقد كان لنبأ وفاته بالغ الحزن لدى أسرته وأبنائه وبناته، وإخوته وعارفيه.. لما يتصف به من سلامة صدر وحسن تعامل مع الجيران ومع أفراد مجتمعه، فمحبته متأصلة في نفوس الصغار والكبار، كما أنه يؤنس جلساءه ببعض الطرائف الخفيفة، والحث على التواصل وقوة الترابط بين الأسر والأحبة، مذكرا لهم أن العمر ليس فيه متسع للتجاف والتباعد، فهو مقبول الإشارة والإيماءة التي يتفوه بها لصالح الجميع ويقال إن آخر كلامه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله – جلت قدرته - وقد اكتظ الجامع الكبير بالحي الجديد بمحافظة حريملاء بالمصلين عليه رجالا ونساء وأطفالاً داعين المولى بأن يتغمده بواسع رحمته ويفسح له في مرقده بين الراحلين قبله، وأن يلهم ذويه وأبناءه وبناته وأخاه وعقيلته أم عبدالرحمن الصبر والسلوان "إنا لله وإنا إليه راجعون".
مضى لسبيله بحر العلوم (<!--)
(الشيخ الزاهد عبدالله بن عبدالرحمن الغديان رحمه الله)
لقد عَظُمت في المسلمين رزيةُ *** غداة نعى الناعون (فينا الغديانا)
ما أكثر فجائع الدهور والأيام، فكل يوم نفجع برحيل غالٍ إلى دار الخلود، تلبية لداعي المولى -جل جلاله -، وقد يعقب ذاك حزنٌ يطول مكثه في نفوس أسرته ومحبيه، فما على المسلم إلا أن يسلم أمره إلى الله ويسترجع، ويصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فصفاء الحياة الدنيا لا يدوم وإن طال أمده حيناً من الزمن، فالمؤكد الذي لا مناص من حدوثه أن يعقب صفوها كدر، وهذه سنة الله في خلقه، فبينما كنت أسرح طرفي في قراءة بعض الكتب الحافلة بالحكم والأمثال، فإذا برنين الهاتف المتسارع يحمل نبأ رحيل عالم فذ إنه فضيلة الشيخ الزاهد عبدالله بن عبدالرحمن الغديان الذي كان من زملاء تلقي مبادئ العلم بحلقات المساجد بمدينة الرياض بحي دخنة لدى سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وأخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف بعد صلاة الفجر، وعلى فضيلة قاضي المحكمة بالرياض الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد بعد مغرب كل يوم بجامع الرياض الكبير عامي 1369- 1370هـ أي قبيل افتتاح المعهد العلمي بالرياض، حيث كان افتتاحه في بداية عام 1371هـ، وقد أحزنني غيابه عنا وعن الدنيا حيث أبعد بعداً لا يرجى إيابه، ولقد سعدت بصحبته مبكراً بالسكن وفي أماكن تلقي العلم -مع البون الشاسع بيني وبينه في التحصيل العلمي، ولا مقارنة بيننا في اقتناص العلوم المفيدة -فهو عالم جاد ومثابر يعد من أبرز علماء الأصول والفقه، والإفتاء بالأدلة الصحيحة، فهو - يرحمه الله - علم بارز وعضو عالي القامة من هيئة كبار العلماء متمكن في علمه الغزير دقيق في إجاباته سهل عليه إيراد الدليل، وسيحدث غيابه فراغاً واسعاً في تبصير الأمة الإسلامية بدقائق المسائل الفقهية والأصولية، (فقيمة كل امرئ ما يحسنه) ولقد أجاد الشاعر وكأنه يعنيه بقوله:
ومن ذا الذي يُؤتى فيُسأل بعدهُ؟ **** إذا لم يكن للناس في العلم مُقنع
فنأمل أن يسعى تلاميذ الشيخ لملء الفراغ من بعده، فعلماء الإسلام يخلف بعضهم بعضا، ولقد عشنا معاً في أحد البيوت والأروقة المجاورة لمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بمحلة دخنه بالرياض التي قد خصصها جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -لطلاب العلم المغتربين القادمين من أنحاء متعددة لطلب العلم على المشايخ في تلك الحقبة الزمنية البعيدة قبل وجود المدارس النظامية وانتشارها بنجد مع تخصيص مكافأة لأولئك، حيث كان يسكن هو والشيخ فهد بن عبدالرحمن بن حمين في غرفة بالدور العلوي مجاورين لغرفة الشيخ محمد السحيباني ونجله عبدالله، وأخوه الشيخ علي - رحمهم الله جميعاً -فكل ثلاثة أو أربعة من طلاب العلم يسكنون معاً في غرفة واحدة من تلك البيوت والأروقة، وقد تحقق لجلالة الملك عبدالعزيز ما أمله من نتائج طيبة حيث تخرج من ذاك المسجد الطاهر، ومن مجلس الشيخ الرحب بمنزله والمسجد معاً نخبة ممتازة من العلماء والقضاة والأئمة والخطباء، حيث إن الملك أعطى سماحة المفتي صلاحية لتعيين الكثير منهم قضاة ومرشدين في أنحاء مملكته المتباعدة الأطراف، بل وبإمداد بعض بلدان الخليج بعدد من العلماء والقضاة تعاوناً منه، واحتسابا للأجر من المولى في نشر العلم والإفتاء هناك، فموضوعنا الآن لا يعطينا فرصة التوسع في الحديث عن أفضال وأعمال الملك الجليلة فهو بعيد النظر ينظر إلى أبعاد الأمور كالاستشعار عن بعد - رحمه الله -، واذكر جيداً أن فضيلة الشيخ آل غديان يقضي الساعات الطوال قراءة وحفظاً لكلام الله داخل مسجد الشيخ محمد، وأنا على مقربة منه أحاول حفظ بعض المتون عن ظهر قلب مثل: متن كتاب التوحيد كاملاً، وثلاثة الأصول، ومتن العقيدة الواسطية، وجزء من متن زاد المستقنع كلها حفظاً آنذاك. وأما الآن فقد تبخرت تلك الكنوز الثمينة أدراج رياح النسيان، ولم يبقِ منها سوى رائحتها الزكية؛ لأن دراستنا النظامية شغلتنا عن الاستمرار في تثبيتها في الذاكرة وحفظها، ومن جهة أخرى كان العم عبدالله بن إبراهيم الخريف من رجال الأعمال توسم في الشيخ عبدالله آل غديان ملامح الذكاء والنجابة، وحسن الخط فطلب منه الحضور ليعمل لديه داخل منزله وقت فراغه ليستفيد منه في تدوين وتسجيل أعماله التجارية، فاعتبره أحد أبنائه لأمانته وحسن تنظيمه، وضبط حساباته مؤكداً عليه تناول طعام الغداء والعشاء معه طيلة مكثه لديهم، ولم يثنه هذا العمل الوظيفي عن طموحاته بالتروي من موارد العلوم العذبة وحلو رضابها التي هي هدفه الأسمى منذ بداية تلقيه مبادئ العلم، فأذكر أنه كان يهتم برصد بعض الفوائد العلمية والمتعلقة بالفتوى فيثبتها في ذاك الدفتر أسود الغلاف مستطيل الحجم الذي يشبه السجلات التجارية الرسمية، ولعله باق لدى أنجاله بعد رحيله، ولي معه ذكريات جميلة رحبة الجوانب في مستودعات ذاكرتي فهي باقية مدى عمري، منها الرحلة الشاقة لوعورة الطريق وكثرة الكثبان الرملية عبر الصحراء مروراً بالأحساء صوب مستشفى أرامكو بالظهران بأمر من ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله -في عام 1370هـ وذلك لندرة المصحات بالرياض وعند وصولنا الدمام اتجه الشيخ عبدالله إلى ضيافة الأمير سعود بن جلوي، حيث إن برقية الأمر موجهة إليه، أما أنا فذهبت نحو قصر الشيخ عبدالله بن عدوان، حيث إن الأمر موجه إلى معاليه، وقد تفضل يرحمه الله فأخذني بسيارته الخاصة إلى مدير المستشفى (اسكندر) آنذاك، فاستقبل معالي الشيخ عبدالله العدوان الذي هو مدير المالية وممثل المملكة في شركة أرامكو في تلك الحقبة الزمنية وقال هذا من أبنائنا فاستوصوا به خيراً...، وظللنا هناك فترة من الزمن لتلقي العلاجات اللازمة حتى أُذن لنا بالعودة إلى الرياض، وقد صادف في أثناء مجيئنا ومبيتنا قبل وصولنا عبر الأحساء إلى الدمام وجود كمية من الجراد متأثراً ببرودة الجو فاصطدنا منه كمية يسيرة، فلما وصلنا الأحساء في الصباح أخذنا نبيع على بعض الشباب كل عشر جرادات بنصف ريال أو أقل حتى صفينا تلك البضاعة التي لم نتوقع امتلاكها فاستفدنا من قيمتها بعض الشيء، وهذه من المصادفات الجميلة الطريفة، فالشيخ رحمه الله قد وظف جل وقته منذ بداية حياته للتروي من حياض أنهر العلوم الصافية مما أهله للعمل في حقل التدريس والإفتاء حتى غادر الحياة مأسوفاً عليه، وقد غص جامع الملك خالد بأم الحمام بآلاف المصلين عليه بعد عصر يوم الأربعاء 19/6/1431هـ فحمل على أعناق أبنائه وتلامذته ومحبيه حتى أضجعوه برفق في جدثه:
مُجاور قوم لاتزاور بينهم **** ومن زارهم في دارهم زار هُمّدا
راجين له طيب الإقامة -تغمده الله بواسع رحمته -، وكنت أحياناً أداعبه قائلاً: أنت يا أبا عبدالرحمن ما تهتم بمظهرك الخارجي فلو حاولت أن تظهر بمظهر لامع يتناسب مع مكانتك العلمية، فيرد علي: أنا في شغل عما تشير إليه فقلت: يرحمك الله، وكأنه يقول:
فإن كان في لبس الفتى شرف له **** فما السيف إلا غمده والحمائل
ولئن غاب شخص (أبو عبدالرحمن) عن نواظرنا فإن ذكره العطر سيمكث بين جوانحنا، وفي قلوب تلامذته وزملائه ومحبيه، حيث ترك علماً نافعاً يقتات منه طلاب العلم والمسترشدين على تعاقب الأجدَّين وهما الليل والنهار، ويطيب لي أن أختتم هذه العجالة بهذا البيت الذي ينطبق على أمثاله:
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ** بعد الممات جمال الكتب والسير
تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه عالي الجنان، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وأخاه عبدالرزاق، وعقيلاته وجميع محبيه الصبر والسلوان (إنا لله و إنا إليه راجعون).
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) كتبت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 26 ربيع الأول 1431هـ الموافق 12 مارس 2010م.
(<!--) كتبت للنشر في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء1 ربيع الآخر 1431هـ الموافق 17 مارس 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الجمعة 16 جمادى الأولى 1431هـ الموافق 30 إبريل 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 23 جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 6 يونيه 2010م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 11 رجب 1431هـ الموافق 23 يونيه 2010م.