دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

authentication required

كتاب في جريدة
"شعراء فلسطينيون من تشيلي"
غالبا ما أثارتني مسألة الهوية، هل يمكنني أن أنتمي لهوية/لثقافة تتماثل تماما مع الهوية/الثقافة الفلسطينية، بحيث أكون مخلصا لها كإخلاصي لفلسطينيتي؟، وهل يمكن أن نبدل هويتنا الوطنية/القومية كما نبدل ملابسنا/أحذيتنا؟، وهل يشعر (المُبدل) بانسجام نفسي وفكري، بعد عملية التبديل؟، أم أنه يبقى شخص غير نقي عند من انتمى إليهم؟، أسئلة لا اعرف الإجابة عليها، رغم أن ثقافتي الفكرية في حالة تنامي مستمرة، فهل ما ينطبق على الأفكار الشخصية ـ تجاه القضايا الوطنية والقومية والإنسانية ـ ينطبق على الانتماء والإيمان لقومية جديدة؟.
أسئلة مهمة وتحتاج إلى بحث، على العموم، أنا اكتفي بأيماني أن قضية الانتماء هي قضية في غاية الأهمية، وهي من تجعلنا نستقر نفسيا وسلوكيا، بحيث نكون منسجمين بين ما نفكره به، وما نقوله، وما نسلكه، وهذا الانسجام والتوافق كافا ليعطي الإنسان طاقة ليكون فاعلا ومأثرا ايجابيا في مجتمعه، في وطنه، واعتقد ـ على صعيد شخصي ـ أنني سأكون فلسطينيا/سوريا/عربيا حتى لو ذهبت إلى الجنة، سأبقى احتفظ وانتمي لهذه الوطنية/القومية.
من هنا يغبطني كثيرا أن أجد فلسطينيين محتفظين بهويتهم وانتمائهم لفلسطين، خاصة في هذا الزمن، زمن المال وبيع الذمم والتبرير والبحث عن المصلحة الشخصية، حتى وإن كانت على حساب الوطن والأمة، هذا ما وجدناه في فلسطين والعراق تحديدا، حيث أُقيمت (سلطة/حكومية) تحت الاحتلال، أو أن الاحتلال هو من أوجدها، بحيث كانت غالبية عناصرها والمتنفذين والقائمين عليها عملاء للمحتل، وفي أفضل الأحوال يبحثون عن مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة الوطن والمواطن، لهذا نجد الفساد والمفسدين يهربون خيرات وثروات الوطن إلى الخارج، تاركين الشعب في حالة بؤس وفقر وجوع وحرمان من أبسط الحاجات الأساسية، وجاعلين الوطن في حالة تخبط وفوضى، فلا أحد يقدر على التقدم خطوة واحده في الاتجاه الصحيح، فكثرة الفساد والمفسدين والفوضى التي تطال كافة نواحي الحياة والمؤسسات، تجعل من الاستحالة رؤية بصيص أمل.
من هنا نحن بحاجة إلى زاد، إلى طاقة تثبتنا ـ أولا ـ لكي لا ننزلق نحو الهاوية أكثر، ومن ثمة لنتقدم بشكل صحيح إلى الأمام، وهذا الزاد/الطاقة يكمن في شعراءنا في المهجر، الذين بنوا أنفسهم وساهموا في تطوير وتقدم الدول التي تواجدوا فيها، فكانوا مثلا يحتذى لنكون مثلهم، بناؤون، معمرون، مفكرون.
لنا الفخر أن نجد من ابناء فلسطين من أحدث بصمة ونقلة نوعية في الشعر التشيلي، فلنا سبعة أعمدة فلسطينية شاهقة فيها، وهذا ما يجعلنا نقول رأي الشاعر "مازن دويكات": "لست عقيمة" فمن ينجح في الخارج لا بد أن ينجح في الداخل، في الوطن، من هنا نقول: لنا أن نفخر بأبنائنا واخوتنا واهلنا المبدعين اينما كانوا، فلهم علينا أن نكرمهم من خلال الكتابة عنهم وما كتبوه من ابداع.
سنبدأ الحديث عن "محفوظ مصيص" الذي عاش منفي عن وطنه "تشيلي" بسبب حكم الدكتاتور "بينوشيه" الذي اجبره على ترك تشيلي ناجيا بحياته، فعاش منفيين، منفي من وطنه الأم ، فلسطين التي لا يستطيع العودة إليها، ومنفي من وطنه الذي تربى وعاش ونمى فيه، لهذا سنجد هناك ألم في شعره، يقول:
"بعادات كابحة للعواطف سقطت من البرتقالي
وكانت
حجرا من ذهب
شرابا قربانا للغرباء
كنت رجل يافا في العائلة
آكل في المقلاة
نائما
مثل متوحش فوق الحصير
لا احد قرأ في قلبي المدينة المدفونة" ص9، هناك مجموعة من الألفاظ تشير إلى حالة الألم الذي يمر به الشاعر : "لغرباء، المقلاة، متوحش، حصير" كلها تعطي مدلول إلى حياة الترحال وعدم الاستقرار، ونجد هذا الأمر من خلال تناوله "ليافا والمدينة" وكأن هناك جوع عند الشاعر لحياة المدينة والاستقرار.
واعتقد أنه عندما ذكر "يافا" أراد بها الاشارة إلى أن القضايا الإنسانية واحدة، أن كانت في فلسطين المحتلة أم في تشيلي التي تخضع لحكم العسكر والطغاة.
ونجده يقدمنا أكثر من الحالة البعد عن الوطن فيقول:
"أنا محفوظ مصيص العبد
المارق ذو الجلد الأسود
المجنون الفار من الجندية الأبلة المغزول من ثلج
أخفي أسناني الشنيعة ذيلي الذي لملك بابلي
كلما مشيت في المدينة رفقة النهر الملوع
بين ازرقاق زيتي يعتم ظلي الشائخ
بعبر المستنقعات
أعوي على الجلالة القمرية
ببزتي العسكرية الغامقة
بزة ميت
...
انبش التراب بين ديدان وشقائق النعمان متعفنة" ص9،
يتحدث الشاعر عن نفسه، لهذا نجده يذكر اسمه، ويعطي ذاته صفات قبيحة وقذرة، كتعبير عما يمر به من ابتعاد عن الوطن وما يمر به الوطن والشعب من ظلم وجور، واعتقد أن ألفاظ: "العبد، المارق، المجنون، الفار، الأبلة، الثلج، الشنيعة، ذيلي، الملوع، الشائخ، المستنقعات، أعوي، ميت" كلها تجعلنا نتأكد أن هناك حالة احتقان غير عادية يمر بها الشاعر، وإذا ما عرفنا أن تشيلي عاشت أسوة فتر حكم في عهد بينوشيه، وأن المواطن التشيلي العادي عاني الأمرين، يمكننا أن نتفهم موقف الشاعر الذي يخدش احساسه ومشاعره أي حدث، فما بالنا في نار مشتعلة في الوطن!!.
المنفى يحدث أكبر وجع في الإنسان، وهو بمثابة اللعنة التي تطارده أينما كان، يخبرنا "محفوظ مصيص" عن وجع المنفي فيقول:
"وأنا ابلع مسامير في هذا المنفى الذي من ذهب
أشيخ، أصدأ
اتقدم كأن جمجمتي تهتز
فتسقط أسناني المشبعة
بشراب الرووم
في ليلة الكاريبي" ص12،
سواد مطلق إذا ما استثنينا "ذهب شراب" وما يلفت النظر أن الشاعر صورة نفسه يبتلع المسامير، وهذا يشير إلى الألم الداخلي، ما يعانيه، وهناك أثر خارجي لهذا المنفى يظهر على الشاعر من خلال "أشيخ، أصدأ فتسقط اسناني" فهناك ألم ووجع داخلي يطال النفس والفكر "جمجمتي تهتز" وأيضا وجع جسدي، فالجسد لم يعد يقدر على تحمل الشيخوخة/الصدأ، وهذا ما يعطي صورة للموت البطيء، الموت بالتدريج وعلى مراحل، مما يزيد العذاب على الشاعر، الذي يعاني نفسيا وفكريا وجسديا.
يقدمنا الشاعر أكثر من حالة النفسية وما يمر به من ألم:
" أنا المنبوذ
الذي يحيا في أحزمة بؤس مأهولة
بالقتلة
ألوهية، تذلني، أهذر،
لغتي هي، لغة مجنون،
أو لغة عجوز يبكي والده المدفون
تحت شجرة تين
أعرف 
أنهم لن يفهموني، أنا لست سوى قديس منهك
يهبط من تلك
الأنفاس
حيث الأموات يغلون خبزهم لكن لا أحد يسع كيف" ص13، يكمن الم الشاعر في الفاظ: "المنبوذ، بؤس، القتلة، تذلني، اهدر" وإذا ما توقفنا عند الصورة التي شبه لغته بها:
"لغتي هي، لغة مجنون،
أو لغة عجوز يبكي والده المدفون
تحت شجرة تين" يمكننا التأكيد أن الشاعر يعيش في حالة ألم غير عادي، لهذا أعطا تفصيل دقيقة عن العجوز، "تحت شجرة تين" والتي لم تكن لتضيف شيئا عن معاناته، لكن العقل الباطن عند الشاعر جعله يعطي هذه التفاصيل.
وإذا ما علمنا أن الشاعر لا يتناول المرأة، والتي تعد عنصر مخفف ومهدئ يمكننا أن نستوعب حالته أكثر، كما أنه كشاعر يفقد، أو يجد لغته قبيحة، والتي هي الأداة التي يعبر فيها عن ذاته، ويجد نفسه فيها، والتي تعد أيضا حالة تخفيف وتهدئة له، نجدها لغة مجنونة، لغة عجوز باكا، وهذا ما يجعلنا نتأكد أن حالة المنفى تحاصر الشاعر وتعمق أزمته، بحيث فقد الأدوات والعناصر التي يمكنها أن تخفف وتهدئ حالته.
كل ما تقدم كان عن يمثل حالة الشاعر "محفوظ مصيص" كمواطن تشيلي، لكن أين "محفوظ مصيص الفلسطيني؟:
"أنا الذي خرج من صلبك
الأول في المنفى الفقير هذا
أبدا ما فهمتك كنت تسأل
لماذا نحن هنا كم هي بعيدة فلسطين!!وأنا فقط
من كان يريد البكاء
أرغب، إن كان بالإمكان،
تصفية هذا الدين بقطع
الذراعين
هذا اللسان الهائل،
أو لإقلاعي وإلى الأبد عن النوم
أن أقول لك: لنمشي سوية إلى فلسطين
لكنها
لم تعد موجودة وأنا
وأنت نمضي في شتات" ص14، إذا ما قارنا هذه القصيدة بما قبلها نجد الحزن فيها أخف من ذلك الذي جاء يعبر عن (تشيلية) الشاعر، واعتقد أن هذا يعود إلى أنه عاش كمواطن تشيلي، وليس كمواطن فلسطيني، فقد عرف/وصل إلى حالة الوعي والفهم لفلسطينيته والأصل الذي جاء منه في مرحلة لاحقة، لهذا هو يتحدث عنها بحزن، إلى حالة مسلم بها، لهذا نجده يقول "لم تعد موجوده" فحالته اقرب إلى حالة الفقدان الكامل والمسلم به، من حالة وجود أمل في العودة إلى ما كان.
وهنا علينا أن نتوقف عند هاتين الحالتين لنعطيهما حقهما من التحليل، وهنا نطرح سؤال: هل يستطيع "محفوظ مصيص" أن يتحمل "كشاعر" حالة المنفي كمواطن تشيلي وكمواطن فلسطيني؟، اعتقد أن ما جاء من حديث عن الألم الذي يعيشه كمنفي من وطنه تشيلي، جعله غير قادر على تحمل مزيد من الألم، لهذا أراد في عقله الباطن ـ أن يخفف على نفسه ـ من حالة الألم الذي يسببه المنفى، فحسم الموقف من فلسطين، بعدم وجودها.
من هنا علينا ان نفهم هذا النفي، فهو (نفي) ضروري بالنسبة لحالة الشاعر النفسية ولحياته كإنسان، فلو أضاف تفاعله كمنفي فلسطيني، إلى منفي كمواطن تشيلي، أعتقد أن الشاعر سينتهي، ويموت قهرا، فهو ولا غيره يستطيع أن يعيش حالة المنفيين معا.

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 128 مشاهدة
نشرت فى 13 سبتمبر 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

578,985