دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

في لعِبِ الإشارة
ترتدي اللّغة أزياء الإشارة فإذا الوجود بأسرِه أصابعُ.. 
فجأة العالم الذي يحُفّ بمحيط ذلك الكائن و بسائر متعلّقاته: مشاعره المظلمة، رغباته الباطنة، كوامن سـرّه البعيد/ القريب، شهواته الكتيمة/ الصّريحة، مكبوتاته الفائضة،/ الغائضة، عالمه الدّاخليّ الضيّق/ الفسيح،المنفتح قسرا على موجودات العالم الخارجيّ الفسيح /الضيّق ... كلّ ذلك العالم و سواه ممّا خفي، ينصبُّ في كَفِّ يده ، ثمّ توزّعُه الكفِّ عبر العقل إلى الأصابع، ثمّ تضطلعُ الأصابعُ بترجمة الصّمتِ و تعرية العالم الأبكم.. 
ماذا بمحموله يا ترى يفعل هذا الرّجل الأخرس / المهذارُ الجَوارحِ، الجالس قبالتي في المقهى؟ لقد أتاح لي لوهلة أن إخالَه معتوها.. كان يبتسم وهو يرفع محموله بمواجهة وجهه و عينيه.. عيناه كانتا تتابعان النصّ الطّويل.. إذن ثمّة نصّ له حضور على شاكلة مرئيّة.. لوهلة خلتُ به خبَلاً: أصابعه فقط كانت تتكلّم- تتحرّك، بتعابير رمزيّة مختلفة.. هكذا نطقتْ يداه.. جعلت تَـشْـهدَان على امتلاءات الباطن.. ما من شكّ في أنّ الباطن كان ممتلئا، يغْلي بحمم اللغة المتلاطمة.. 
كان لليد ضجيجُها في تلك الآونة: لو لم تكن تضطرم بمتعة القول لما كانت تعلو.. تنخفض.. تمضي يسرة فــيَـمْنة.. ترسم أشكالا هندسيّة ما.. حركات كأنّها حركات قبسٍ ناريّ يُدارُ في العتمة.. سمحتْ لي بعضُ الإشارات بـتهجّي المعنى: 
" ليس الآن ، بل بعد غد".
قالت إشارةُ اليدِ ذلك اللّفظ الصّموتَ .. و لم تتوقّف الإشارات بالحركات عند ذلك الحدّ من التّعبير.. ولكن أشعر أنّ وعْـيي العَــيَّ عن تحويل الرّمز إلى دوالٍّ أخَـر، أخذ يخور.. كذلك ظلّت المدلولات تنقالُ تباعا، دون أن أتمكّن من صناعة نصّ مكتملٍ انطلاقا من المرْئيّ باتّجاه اللاّمرئيّ .. 
لقدرتي على ترجمة المقُول الأوّل، رحتُ أزعمُ أنّه تسنّى لي فهم ما يلي بعجالةٍ كعجالة الحركة.. أوَ يكون اللّسانُ لو نبسَ أعجلَ ممّا فعلتْ حركاتُ اليديْن؟.. 
كانت الأصابعُ تثرثرُ.. والشفتان تعضدان الخطابَ بلا إفصاح.. ثمّة تمتمة.. ثمّة اطّراد و انقطاع ثمّ اطّراد جديد. لو لم يحدث هذا التّناوبُ بين الإسهاب و الاقتضاب لما ازدحمت اليدان والشّفتان بضجيج الحركة الصّامتة.. خُيِّل إليّ أنّني إزاء مسرح الصّمت..
يحتاج العالم اللّسِنُ الأبكم المشلول اليوم، إلى إشاراتٍ. ماذا لو ندخل جميعنا في لعِبِ الإشارة.. يحتاج اللّسانُ إلى فُسحة راحة. تلك القطعة من لحم غريب طريّ عصِيّ، لا شكّ أنّها استنفدتْ كلّ مرونتها و مِطواعيّتها في سبيل البحث عن أسلوبِ كذبٍ جديدٍ عن هيئة داخليّة و وضعيّات متنوّعة، لإيصال فكرة ما مصنوعةٍ من حروف.. لا شكّ أنّ اللّسان وهو يصنع اللّغة ، يمارس شتّى وسائل التقلّب و التقلّص و التمدّد و التقدّم و التّراجع و الاندفاع العلويّ و الانكماش السفليّ ، لا شكّ أنّه جِسمٌ مرِنٌ بارع في البهلوانيّات الخافية و الحركات المتوارية.. هكذا تكون اللغة فقط مُصرَّحًا بها سمْعًا، هي الجزء المسموح بسماعه فيما تكون آلتُه مخبوءةً مستترة.. و لو أنّه أتيحَ لنا رؤية الأحرفِ حالَ خروجها من الشّفتيْن وقد دفعها اللّسان إلى الظّهور لبدتْ ( ربّما )جريحة دامية أو محترقة متورّمة.. لذلك كثيرا ما نعتقد أنّنا نشُمُّ في الحروف وهي تتابع، رائحة ما تعكس وضعيّة اللّسان المتقلّب و درجة تقلّبه، وتشي بمشروع الذّهن الذي أعِدَّ في مصنعه هو.. تماما كما لنا نستخلصَ من حركاتِ بهلوانٍ رياضيّ حالَ انتهائها، صورةً جماليّة فاتنة أو صورة تهريج ما، أو أنْ نستنتج من وراء فعلِه سماجةَ فعلٍ و سوءَ أداءٍ..
للّغة روائح متعدّدة تُحيل فورًا على مهارة أو خُرْقِ طبْخة اللّسان لأدواتِ الكلام.. أمّا الإشارة فهي إعفاءٌ للّسان عن مهامّه البهلوانيّة، و اتّراكٌ له و عَزْلٌ، و استبدالٌ لأدائه بأداءٍ مغايرٍ إشاراتيّ رمزيّ، ينوبُ اللّغة المنطوقة ويكسِرُ عادة السّماعِ و يُقيلُنا عن مهمّة اشتمام الأحرفِ المنتظمة الحاملة لإمكانيّة كذبٍ ما، ويحجبُ الحاسّة عن وظيفتها.. هكذا تتحوّل الوظيفةُ من اللّسان إلى اليد، من لحمةٍ رخوة إلى أصابع ذاتِ يُبْسٍ.. هكذا تتعرّى اللّغة - وهي تتستّر في آنٍ- فتخرُج من مكمنِ الأفعى(كثيرا ما خُيِّلَ إليّ أنّ اللّسان شبيهٌ بأفعى مشدودةِ الذّنَـبِ مطلقةِ سائرِ الجسد، في حركات لا تني تستقرّ ، متأهّبة للسْعٍ متواتر..أو هو أشبهُ بإيرٍ في حالةِ هيجانٍ يقِظ و انفعال دائبٍ، يفتّش عن انخراطٍ ما في أحدِ جحور المتعة.. ) . هكذا تصمتُ اللّغة و يُخْصى اللّسانُ أو هي تصمتُ بمجرّد انخصاء اللّسان.. إنّها في الحقيقة لا تصمتُ بل هي تحلّ في الإشارة المرئيّة وتفقد بذلك خُصوصيّةَ مسموعيّتِها لتكتسِبَ نجاعةَ مرئيِّـتِها.. و بين ذاك الفقد وهذا الكَسْب تكتسي بطابع الصّدْقِ، ذلك أنّها لا تمتلكُ في تلك الأثناءِ سوى آلية تعبير واحدة، هي الرّمزُ..على عكسِ اللّسان الخَدوعِ الذي يمتلك إمكانياتٍ بديلةً في استبدال الخطابِ.. ولذلك تكون الإشارة صادقة في مستوى التّبليغ التّواصليّ(و قد لا يكون ذلك في مستوى الإنجاز الفعليّ) فيما يكون اللّسانُ محتمِلاً للكذب في مستوى التّبليغ التواصليّ اللفظيّ المعلَن(و قد يكون كذلك في مستوى الإنجاز الفعليّ ) بما يعني أنّ احتمال تصديقِ الإشارة أكبرُ و أقوى من احتمال تصديق اللّسان. ذلك أنّ للإشارة مَسْلكًا مرئيّا واحدا لا يُعوِّلُ إلاّ على حاسّة البصرِ التي تقرأ و تُؤَوّلُ، بينما اللّسان يُعَوّلُ على المنطوق/ المسموع.. كما أنّه يُنوّع في أساليب التبليغ السمْعيّ بأصواتٍ أخرى غير الحروف كالتّصفيرِ و نحْوِه. و يجوزُ له أن يستعين بالإشاراتيّ المرئيّ كدليل على عجزِه عن التّبليغ التامّ و عدم استطاعته بذاتِه.. 
و من هنا يتأتّى الحذرُ من اللّسان و من صناعتِه للخدعةِ،أكثر ممّا يتأتّى الحذرُ من الإشارة الرّامزة و من صناعتِها للفكرة المُرادِ إيصالُها سريعا.. 
------------------
سيف الدّين العلوي

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 78 مشاهدة
نشرت فى 21 يناير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

563,854