دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

كواليس
كان يجلسُ وحيدا إلى الطّاولة الوحيدة الشّاغرة.. تطفّـلتُ عليه، على عزلته.. أنا من تطفّل عليه ( و كنتُ مضطرّا إلى معاقرة قهوة وسيجارة).. استأذنتُ لأجلسَ.. جلستُ بجواره.. لم تكنْ الأماكنُ شاغرة..(الأماكنُ على الدوام مشغولة ومحجوزة.. رغم أنّ الفراغات الكبرى )..وضعتُ القهوة على الطاولة.. سحبتُ سيجارة لم يتسنّ لي إشعالها على عجلٍ .. بقيتْ برهةً بين أصابعي، مستكينة لمداعبة شبقة.. كما لو أنّها تودّ أنّ مادّتها الشعَريّة تُحْـرَق بنعومة.. ..لاطفتها.. (يجوز أن نتحدّث ونحن نلاطف سيجارة عن متعة سحريّة على أهبة أن تشتعل.. يجوز أنْ نتحدّث عن لذّة تتبلور بإتقان كما تتبلور لذائذ أخرى مخلوسة في النّفسِ.. وحين تشتعلُ السيجارة- وكانت من النّار معطالا - يصبح للمتعة مشهد متعة محترقة)..
حين وضعتُ سيجارتي بفمي، كان جاهزا في الحال.. سحب قدّاحةً من جيب بنطاله، ولم يتلعثم وهو يقول: أنا لا أدخّن. و لكنّي أنقذ النّاس.. يُسْتحْسَنُ أن نحمل هذه الأشياء معنا لـنُنْقِذَ الواقعين في ورطة (هذا يُحيل على أنّي واقعٌ في ورطة. ربّما كانت ورطةً غيرَ هيّنة أنْ تملك سيجارة إزاء كائن لا يُدخّنُ.. من معاني ذلك أنّك تمارسُ مهمّة خسيسة من منظار ما. ثمّ أنّك – وأنت المدخّنُ-لا تملك أدواتِ إنجاز ما هو في نسيج عاداتك، على نحوٍ كاملٍ.. فيما الآخرُ الذي لا يدخّنُ يَجْهَزُ بأداة يُفْترَضُ ألاّ تخُصّهُ هو.. إذنْ هي ورطة محرجة)..
أضاف: "حُبّ النّاس مكـسبٌ كوْنيّ ("كوْنيٌّ" تلك لفظة لـُـذْتُ بها لتجميل معنًى لم تُـتِح له اللغة آنئذ ٍ اقترافه، أو لم يُحْسِنْ الإفصاحَ عنه بما أراه مناسبا).. على المرْء أنْ يتدجّجَ بما يمكنُ أن يُسعِفَ الآخرين المتورّطين"..(ثمّة آخر متورّط بطريقة ما ..وهذا الآخر هو الآن أنا- ذلك الشخص الذي يجرؤ على أن يعتبر نفسه خبيرا ببعض أسرار العالم والنّاس والقيم.. وثمّة مسعف، هو الآن هو- ذلك الشخص الذي لم أكنْ أراه بما يكفي، كان مخفيّا عن عيون صدئة تزعم الرؤية وهي على عمَهٍ وعمىً..)
سمَحَتْ لي حركتُه المترعة بالمودّة ، وتدخّلهُ المطليّ بلطافةِ لبقةٍ، بأنْ أجرؤ على سؤاله:
ـ ما اسمك؟
كنتُ أعرفه من قبل معرفة الظّاهر.. كان من الوجوه التي تتواتر لأيّامٍ متتالياتٍ على شكلٍ مسترسل. ثمّ لا تفتأ أنْ تغيبَ أيّاما متتالياتٍ.. هكذا إذنْ كان من الوجوه شبهِ المألوفة التي ترتادُ ذلك المكان ولا تِؤذي أحدا من البشرِ.. كنتُ أراه ممّن يدخلون. يسلّمُ في ابتسامٍ وادع.. يسألُ سؤالا عابرا، بكيفيّة ما تخصّه.. حول مسألة عابرة.. يطلبُ قهوة.. يحتسيها، بكيفيّةٍ ما تخصّه.. ثمّ ينصرفُ لشأنه كما لو كان به شغفٌ بفرحٍ خفيّ..
تردّد في الإجابةِ عن اسمه..انهـلتُ عليه بسيلٍ من أسئلة.. لم يُجبْني عن الاسم.. أجابني عن أسئلةٍ أخرى كثيرة، من قبيل ماذا تشتغل؟ - اشتغلُ في مجال الفلاحة. مع والدك؟ - أبي متوفّى. مع أخوتك؟ - تقريبا.. هلْ أنت متزوّج؟ - إن شاء الله عمّا قريب.. كان يتوقّف بين السؤال والإجابة لحظاتٍ.. كان ما بينهما يتحرّك على نحو ٍ يوحي بعدم التّركيز.. ذلك أنّه كان يتطرّق إلى مواضيع مختلفة في وقت واحد(تلك في اعتقادي إحدى علامات الجوع إلى الكلام).. وكان يقول الموضوع الواحد بجملة واحدة( وقد تكون تلك علامة اقتصاد لفظيّ ودلاليّ)..
حركاتُه موسومة برعشاتٍ تشي بأنّه مقبلٌ على حالة من هوسٍ.أو خارج من حالة هجْسٍ صريح، أو هو بصدد الاستمرار في اقتراف حكمةٍ أجهلها.. بعد بُرَهٍ من تردّدٍ و انفلاتاتٍ لغويّة في مواضيع مختلفة مشتّتة، أجاب:
بحْـري..
هذا لقبك؟ سألتكَ عن اسمك؟
... ولكن، لماذا تسألُ عن اسمي؟
هو ذا يورّطني بحقٍّ..أنا أعدُّ"لماذا تسألُ عن اسمي" التي صدرتْ عنه، توريطا مباشِرا.. أوَ يكون ذلك دليلا على أنّني أقتحمُ دوائر سريّة من ذاتهِ - تلك الدّوائر المُمحّضة له ،لا لسواه؟..(عادة ما تكون تلك المناطق مزروعة ألغاما ومحوطة بحزام أمنيّ غير قابل للاختراق،حتّى عند الكائنات السّاذجة.. وحالما تشرعُ في اقتحامها تنهالُ عليك نيران كثيفة). أم يكون ذلك دليلا على أنّي أتخطّى المسافة الظّاهرة المسموح بها، للتواصل اليوميّ مع النّاس؟( كثيرا ما تكون تلك المسافة حدودا مفتعلة وقائيّة لا غير).. يجوز أن تكون تلك المسافة لا تسمحُ بغيرِ أن نمتـنّ بإذعانٍ لمَنْ أنقذنا، بأنْ قدّم لنا قدّاحة مسعفة.. وهو بذلك يكون قد أُنهيَ- بوعْيٍ أو يغيرِ وعيٍ- تلك الملاطفة بين السيجارة والأنامل، والتي قد يكون عَـدَّها – كما لا تعدّها أنتَ- بذيئة أو حراما، مُـوَتّرة أو تافهة..
حين تورّطتُ إذنْ في إجابته السائلة"لماذا تسأل؟"، تداركتُ أعتذرُ:
" ليس لي غاية من ذلك سوى معرفتكَ.. لا عليك.. مجرّد فضول لا أخلاقيّ يُستحْسنُ إغفاله"..
كان عليّ أن أتدارك. وأحترم مسافة الصمتِ العازلة دون اقتحام خصوصيّته الحميمة التي ربّما كان يودّ أن يتكتّمَ عنها.. وكان عليّ أنْ أعود إلى قهوتي وسيجارتي التي هو مَنْ مَــنّ عليّ بقدّاحة لإشعالها.. (و سيكون تبعا لذلك متحكّما في لحظة المتعة التي أحتسي خلالها قهوة، وأقبّلُ سيجارة تمْنحني من نارها الدّخان مَجّا). صمَتُّ إذنْ .. وحين عاد إلى الكلام، استرسلتُ في الصَمْتِ عساني أشتـفي من هنيهة إحْراج وجدتها جارحة.. تظاهرتُ بأنّي لا أبالي.. لعلّني جُرِحتُ لأنّي تورّطتُ في سؤاله الحميميّ - " ما اسمكَ؟".. 
( تأتّى إحراجي من إحساسي بأنّي قد أهِــنتُ من شخصٍ حسبتُه ساذجا، أكثرَ وضاعة ممّا يوحي به ظاهره.. كما يتأتّى الإحراجُ لديّ من اصطدام بأنّ شخصا أكثر منك ذعرا بالحياة، يفاجئك بالأناة والكياسة).. الغريبُ أنّي حرجتُ حقّا..وصمَتُّ حقّا.. لكنّ ذلك جرّه إلى الإجابة:
اسمي كاظم..
قال بعد ذلك كلاما كثيرا.. خاض في متفرّقات اليوميّ.. يجوز الزّعمُ أنّ الهيكل الإطاريّ العامّ لحديثه كان موسوما بالفوْضى.. كان الكلامُ في ظاهره مسَفـَّـرًا بالارتباك.. لذلك لم ألحظْ (أنا على الأقلّ) أنّ كلامه كان خاضعا لتسلسلٍ منطقيّ منهجيّ يحكمُ أطرافه..كانت اللغة متوتّرةً، تخلو من روابط وقرائن تعكسُ قدرة على استرسال في نسقِ الخطاب سلسِ.. كانت المواضيعُ شذراتٍ غيرَ متوالية، نسيجًا، لكنّه كان مرتبكَ الخيوط..ذلك ما قد لاحَ لي.. ولعلّ ما كان يتراءى له هو آنئذ أنّ كلامَه ليس سوى نسيج متناغم من تركيب وعبارة ومعنى..
تأمّلني سريعا.. ألقى نظرة عاجلة، صريحة، غير مخاتلة على كائن يجلس أمامه بحذر أنيق.. تفحّصَ ملبسي ومنتعلي.. قال مسديًا نصحاً، وقد رآني ألفّ على عنقي ملفعا:
احذرْ هذا الملفع.. أو على الأقلّ أرخِ عقدته. لا تجعلْه قريبا من جيدك.لماذا تشنقُ نفسك؟. دعْ لجيدك فتْحة يمرّ منها الهواء.. طريقتك في شدّ الملفع محفوفة بالتوعّك..هكذا، سرعان ما يتسرّب إليك المرض. ستصيبك نزلات البرْدِ..إيّاك أن تختنق..
- صحيح ( حين أسدى لي ما أسْدَى، كان كلامه منطقيّا و الملاحظة لا تشي بفهاهة).. أحاول أن أتّقي ذلك.. لي ملفعان أناوبُ بينهما في الاستعمال..
- كأنّك لست تخلعه إلاّ بالليلِ؟
- بلى.
- إمممْ..
تأمّلني ثانية.. ولم يسألْ أيّ سؤالٍ شخصيّ يُمكنِ أنْ يحرجني أو يمكنُ أن تُحرجَهُ إجابتي عنه..كانت أسئلته التي يمكن أنْ تُعَدّ شخصيّة تُطرَحُ بذكاءٍ لم تكنْ تتّخذ شكلها الإنشائيّ. بل كان يصوغها خبريًّا: 
-" أعرفُ أنّك تشتغلُ مدرّسًا": (إنّ هذا الطّرحَ الخبَريّ للاستفهام يرفعُ كلفة الإحراج عند المُجيب،لأنّه يجد نفسه مُجبرا على الإجابة بلا أو بنعمْ ،و يقتضي أيٌّ منهما توضيحا تلقائيّا)..
- نعم،أنا في هذا السلك.
- لعلّني أخطأت التقدير..أنت إذنْ أستاذ... نعم، نعم..يبدو أنّك غريب عن مدينتنا..امممْ.. هذا يلوح من لهجتك وطريقة تعبيرك .. حتّى طريقة لباسك مختلفة..
- لا،لا.. بلْ من مدينتكمْ.. أنا أعرفك.. أراك تأتي أحيانا إلى المقهى.. أنتَ لا تعرفني.
- سأعرفكَ.. تستحقُّ أنْ تُعرَفَ ..
- تشرّفنا.. 
تفحّص حذائي..(لم يكن تفحّصا، بل كانت إطلالة شاملة كما لو كانت قراءة مسحيّة، لكنّها سريعة).. كان حذائي نسبيّا لمّاعاً.. في الحقيقة لم يكن يعكسُ دواخلي الشاحبة جدا، ولا ينسجمُ مع تقلّباتها المكفهرّة.. كانت نفسي المغبرّة تلوّثها كآبة فادحة ويُعفّرُها ضجرٌ مُشرِّدٌ (كنتُ أتأمّل انحراف مسارَات الأشياء عن خطّ تشكّلِها الأوّل.. كنتُ أخشى عودة القهرِ الإنسانيّ بأشكالٍ مختلفة تتراءى تدريجيًّا.. كنتُ أتأمّل صور الموتِ المتنوّعة. كانت صور الموت فاحشة التبرّج..كان الموتُ العِنّينُ الفحلُ، يستبيحُ أنوثة حياتنا.. وصوَرُ الحياة كانتْ مثيرةً للنّحيب ).
تأمّلني بنظراتٍ مَسْحيّة شاملة.. وقال:
" ارض بما كتب الله لك، تكنْ غنيّا" وأردفَ بالفرنسيّة:"les apparences sont toujours trompeuses"..
- صحيح.. أنتَ على حقّ..(وكنت أعي أنّه انطباعٌ خاطف حول مظهري الذي يمكن أن يكون قد تبدّى له جماليّا.. و كنتُ أعي أنّه علينا أحيانا، أن نستسلمَ في المجاملةِ، لمقولاتِ حكمةِ الزّهدِ والقناعة مراوغة للآخر أو مراعاة لذوقه اللغويّ النّاشئ فجأة).
جـرّأني هذا إلى سؤال جديد، وكأنّي تناسيْتُ ورطتي الأولى.. لعلّ الإحراجَ رُفِعَ.. لعلّ كاظم حين انهمك في الحديث عن القناعة والرضا والغِنى وعن المظاهر الخدّاعة، خوّل للإحراجِ أنْ يُرْفَعَ ومنحني شجاعة جديدة للتّطاول عليه ثانية..
قلتُ ـ وأنا أعي أنّني ألقي سؤالا أحمق-: لمَ لا تصلّي؟..
- إنّ صلاتي في الدّاخل.. أنا أعرف "كواليس الله".. وذكر اللفظَ "كواليس الله".. بأحرفه..
اكتفيتُ بحركة من الرأس تقول أجلْ.. إنّ الصلاة في الدّاخل.. إنّه إذنْ يُصلّي.. وصلاتُه لامرئيّة.. ولا يحتاجُ إلى سؤالي الذي تبيّنتُه فبدا إنشائيّ الطّرْحِ.. وهو لا يحتاجُ أيضا طقوسًا ظاهرة.. لا ريبَ كان يعتبر طقوس الذّهاب والإياب إلى المسجد عرضيّة سلوكا قشريًّا.. ربّما كان يعتبرُ أنّ الصلاة تأمّل صامتٌ وتركيزٌ سكونيّ، يُؤَدَّى بفلسفةٍ سحريّة غير معلنة.. ذلك ما أوحتْ به إجابتُه: "إنّ صلاتي في الدّاخل"..
حاولتُ تفسيرَ "كوا ليس الله".. بدتْ لي العبارة فريدة الاستخدام، طرافة لغويّة مزجيّة صادمة(في وسعنا أن نعثرَ على تجلياتٍ للانزياح في لغةِ الرّعاع اليوميّة العارضة... لعلّ تحديدي للرّعاع لاأخلاقيّ وغير خاضع لشارط المنطقالذي تُقاس به هذه الأحكام ).. لقد أحالتني العبارة لفوْرِهاْ على متعلّق مسرحيّ، هُجِّرَ من حقلِ المسرح لِـيقترن باسم الجلالة.. وهذا سمحَ لي لبرهةٍ، بتخيّل علم اللّه، ذلك العلم المتواري عنّا، نحن أولي العقل القاصر، وبتصوّر ما يمكن أن يدور في الغيبيّاتِ المستعصية على التصوّر والإدراك و الإحاطة.. تداركتُ مستغفِرًا (إنّ روحي الإيمانيّة دفعتني لمثل ذلك الأوْب والإنابة).. لكن عاودتني رغبة الكشْفِ عن محتوى اللفظة "كواليس الله" (إنّ روحي الفضوليّة المبنيّة على السؤال الخفيّ دفعتني لمثل ذلك التطاول): تخيّـلتُ كيف يُصنَعُ القدرُ البشريّ(القدر الإلهيّ لبني البشر) في المناطق السرّيّةِ المذهلةِ القداسة .. تخيّلتُ كيف تُوزّعُ أقساط الحكمة على المخلوقاتِ. و تساءلتُ عن أوقات تصريفها. وكيف تكون جهوزيّة الطاقة البشريّة وهي تتهيّأ لاستخدامها واستثمارها.. 
نظرتُ إلى كاظم اختلاساً.. كان بدوره، ينظر نحوي، ( هذا يُسقِطُ طريقة نظري إليه، ويجعلني أتراجعُ في التعبير لأمحو الحال "اختلاسا") بلا إمعان.. (تمعّـنتُ في اسمه ولقبه: كاظم بحْـرِي) كان عليّ أن أنتبه إلى الاسم و أن أتمعّن في تركيبة صاحبه و شخصيّته و أقواله و فوضاه الظاهرة، والتي كانت في اعتقادي غلافا لروح حكيمة.. بلى كانتْ صورة كاظم الظاهرة غلافا لروحٍ تنالُ نصيبها من الحكمة، من الفهم، من أناقة الكائن البشريّ الذّهنيّة .. 
كانت "كواليس اللّه" العبارة التي أطلقها كاظم، ذاتَ بهرجٍ دلاليّ. تختزن طاقة من كثافة واكتناز.. لم يكن المعنى الحافّ بالعبارة محدّدا موصوفا منتهياً.. كان إيحائيّا صادمًا..لم تكن اللحظة التي أطلق خلالها كاظم عبارته تلك، محكومة بمنهج أو منتظمة بموضوع ذي محاور نضيدةٍ مبوّبة.. كانت عبارة عفويّة الحضور.. والتسمية، كانت عفويّة الإطلاقِ .. وما كانت لتكون كذلك، لو لم يكن لِسرّ إطلاقها وازع حِكْميّ، ينطوي عليه ذلك الكائنُ ذو الارتباك البارزِ والحركاتِ المرتعشة..
قال كاظم ، و كأنّه يريد أنْ يختم، إذ راح يهمّ بالانصراف و يسحبُ نقودا ليدفع ثمن قهوته:
" الرّجالْ ما تتحقــرش"..(مفاد القول العامّيّ أنّه لا يجوزُ أخلاقياّ أن يُسْتَخَف بالرّجال أو بأيّ كائن بشريَّ)..لم يكنْ لعبارته الأخيرة سياقُها الواضحُ المعلَنُ، وليس للمقال، في الظّاهر، مقامُهُ.. كنتُ أجهلُ دوافعَ القولِ الباطنة َ.. و كنتُ في الآن نفسه أعي أنْ ليس السياقُ الجليّ و لا المقامُ الظّاهر هو ما يحدِّدُ الكلامِ الذي نتلفّـظ.. إنّ منطوقَ اللسان الذي لا يبدو سياقيّا في الظّاهر قد يكون كذلك في الخفاء، يستجيبُ لأصواتٍ تتحاورُ داخليّا و لتصاويرَ تتخايلُ في مرائي النّفسِ ومراياها..
إنّني أفسّرُ ذلك لكاظم ، و أبرّرُه.. كنتُ في مناسبات القولِ التي يطلِقُ خلالها تعابيرَه، أحاورُ أصواتيَ الدّاخليّةَ.. كنتُ أتوقّفُ عند: - على المرءِ أن يسعف من يكونون في ورطة - ارْضَ بما كتب اللّه لك تكنْ غنيًّا..-المظاهرُ خدّاعة - كواليس الله ، وأخيرا ،الرّجال ما تتحقرش".. 
ساندتُه: نعم، "الرّجال ما تتحقرش"..
كنتُ أجهل السياق الذي انبثقتْ عنه العبارة ، و لكن لا يعني ذلك أنّي ألغيهِ أو لا أعترفُ بوجوده.. كان كاظم يرى ما ينبغي عليه قولُه، بكيفيّة تخصُّه، وفي وقت مظروفٍ بخصوصيّةٍ خالصة له، هو دون سواه.. ذلك ظاهرٌ من القولِ.. أمّا كواليس النفسِ الباطنة فعالمٌ مُحتجبٌ بالأسرار الزّائغة عن الضوءِ..
ودّعني كاظم، على نسق من فرحٍ لامعٍ.. كان مرْتعِشَ الحركة.. كانت عيناه مبتسمة تتضاوأُ بالسرّ.. كان وجهُهُ حين يهمّ بالبِشْرِ تنزرِعُ فيه الضحكاتُ ثمّ سرعان ما تنطفئُ فقاعاتٍ من ضوءٍ.. وهكذا كانت تتجدّدُ فقاعات الضّوءِ وتنطفئ، مع كلِّ حركةٍ متوتّرةٍ أو شحنةِ قوْلٍ جديدةٍ.. مضى خطواتٍ قلائلَ حتّى خلتُه انصرفَ.. لكنّه عادَ فجأة ليقف بجواري و يقول:
جميلٌ أنْ يتعارفَ النّاسُ رغم اختيارِ العزلةِ.. وأضاف: سألتزمُ بطلبك"خلّينا نشوفوك".. ثمّ صافحني. ومضى.. وكنتُ قد قلتُ له حين همّ بالانصرافِ في المرّة الأولى "خلّينا نشوفوك".. كنتُ قد قلتُها مُجاملاً.. (أوَ تكونُ المجاملةُ آنئذٍ، كذِبًا مُبهْرَجا؟ أوَ أكونُ حين نطقتُ ذلك قد انخرطتُ في دائرةِ تزييف الأخلاقيّ؟)..لقد أحسستُ أنّني لم أكنْ صادقا حين قلتُ له ذلك.. ولكنّني لم أكنْ في الآنِ نفسِه كاذبًا.. ربّما صرتُ أرغبُ في مجالسته مجدّدا.. ذلك ما لا أجزمُ به.. ففي تلك الآونة التي حملت خلالها قهوتي وبحثت عن طاولةٍ، كنتُ بحاجةٍ إلى الجلوسِ لا إلى المجالسةِ.. وكنتُ كذلك محتاجا إلى قدّاحةٍ أستعجلُ بها إشعال سيجارةٍ قبل أنْ تبردَ قهوتي(حين تبردُ القهوة تفقد السيجارة كـنهَ نكهتها في فمي.. إذا بردت القهوة تكونُ المواضيع السّخنة قد استُنْفِدتْ).. وإذا كان سببُ المجالسة هو البحثُ عن مكانٍ شاغرٍ للجلوسٍ فإنّ سبب سماعي له واحترامي لخصوصيّته هو القدّاحة التي تطوّع بمنحِها لي.. 
لم أكن بعد فشلِ تجربة الحضورِ الثوريّ في العالم، بحاجةٍ إلى امتياح الحكمة من لدن أيّ كان.. و لو كان كاظم ، ذلك الكائن البسيط المشوّش الحركة والصّورة..لا يعني ذلك أنّني كنتُ مكتفيا من مخزون الحكمة مرتويًا من خمورِها. و لكن لأنّي كنتُ أشعرُ بإفلاسِ العالم وبإفلاس جدوى حضوري فيه.. ( وكذلك مِن جدوى حضوره فيَّ).. و كانت الحكمة تـَشيعُ في عالمٍ مُتْلَفٍ..كانت تحاولُ أن تكون نقيّة في صوَرِ العالم الخادعة "الجميلة" الوسخة..
كاظم جليسي على طاولة القهوة، كان يُضمِرُ نُتَفًا من الحكمةِ.. لم يكنْ ـ كسائرِ المتباهين بحكمهم ـ يتباهى ببريقِها.. كان يحجبُ خلفَ هيئتِه الرثّة (من زاوية نظر غير مُثْلى) لونًا من القيمِ خالبًا.. خلفَ رعشاته و لوامِعِ بِــشْرِه ورقرقاتِ ضوْءِ الوجود في عينيْه، كان يحجُبُ كوْنًا آخرَ أو جزءًا من كونٍ صافٍ، لا تشوبُه خدعةُ البصرِ المزيّنةُ.. هذا ما تراءى لي .. كان كاظم عفويّا.. ذا ما تجلّى حينها لي.. كائنٌ بسيط يقولُ ما يشاء، أنّى شاء، بكيفيّة مخصوصةٍ.. لم يكنْ مُصابًا بخدعةِ المظهر، و كان واعيًا بأنّه لم يكنْ واعيًا بأنّ مظهره البسيط لا يمنعُه من أن يعْـقدَ صلاتٍ منْ ألفةٍ حكيمةٍ، مع شخصٍ بمظهرِ آخر.. لم يَحُـلْ مظهرُ كاظم دون أنْ يكشفـني و يكتشفني ربّما، و دون أنْ يُجلّيَ مظهرَه الخفيّ إزاء بصيرتي..
مضى كاظم غيرَ بعيدٍ.. تفحّصتُهُ و كان يتناءى.. بنطالُه كان أصفرَ باليًا( من زاوية نظر خادعة) و قصيرا. ما بين بنطاله و بين الحذاءِ مسافة نصف شبْرِ أو يزيد.. كان يحجب جذعه بقميصِ عتيقِ.. و لكنّه كان يُسرِعُ في خطاه باتّجاهِ طريقٍ ما أجهلُها أنا.. و لم يعُد كاظم متواريًا، رغم اندساسِه في صفوف الذّاهبين إلى وجهاتهم.. رحتُ أقرأ اسمه مِن جديدٍ.. حاولتُ أن أبحث عنْ سرِّ تلك التوليفةِ بين كاظم و بحْريّ، و عنْ مسالكِ يتحرّكُ فيها المعنى بين الاسم واللقبِ..
قبل مُثولي إلى جوارِه كان شبْه مرئيٍّ.. هاهو يصيرُ، بأسئلتي البسيطةِ الحمقاءِ المحرجة كائنًا لغويّا متجلّيًا.. لم أكنْ قبل جلوسي إلى طاولته و مجالستي إيّاه سوى مُتـلهٍّ بقهوة وباحثٍ عن قدّاحةٍ لسيجارتي.. و لكنّي استحلتُ بعدئذ إلى صورة تستحقُّ المراجعة.. 
أنهيتُ قهوتي و سيجارتَها و كنتُ أتساءلُ: لماذا كان كاظم محجوبًا ككائن لغويّ، عن بصيرتي؟
حين غادرني كاظم، انهمكتُ في تدوين مشاهد يومي.. وكنتُ ألاطف سيجارة ً جديدة.. حيّاني وجه آخرُ أكثر ألفةً و حضوراً.. وزّع ابتسامة عارية عليّ، مهّد بها للطف قولِه:
حتما تريد قدّاحةً؟ 
- لو تكرّمتَ.. أكون ممنونا لك..
- انتظرْ لحظة.. سأجلب واحدة مختلفة. خُذْ.. هذه تختلفُ عن قدّاحة كاظم..
- أليستْ وظيفتهما واحدة: إشعال سجائر يتورّط مُدخّنُوها في طريقة إشعالِها.. إذنْ هي مسعفة.. و صاحبها إنسانيّ..
- ههههه.. لكنّ قدّاحة كاظم من نوع آخـر...
- عفوا؟... 
- أنصحك باشتراء قدّاحة خاصّة ، وإن لم يكن فالأجدى أن تقلع عن التّدخين في المقهى..
- ... و لم أقلع؟
عمّا قليل- أعني بعد الجلسة الثّانية مع كاظم أو الثالثة على أقصى تقدير – يتمّ استدعاؤك من قبل "عرف" كاظم ليمنحك قدّاحة في مكاتب أمن الدّولة العميقة..
_____________________ 
سيف الدّين العلوي /
كاتب من القطر التّونسي

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 151 مشاهدة
نشرت فى 21 يناير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

563,964