محطات مسرحية
(4)
فضاء المدينة .. فضاء المهرجان
د.كريم عبود
جامعة البصرة / كلية الفنون الجميلة
الفضاء بالمفهوم المسرحي هو الحيز الذي تتحرك فيه الأشكال والأجسام والكتل لتجسد دلالاتها في الإرسال والاستقبال .. الفضاء حاوي ليس للأشكال فقط بل للمضامين أيضا فهو يجمع محاولات الفنانين صناع العرض المسرحي ومبدعيه ومستقبليه وعلية يندرج الفضاء في مستويات عدة هي ..
مستويات عدة هي :
1- الفضاء النصي
2 - الفضاء اللعبي
3- فضاء التلقي
تتداخل هذه الجدلية الفضائية لخلق عالم مسرحي يتجاوز بأطروحاته اليوميات وأنماط الحياة التقليدية ليصنع في هذه المساحة الصغيرة وجودا فنيا يلامس بعناصره التعبيرية عوالم الروح المطلق ، فيكتب في فضاء المسرح لغة جديدة عن الواقع مبنية على روح الاحتفال .
أما فضاء المدينة فهو فضاء يمثل حيز الوجود، لقاء بين الإنسان وبيئته وجماعته الإنسانية في عالم العلاقات الحياتية. في البصرة ميناء العراق وأطلاله البحر على الوطن الكبير بتحول هذا الحيز الوجودي إلى مكان يلتصق به الفرد بالجماعة ليخلق علاقة احتفالية مبدأها منبثق من روح فضاء المدينة داعيا الجميع لإقامة مهرجان المحبة .. جمع من الأهل الطيبين .. أبواب مشرعة لاستقبال الضيوف من كل الأوطان ، وجوه تبتسم رغم حر القيظ وبرد الشتاء
في الموانئ ( أبو فلوس ، نمرة أربعة ، أم قصر ، خور الزبير ) تحكى قصص للقاء الأحبة والأصدقاء . فضاء المدينة عالم من ( الدندنة ) نغماته أغاني البحر واحتفالات الجماعات في الأعياد والإعراس (تومان ) شخصية عرفتها المدينة كونه مغني الجماعات هذا الحالم بالاحتفال دوما يجمع الناس على ضفاف الشط أو في واجهة جسر المغايز ، ويعزف الناي بطريقته المذهلة ، التي يعرفها أهل المدينة كلهم ، يخرج النغم من أنفه فتتردد الأنغام والأصوات في هذا الناي الغريب موسيقى (تومان ) هي أغاني أهل البصرة عن الشط والعشار والزبير وأبي الخصيب .
البصرة مدينة فضاءها يحوي نشاطات البشر الاجتماعية والثقافية، فهي أذن مدينة للمهرجان، هكذا أنطلق مسرحيو المدينة عندما استوعبوا احتواء فضائها فحوله إلى فضاء للمهرجان.
محطات متنوعة مرت على مسيرتنا الفنية لبناء مسرح أصيل معبرا عن هموم الناس داعيا للتغير والارتقاء بالذوق الفني .. مثلت المهرجانات في هذه المدينة محطة أساسية وهي جزء من تأريخ يحكي قصص المبدعين ومواقفهم وحرصهم على كشف الطاقات في حيز فضاء اللقاء والالتحام بهدف تفاعل التجارب المسرحية مع تجارب فضاء أهل المدينة الرحب .
عبر ثلاثين عاما .. منذ عام 1972 انطلاق أول مهرجان مسرحي إلى يومنا هذا لم يقف العطاء في البصرة بل تطورت التجربة لتأسيس أصول وقواعد وتقاليد مسرحية لفضاء المهرجان ، وعبر هذه السنوات نطق الفضاء في عقد وصمت في عقد آخر .. صمت في زمن الخوف والهروب من فضاء المدينة بسب الحرب .. وعاد الفضاء لنا مرة أخرى بمهرجانات متطورة على الصعيد الجمالي والتنظيمي احتضنتها المدينة .
سفرنا مع هذه الفضاءات ينقلنا عبر ثلاث محطات تتفاعل فيها المدينة مع المهرجان فعندما تزهو المدينة وتغفوا في أمان يكبر فضاء المهرجان وتتجمع الخبرات لتنتج عروضا مسرحية حية تعبر عن إنسانيتنا .. وعندما يرمي الشيطان المدينة برجمه الحارقة تصرخ الأمهات ويبكي الأطفال عندها تفقد المدينة الأمان ويختفي المهرجان باختفاء احتفال الناس بمدينتهم .
المحطات الثلاث كشفت لتاريخ المسرح في البصرة مراحل للقاء الفضائيين .. فلنقف معا عند هذه المحطات .
المحطة الأولى :- عنوانها بدايات
فضاء المدينة الرحب ورجال المسرح في البصرة اختاروا يوم المسرح العالمي الذي يحتفل فيه مسرحيو العالم بذكرى تأسيس الهيئة العالمية للمسرح التي تأسست عام 1948 وهو اختيار نابع من وعي حضاري يتجاوز الذات المغلفة وينفتح على روح الجماعة الفاعلة ، فالمسرح يبدأ بالمدينة وينتشر فكرة وعطاءه إلى أبعاد عالمية إنسانية شاملة . محطة البدايات كانت مبنية على هذا الوعي بدأت عام 1972 بالمهرجان الأول ليوم المسرح العالمي وتواصلت بالعطاء حتى عام 1981 . تضمنت هذه المحطة عشرة مهرجانات توزعت إدارة تنظيمها بين مؤسسات عديدة كان التعاون مبدأ أولي للانجاز .
من 27-31/آذار /1972 عقد المهرجان الأول وقد أقامته ثلاث مؤسسات هي (جامعة البصرة- مديرية تربية البصرة- نادي الفنون ) . أما المهرجان الثاني فعقد بتاريخ 27-31/1973 وإدارته مديرية تربية البصرة/النشاط المدرسي . وأخذ نادي الفنون على عاتقه تنظيم المهرجان الثالث وإدارته عام 1974 وبنفس المناسبة . نقابة الفنانين أقامت المهرجان الرابع عام1975 ولم تحد عن تأكيد دور المناسبة واستمرت في التنظيم والإدارة حتى عام 1980 ، بمعنى أنها نضمت سبع مهرجانات مسرحية .
إن الوثائق الخاصة بالمهرجانات تظهر تنوع العروض المسرحية واتجاهاتها الفنية وأساليب تقديمها أولا ..وتعدد وازدياد الفرق المشاركة ثانيا ، كما تثير مشاركة المحافظات الجنوبية والوسطى اهتمام المتابع ثالثا ، أما صيغ الإدارة والأعداد والإعلان والمسابقة فقد نظمت في جميع دورات المهرجان في هذه المحطة بطريقة حضارية فنية تؤكد عمق اللقاء ما بين فضاء المدينة وفضاء المهرجان .
المحطة الثانية:- وحشة
من عام 1982الى عام 1994 سنوات كانت على البصرة وأهلها كالجمر في راحة اليد ، سنوات غادرت فيها المدينة فرحتها احتفالها وبقيت تنتظر القذائف المبشرة بالموت ، كان الموت في فضاء المدينة الباكي قانونا يوميا مفروضا على الناس ..من هنا غادر الأحبة المدينة بكل تفاصيلها ، بقيت البصرة في سنوات الحروب والحصار وحشة ، فهل يحوي فضاء الموت مهرجانا للحياة ؟ اعتقد كلا .. ولهذا انطفأ المهرجان وانطفأت كل الاحتفالات بسكون المدينة ووحشتها .
المحطة الثالثة:- عودة اللقاء
المسرحيون في البصرة عاودوا اللقاء بين فضاء المدينة وفضاء المهرجان عندما توفرت لهم لحظة الأمان ، العودة كانت على أيدي جماعة يشكل الوفاء ضمائرهم هاجس مسرحي .. الجماعة تمثل الهيئة الإدارية لنقابة المسرحيين ، عملوا بروح أهل المدينة الجماعية فأنتجوا مهرجانا مسرحيا أعادة لهذه المدينة أيام عرسها ، لم يبتعدوا عن البدايات بل تواصلوا معها يوم ( المسرح العالمي ) وأطلقوا على مهرجانهم عنوان (الملتقى) حدث هذا بتاريخ 2-5/4/1995 . وواصلت نقابة الفنانين بجهود مخلص متفرد في عمله ينتمي إلى المدينة كونه قد عاش حزنها وفرحها واحتفالاتها أحب هذا الرجل المسرح وضحى من أجلة رغم كل الصعوبات التي تغلف أجواء النقابة كان يتقاسم مع الجماعة المسرحية في النقابة وخارجها همهم وتطلعاتهم .. حاول رغم إن المحاولات لم ترتقي بالعودة ولا باللقاء الأول إلا أن الانجاز في عدد المهرجانات كانت أربع لقاءات بصرية جنوبية استضافت عروضا مسرحية متميزة من العاصمة .
وتواصل اللقاء والعطاء إذ سعى المشرفون على منتدى المسرح في البصرة الى تحقيق لقاء العودة بين فضاء المدينة وفضاء المهرجان وأطلقوا عنوان ( الوفاء ) على احتفالاتهم التي تمثلت بثلاثة دورات ..إنه لقاء أثمر توسعا في حلقة المشاركة والفكر والعطاء ، فالوفاء الثالث يرمز إلى محطة عربية استقطبت جماعات مسرحية من دول الخليج العربي ( الأمارات العربية ، سلطنة عمان ) فضلا عن مشاركة المحافظات من الجنوب والوسط وعروض من بغداد . مهرجان الوفاء المسرحي الثالث الذي عقد تحت رعاية وتنظيم منتدى المسرح من 12-27/2001 كان آخر اللقاءات بين الفضاأين .. والمستقبل آت بمهرجانات أكثر حرية وإبداع وتجديد فلقد انقشع الظلام عن مدينة كانت تحلم باللقاء.. المستقبل آت بمهرجانات ليوم المسرح العالمي وللملتقى وللوفاء ستقام على مساحة فضاء المدينة الرحب.
ساحة النقاش