محطات مسرحية
(3)
مسرح الامس
د.كريم عبود
جامعة البصرة / كلية الفنون الجميلة
قرائن كثيرة للمسرح كما يصفها (أتنونان ارتو) في كتابه ( المسرح وقرينه ) أخذنا من هذه القرائن في محطتنا المسرحية ثلاثا . الطاعون, والثقافة. والتاريخ.. ..فالمسرح قرين للطاعون فهو يسري إلى جذور المجتمعات البشرية كوباء الطاعون فيصيب الناس جميعا منهم من تحطمه هذه الاصابه فيفقد الوجود وهؤلاء هم الميتون ..ومنهم من ينجو من كارثته فيجدد انتمائه للحياة وهؤلاء هم الناجون .. المسرح الحقيقي يخاطب الناجين دائما ويقتل بخطابه جرثومة الطاعون.
المسرح قرين للثقافة ، والثقافة خلاصة للتجربة المعرفية الإنسانية بكل ما تحويه ، الثقافة هنا ليست كتبا ومجلدات صفت على رفوف المكتبة وتنوعت عناوينها واختصاصاتها بل الثقافة سلوك التحام بين الإنسان وواقعه . هكذا هو المسرح يكتب عناوين الحياة ويرسم صورة الإنسان عبر بوابة المعرفة ليكتشف الحقيقة وهو بهذا الخطاب قرين للثقافة.
المسرح قرين للتاريخ ، فالتاريخ سفر يدون الإنسان أحداثه ووقائع أيامه والمسرح سفر يدون فيه المبدع مواقفه من الواقع والحياة ويفلسفها عبر مقولة فنية إبداعية مبتكرة.
بين هذه القرائن الثلاثة الطاعون والثقافة والتاريخ يمكن قراءة مسرحنا العراقي وهي قراءة تشير إلى مرحلة وسط بين ماضي تشكلت فيه التجربة المسرحية العراقية وأخذت تنوعات العروض بتعدد اتجاهاتها الفنية والجمالية مديات لتدوين تاريخ هذا المسرح وثقافته . ومستقبل رمادي ، الطموح فيه شرعي ، هذا المستقبل يمثل مسرحنا في الغد لانعرف صورته فالواقع الآن يحرق كل التطلعات ويوقف عجلة الإبداع عن التواصل ومع هذا فالفنان المسرحي العراقي في بغداد والبصرة والموصل واغلب المحافظات لم يقف مكتوف الأيدي بل عبر عن طريق تشكيل بعض الجماعات المسرحية بهدف التخطيط إلى مستقبل المسرح
أن مسرح الأمس عالميا جسد ينبض بالحياة تأريخ دونت على صفحاته علامات للتواصل الثقافي في الأخلاقيات والذوق ، مسرح سعى رجالاته إلى البحث عن الاستقلالية والابتعاد عن تسييس المجتمعات بوساطة هذا الفن الراقي في حرية التعبير أصبح المسرح قرينا للجمال .في مسرحنا العراقي وفي زمن الأمس زمن العراق السالف أو كما يطلق علية السياسيون زمن النظام السابق او النظام الشمولي الدكتاتوري.. في ذاك الزمن ( مسرح الأمس) سجنت القرائن كما سجن المبدع فالقرينة بلا حرية كيان هامد، جامد، ميت ، في هذا السجن رغم قسوة الجلادين تنوعت نتاجات مسرح الأمس وتمثل هذا التنوع بمستويات ثلاث
المستوى الأول:
تعاطف أو تفاعل بل تبنى المقولة السياسية للنظام الشمولي فصار نتاجه عبارة عن مسرح تعبوي سلطوي بعيد عن الناس وقريب من الدكتاتور أصبح المسرح بوقا ينفخ فيه الفنان ليعلن عن أغنية للشيطان يمجده ويصفه بالعظمة شعارات السلطة المغلفة بالديناميت وقنابل المدافع المصنوعة في الغرب تقذف على الجيران ،وهوسات الشعراء الشعبيين المنمقة ،كل هذا صار مادة المسرح . في هذا المستوى الذي يسعى مريديه للحصول على مكرمة القائد … أليس هذا المسرح قرين للموت ؟ انه الطاعون بعينة .
المستوى الثاني:
أهتم وركز على التهريج أو الضحك غير المبرر وأخذ من مقولة شباك التذاكر منطلقا لتأسيس عروضه المسرحية في دور السينما القديمة أو الملاهي المغلقة والساحات المتروكة التي تصلح بعد ترميمها لتصبح مسرحا ، قدم المسرحيون في هذا المستوى مسرحيات هزيلة لاترتقي والذوق الأخلاقي والفني سميت هذه العروض في حينها بالمسرح التجاري وهذه التسمية غير دقيقة فالمسرح التجاري في العالم له أصوله وقوانينه في مخاطبة الجمهور ، أما هذا المسرح فكان هزيلا بأفكاره وأشكاله وجهر خطابه الفني مبنيا على أرضية رخوة لاتستند إلى بحث جمالي في العرض ولا يعلن خطابه عن ثقافة مسرحية تستلهم حقيقة الواقع وتعكسها بلغة الفن ، انه مسرح بعيد عن الثقافة بدليل انه لم يعرض لنا شيئا ملتحما بالحياة ، أنه يسعى إلى كشف الانفصال يتجاوز قدرات الإنسان تطلعاته همومه مشاريعه الوجودية ضحكات غير مبنية على مبدأ المفارقة الكوميدية ، تجاوزات أخلاقية على الذوق العام ، بهذه العروض الهزيلة فقد المسرح سلاحه الثقافي .
المستوى الثالث:
أصر فيه المسرحيون العراقيون على انتشال مسرحهم من هذه العزلة ، فاشتغلت مجاميع أكاديمية ومحترفة وتجريبية جادة غرضها تطوير الثقافة المسرحية العراقية عبر محطات تجريبية تتجاوز التقليدي وتخوض مغامرة الإبداع في كافة عناصر اللعبة المسرحية (النص التمثيل الإخراج وتقنيات المسرح الأخرى) عملت هذه المجاميع بوعي جدي وأدراك دور المسرح في الارتقاء بالمجتمعات وأخذوا من القرائن الثلاثة محاور للتنظير والتطبيق لتعميق تجاربهم ، أنتجوا أعمالا شاركت في مهرجانات مسرحية عربية وعالمية وحصدوا جوائز عديدة بجدارتهم الإبداعية دون دعاية لسلطة أو مهزلة تضعف من قيمة المبدع اشتغلوا في زمن كان الإنسان العراقي تحت وطأة الظلم وقسوة الظالمين فالحصار تسلل إلى عظام البدن فتوقف الجسد عن الحركة والعقل عن التفكير انتقلت موازين الحكم على الجميل والجليل الفني وضاعت صورة القرائن ، فالمتسلطون والمتخلفون الهزليون هم الناجون من الطاعون ، والمبدعون أصحاب المواقف في الفكر والإنسانية أصبحوا هم الخاسرون الميتون .القرين لم يأخذ حقيقته في مساحات مسرح الأمس المستوى الثالث من نتاجات المسرح جمع الأشلاء ونحت منها تمثالا لمسرح عراقي يشار أليه بالبنان بين مسارح العرب والعالم تجارب تخطت المألوف وجاءت بالجديد قادتها عقليات صنعت المسرح بفكرها لا بتوجيهات السلطة وكانت العروض المسرحية لهذه الجماعات المبدعة متميزة بمحتوياتها وأشكالها ، الجماعات اشتغلت بجرأة وشجاعة قد منع الرقيب عرضا هنا أو عرضا هناك ولكن المسرح لم يتوقف ، فالمسرح عبر تاريخه كان يعمل بالضد من الأفكار السياسية السائدة التي تريد الهيمنة على مقدرات الإنسان . يستفيد المسرح من الاستعارة والرمز والتأويل ليقول موقفه وعليه فإن المسرح قرين الجرأة والشجاعة والمبدع المسرحي العراقي كان متجاوزا وملتصقا بالحقيقة ، جرد ذاته من الاحتكاك بالسلطة واستخدم لغة تعبير فنية صادقة انتجت عروضا مسرحية لا تنسى . العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن أربعون عاما أو أكثر جميعها تحكي لهذا المستوى قصصا لعروض مسرحية كان المبدعون المتألقين من مخرجين وممثلين وفنين ومؤلفين يسطرون لسفر المسرح تاريخا حافلا بالانجازات ، مسرحا مناهضا للمسرح التعبوي أو للمسرح الهابط باحثين عن جوهر المسرح في التعبير عن إنسانية الإنسان .هكذا هو مسرحنا بالأمس ، أما اليوم فنحن بحاجة إلى هؤلاء المبدعين كي لا يضيع جهد مسرح الامس كما أراد المتسلطون ، فقرائن هذا المسرح الواعية تتحرك تتبدل تمس عمق الظاهرة المسرحية لتأكد القرينة حقيقتها ويؤدي المسرح دورة من خلال التصاقه بالقرينة . فالمسرح ثقافة والثقافة تأريخ والتأريخ هو الإنسان .
ساحة النقاش