في الخيام وسط الصحراء المقفرة ، أو تحت نوافذ البنايات الشاهقة ، على قمم الجبال ، أو في قعر الوديان ، في الساحات والشوارع وفي الأزقة والميادين ، حيث قلوب تخفق وبشر يعيش ، حيث الرجل والمرأة والفتى والفتاة ، رغم العادات والتقاليد وبعد البلاد والحدود ، فإن لغة القلوب قريبة ، وحروفها جلية معروفة ، كتبتها أجساد نحيلة أبلاها الشوق والسهر بمداد من الدمع والألم ، حروف لا يمحوها النسيان ولا تطمسها الحوادث .
إنه الحب أينما تواجدت البشرية نبت ونما ، فأنار قلوبا وأحرق أخرى وسالت له دموع وأريقت بسببه دماء ، لا تمحوه غربه ولا يطفئه مشيب ولو قطعت أواصر وأرحام .
فلا غرو ان يتنافس المتحابون ويقفوا على الصغير والكبير في الإعجاب بالمحبوب والتغزل بهيئته وخفته وإطلالته
والعجيب أنك تجد في حال المحبين عجباً ، فملك يعشق جارية ، وشيخ يغرم بفتاة صغيرة ، وعالم يسقط في بئر الخطيئة مع بغي ، وآخر يذر دينه فتنة بغانية ، ومنهم من يفطر قلب أمه وأبيه فيبيعهم ليتزوج ممن لا يرضونها ، وأخرى تهرب من أحضان أبيها بلا خوف من الفضيحة لترتمي في أحضان عاشق ، ناهيك عن حال الشعراء والكتاب في وصفهم الحبيب ، وصورته ومشيته ، والشوق له والحنين ، والفراق دونه والأنين ، والهجر والوصال ، والدعة والدلال وهمساته وسكناته ولحظه وعبراته ، آه وأحاديث العيون والليل والسكون ،
يولد ربما من رحم عقيم ، يكفيه بعض جسد ، لكنه للقلب أحوج وللنفس أحرص ، ساعة يولد لا توقفه الحروب ولا يخضعه المنطق ولا يستوعبه العقل ولا يسقطه التقادم ، تكفيه بعض نظرات لتحرر السجين من أسره وتفيق الغائب من سكرته وتعيد معها ماض يستعذب صاحبه ما مر به من ألم وما أحاط به من تداعيات ، فترتسم على جبينه خطوط الطول مثلما ترتسم عليه خطوط العرض ، وتتحجر المقالي ويسمع للقلب دق الحداد وتتسمر الأقدام ويتلعثم اللسان ، وينسى حاله وحال ما ملكت يمينه ،
ويزيد ذكر لو وعسى ولعل ، وتتحسر النفس على الحبيب ، وربما فاضت بغير البريق العيون ، وتعقد المقارنات ، والمناقصات والمزايدات ، بين الحبيب المفقود الأتي بعد عهود وبين الثيب الولود معوجة العود ،
فهل يرسم كل منا صورة مقدسة تكتمل فيها كل صفات الإنسانية الحميدة وطباعها الجميلة وسجاياها النقية في شخص واحد يهواه يسهل معها التنازل عن صفاته السيئة وأخلاقه الشاذة ، وترسخ تلك الصورة في الضمير فتكون الرحمة به حين يجب القسوة ويكون العفو عنه حين يجب المعاقبة .
هل لا نظلم أحبتنا وأهلينا حين نعقد مقارنة بين ربة بيت تقضي جل وقتها في خدمة زوجها وبنيها ، تراها على كل حال غير متكلفة ولا متأنقة وبين حبيبة لم ترها إلا بثياب الخروج متأنقة متكلفة ، يفوح منها العطر وتتدلى منها الأساور ،
ماذا أذا بدلت الأدوار ولم تأت بالنور ليلى ، بل جاءت به معصوبة الجبين ، نورا يبدد ظلمة النفس حين تتغشاها سحابات المعصية وتتدنى في حيوانيتها لتنظر كل محرم ، وتهيم على وجهها تتمنى كل خاطرة تومض في أعماق نفسه ، نورا يملأ أركان البيت حباً ورحمة ومودة هي الوقود لسفينة الحياة يطمئن لها وبها ربانها فينام قرير العين مطمئن البال ، فتنمو صغارهم يكتنفهم ما أبقى الوصال والحب بين أبويهم من مودة ورحمة لا ينضب معينهما ولا يغيض ماؤهما كما يغيض ماء الحب وتخبو ناره ، بل تزيدا قوة وارتباطاً.
هل هو الواجب يمليه علينا جميل طوقت به أعناقنا ربات الصون والعفاف حين صبرن معنا وحين اغتربن معنا إذا وجبت الغربة ، وحين سهرن يضمدن جراحنا ويطببن مرضانا ، هل هي الشفقة أم الرحمة أم العرفان أم حب اختلفت صوره باختلاف هيئاتنا وأعمارنا ، فتطيب لنا حكايات الماضي وعذوبتها ولو عذبت كلماتها قلوباً رقيقة وأعينناً رقراقة تولت تفيض من الدمع حزناً .
هل للحب معنى غير المودة والرحمة أم هو العشق والهيام وفقط ، وهل له معنى لا يدرك .... لا أدري !!!
ساحة النقاش