فرضيات لغة الفضاء المسرحي

(مسرح الصورة أنموذجا)

                                                  

 

                      أ. د. عبدا لكريم عبود عودة

                  جامعة البصرة / كلية الفنون الجميلة

 

المقدمة:                                         

     المنجز الإبداعي للعرض المسرحي العراقي مر بمراحل عديدة على مستوى التأثير والتأثر ، لذا فأن التجربة المسرحية تعلن منذ نشأتها عن فعل الفنان المسرحي ومحاولاته في تأكيد شخصيته الإبداعية، ويبرز إلى ذهن المتطلع والمتابع لمفردات تطور هذه التجربة وبالنتيجة تطور الذهنية الإخراجية، إن فعل التأسيس نظريا وعمليا جاء نتيجة لتزاوج تجربة الفنان الذاتية مع المكتسب الذي جاء عن طريق اطلاعه ودراسته في الخارج لتجارب المسرح العالمي. 

   لقد أكد الدارسون أن مجموعة العروض المسرحية للجيل السبعيني (قاسم محمد، عوني كرومي، صلاح القصب، سليم الجزائري الخ ) تكشف نتاجا تهم الإخراجية عن هذا التزاوج ، فالانفتاح المعرفي على التجارب العالمية الناتج عن عملية التزاوج لايعني النقل والاستنساخ لواقع تطور رؤى الإخراج المسرحي الأوربي، بل يعني إمكانية الذهنية الإخراجية العراقية في توظيف المادة الإبداعية المدروسة والتي تعد محصلة تجارب عايشها وطورها المخرج بما يتلاءم والبيئة الثقافية العراقية وإمكانية تلقي الفعل الإبداعي لدى أطراف العملية المسرحية واكتشاف مدى التأثير والتأثر الناتج عن الانفتاح في تغير المدركات المستهلكة للمشاهدة التقليدية . وبناء مسرح عراقي يمتلك خصوصيته على مستوى الشكل والمضمون.

    ومن أهمية الانفتاح التي استندت عليه التجربة المسرحية بكل تطلعاتها الإبداعية سوف نبحث تجارب المخرج (د.صلاح القصب) التي تعد حالات تأسيس جمالية اعتمدت مصطلح عرض تجاور مع هذا المبدع والتصق بإبداعه وحاول تطويره على المستويين ألتنظيري والتطبيقي وهو (مسرح الصورة). بهدف كشف اليات اشتغال الفضاء المسرحي في عروض مسرح الصورة من خلال فرضيات جمالية تشكل صورة هذا الحيز الفاعلة في بث علامات العرض البصرية ومعرفة العملية التي يتم فيها فك شفرة هذه الدلالة وتلقي مضامينها الصورية .

وانطلاقا من هذا الهدف المركزي سيتناول البحث مبحثين أساسيين لمسرح الصورة الأول يمثل مدخلا نظريا وجماليا ، أما الثاني فيهتم بدراسة الفضاء المسرحي لمسرح الصورة وتطبيقات فرضياته من خلال المنجز الإبداعي للمخرج صلاح القصب .

 

المبحث الأول

                مدخل تنظيري لمسرح الصورة

 

مسرح الصورة يؤسس فرضيته الإخراجية من خلق لغة عرض مسرحية خالصة تعتمد على إبراز أشكال السلوك والأفعال التي يعززها اللاوعي في حياة الشخصية ، والصورة ((في هذه الحالة لون من ألوان التواصل لما تخلقه في إثارتها للمثير والمدهش والعجائبي والفانتازي ، إنها عالم سحري والسحري له طقوس والدخول إليه يعد لحظة اندماجية إلى العالم ألحلمي))(1).

إن الصورة في العرض المسرحي كبناء جمالي فلسفي تنتمي كما يدرسها الفلاسفة وعلماء الجمال إلى الجليل الفني وهو أحد مستويات التذوق والحكم الجمالي يوضع فيه المتلقي إزاء الصورة أمام إشكالية جمالية ناتجة عن غموض العلاقات الصورية وارتقائها في الخطاب عن الشكل الواقعي في التكوين والتشكيل وهذا الارتقاء ينتج صداما لتلقي شفرة العرض الدلالية المرتبطة بمتفرج يستفز ذاكرته في التلقي لخلق استجابة جمالية ذوقية تخضع لمعطيات الهدم والبناء الناتجة عن طبيعة الصورة ذات المستوى الجليل الذي يعزز آثرا خاصا للرؤية الذاتية الجمالية ويساعد على فك رموز الصورة الفنية الجليلة وبهذا المعنى فأن ((الذات في إدراكها للموضوع الجميل تكون في حالة هدوء ، في حين إنها تبلغ هذه الحالة في تأملها للجليل الأبعد مقاومة وصراع عنيف، لان هذا الموضوع يخلق لديها حالة من التهديد أو الاستثارة))(2).

  إن منهج الصورة يسعى إلى توسيع التجربة الذوقية للمتلقي منطلقا من مبدأ الغرائبية والحليمة واللاشعور الذي يكشف عن حقيقة العلاقات الإنسانية في هذا الوجود السرمدي ويبحث عن مأساوية الشخصية محاولا تصويرها واكتشاف عناصرها البنائية المتحركة التي تربط إنسان هذا العصر بعالمه العبثي.

ووفق هذا السعي لتأكيد نوعية التجربة . يهدف مسرح الصورة إلى مغادرة البديهي والانحياز إلى المدهش والطليعي، انه مسرح يتطلع إلى تهديم قوانين المسرح التقليدية التي تعتمد لغة المعادلات الرياضية التوفيقية ليدخل عالم الحلم الطقسية والفانتازيا. ولذا يحقق مسرح الصورة صراعا ثنائيا في زمن العرض بين الجمالي(التشكيل البصري) والدلالي (المفهوم الذهني المكتشف عن طريق تلقي صورة التشكيل).

  إن نظام مسرح الصورة وإنتاجه الإبداعي يعتمد منطلقا فلسفيا على مستوى المضمون والشكل يهئ مساحات لتوصيل رسالة فكرية حضارية تترجم العلاقات الكونية والوجودية في محيط الفكر الإنساني عبر التاريخ. ولذلك يلخص (القصب) رسالته الجمالية والفلسفية على مستوى المضمون بأنه((يعرض مأساوية العالم، ويطلب من المشاهد أن يعي هذه المأساوية، ولذلك فهو يقصد الموضوع في هذا الجانب بل يحاول أن يثقل على المتفرج يتراكم حالات الإحباط واليأس والقهر، لكي ينهض نظيفا من أدرانه من خلال وعيه المستفز بالمأساة))(3).

فيلجأ (القصب) إلى فعل الاختيار النصي الذي يمثل قاعدة تنظيم الرؤيا وتفسير العالم وفق المضمون الذي يتماشى وفلسفته الإخراجية، ويتعامل مع نصوص مسرحية وسيناريوهات صورية تنتج له مساحة للتجوال الفكري تحقيقا لكشف مأساوية العلاقات. ويطلق (القصب) على هذه الاختيارات مصطلح (محطات الذاكرة) فيتحول مع شاعرية وقسوة شكسبير في (هاملت، الملك لير، العاصفة ، مكبث) ويهدم واقعية تشيكوف الحياتية ويبرز سحرها الباطني من خلال اختيارية (طائر البحر، الخال فانيا ، الشقيقات الثلاثة). ويقتحم النص الشعري العراقي جاعلا منه فضاء بصري للتحرك ضمن اختيارات شاعرية خز عل الماجدي المحدثة في (عزلة الكريستال، حفلة الماس). ويكتشف في السيناريو الصوري قدرة تشكيلية حلميه قادرة على استفزاز ذاكرته وتحويل حلمه الذهني إلى صور وتكوينات إنشائية يحويها فضاء العرض الغامض في اختياراته (أحزان مهرج السيرك، الحلم الضوئي). 

إن هذه المحطات تفتح آفاقا واسعة لتصوير الرؤيا الحليمة لتجسد مملكة الصورة ضمن مفهوم الاختيار من وجهة نظر الإخراج والذي يعني ((الاستخدام السحري، لا على انه انعكاس لنص مكتوب ، ومجموعة القرائن المادية التي تنبعث من المكتوب . بل على انه انعكاس ملتهب لكل ما يمكن أن نستخلصه من نتائج موضوعية في الحركة، والكلمة، والصوت، والضوء، والموسيقى وتركيباتها))(4).

  أما على مستوى الشكل وهو المستودع المخزون الذي يفجر سرية النص، فالشكل في مسرح الصورة يعني العمق الفلسفي في تفسير المضمون. وينظر إلى الشكل من اعتبارات أن ((خشبة المسرح مكان مادي ملموس يطلب منا أن نملأه، وان نجعله يتكلم لغته الملموسة))(5). 

وهذا يعني الابتعاد عن شعر الكلام والاستعاضة عنه بشعر الفضاء الذي يعتبر الصفة العيانية التي يتميز بها العرض المسرحي . فلغة الفضاء هي المنطلق الذي يمثل جماليات مستوى الشكل في العرض ((فالصورة تستبدل شعر الحوار بشعر الفضاء وجمالياته، أنها تعتمد على طقسية العرض المسرحي لهذا فان التشكيل الذي تعتمده وتوظفه هو سحر الطقوس والأساطير والميثولوجيا والرموز )) (6)

وبذلك تبنى (القصب) شعر الفضاء الذي يمثل الفراغ المملوء بالشكل المادي لجسم الممثل مضافا إليه كافة وسائل التعبير التشكيلية المستخدمة على الخشبة وهي الرقص، النحت ، الإضاءة ، الديكور ، المعمار.. الخ .فالشكل في عرض مسرحية( الحلم الضوئي) الذي استند على تأويل إخراجي للمضمون يعتمد على تجربة الهدم والبناء في التكوين لتشكيل زمن العرض النهائي بكل تحركات الفضاء واستخدام عناصره. وهذا العرض يسعى إلى كشف العالم المظلم الداخلي للإنسان وعلاقاته الثنائية المضطربة، موته وبعثه، صراخه وصمته، جوعه وألمه انه ((عالم ملغوم بالأفكار المبهمة والتي لا يستطيع أحد منا نطقها أو التصريح بها إلا من خلال فعل الجسد. فلغة الجسد هي الأخرى لغة ابتداء، أحاول بما قرأت وبما اختبرت أن أتعامل مع الجسد تعاملا حيا امنحه إمكانية تفجير ويمنحني لغة تعبيرية جديدة ومن اللغتين أقيم صرح الشكل الصوري الذي بتكراره أولد المضمون))(7).

إن العنصر المهم والمحرك لشكل الصورة هو الحلم المبني على استحضار الذاكرة الجمعية(ذاكرة المؤلف، ذاكرة الممثل، ذاكرة المخرج، ذاكرة المتفرج) وعن طريق أنماط الذاكرة ومستوياتها تتشكل حركة الفضاء وشكله، ويبدأ العرض بزمن أسطوري خاص ينتج العديد من التشكيلات والإنشاءات البنائية. وهذا الشكل الأسطوري اللاواعي يخضع تفسير الصورة فيه إلى وحدة سيكولوجية أدرا كية خاصة تمتلك قدرة دلالية توليدية تتخلى عن جميع الروابط والاستخدامات والإحالات المعتمدة على الواقع الحياتي المنظور والمعاش وتستبدله بلغة شعر الفضاء السحرية. انه شكل يمتلك ديمومته وارتباطه بمضمونه العميق والمعبر عن((بحث اللامعنى لإيجاد معنى ما بعد اللامعنى انه منطق خرج من جدران المنطق الثقيلة والمتآلفة إلى عوام المخيلة التي تسبح في فضاءات لاحدود لها))(8) .

 

 

 

المبحث الثاني

               فضاء العرض في مسرح الصورة

 

  في الدراسات المسرحية التنظيرية تعددت التعريفات حول مفهوم الفضاء المسرحي لامتلاك هذا المصطلح دلالات عديدة على مستوى الخطاب الأدبي أو الخطاب الإيمائي وكذلك على مستوى استجابة المتفرج ومن هذا الفهم الشامل للفضاء يمكن تحديد تعريف ننطلق من خلاله لتأسيس مفردات البحث في درسنا. فالفضاء هنا: هو الحيز المسرحي الذي يحوي كل التكوينات والإنشاءات والتشكيلات ويتضمن مجمل العلاقات المكانية والرمانية والبصرية التي تشمل الفضاء النصي والعبي وفضاء العرض بوحدة جمالية جدلية فنية تصهر جميع عناصر العرض المسرحي ببودقة واحدة.

       إذن كيف يتعامل مسرح الصورة مع هذا المفهوم لإنتاج عرضه ؟

  إن صور الحلم عند (د.صلاح القصب) هي الوحدات التفجيرية التي تعطى للفضاء لغته المرئية الخالصة.. صيغ بلاغية بصرية ..تعتمد التحويل والتوليد الدلالي..رؤوس وأرجل وأيدي تعزف سيمفونية القدر(أحزان مهرج السيرك). ممثل يفترش الأرض وآخر يتكور ليعلن بجسده عن لحظة الخلق الأولى(قصة الخليفة البابلية) توابيت تتحرك على عجلات تحمل شخوصا ميتة تنطق بحقيقة أفعالها السلوكية ويعلن تشكيلها عن عالم الموت والحياة ، السلطة والتشرد والضياع(الملك لير) أكوام من الأشرطة المبعثرة تعلن عن ذكريات مهشمة للشخصيات(العاصفة) انه فضاء وظفت عناصره التشكيلية بالعمق والارتفاع والطول والعرض والزمن وتحتياته أيضا، فتملكت الخشبة كسطح مساحة للتشكيل نحتت عليها الأجسام فأصبحت قاعدة ينبثق منها معنى ودلالات العرض التكوينية.

 فضاء مسرح الصورة سلسلة من التكوينات التشكيلية المركبة المعتمدة في تصميمها على عالم مزدوج يمتلك وظيفة تتشكل في إنتاجها من مستويين مستوى الإرسال، خلق التشكيل الصوري اللاواعي (نص، مخرج، ممثل) ومستوى التلقي الذي ينتج متفرجا يستطيع قراءة الصورة باعتماده على هدم المكتسب وبناء مدركات تلقي جديدة .. وهذا يعني إن فضاء الصورة يقوم على ((شبكة من التكوينات والأنسجة المركبة والغامضة المصممة بقصديه أو عفوية وفق إيقاع صوري لعلاقات شكلية متغيرة لا يهدف إيصال معنى محدد كما في المسرح التقليدي وإنما يقوم بإرسال مجموعة من الإشارات والعلاقات والدلالات إلى المتلقي عبر سياق وشفرة لتولد في ذهن المتلقي مجموعة مدلولات))(9).

إن فضاء مسرح الصورة ليس خطابا ماديا منطقيا بل فكر يعلن بوسائله الغرائبية في التعبير عن اللامنطق الذي يكشف في بحثه وحركته وتشكيله بناءا جديدا يفلسف المتلقي الحياة من خلاله. وعليه فان فضاء الصورة يحتاج إلى انتقاءات وانتقالات تفسيرية غير مألوفة تعتمد على فعل ذهني يركب المادة الصورية المشكلة في المساحات المطلقة ويخلق من ترابطها المعنى المرتبط بالمدرك العام. انه فضاء ((لم يعد ينتمي إلى عالم المعطيات البديهية، بل أصبح اقتراحا يقدم للمتفرج. ويتعلق هذا الاقتراح بالمفهوم الجمالي للمكان ونقد فكرة العرض في حد ذاتها. فالمكان المعاصر جعل لكي يتخلى المتفرج عن نظرته إلى العالم من خلال النظم الموروثة التي تلقاها ولقنت له))(10) 

واستنادا إلى ما تقدم يمكن أن نحدد ثلاث فضاءات يتحرك فيها مسرح الصورة لتثبيت وظيفتيه الجمالية والدلالية وهي :

1_الفضاء النصي.

2_فضاء التشكيل الصوري.

3_فضاء التلقي. 

  المقصود بالفضاء النصي هو ((فضاء لغة النص . فضاء مجرد على القارئ أو المتفرج أن يبنيه بالمخيلة في خياله))(11). ويبنى هذا الفضاء من خلال قراءة النص التي تعطى للقارئ الصفة المكانية لعالم الحادثة الدرامية وحيز وقوعها وتستنتج عناصر هذا الفضاء انطلاقا من التوجيهات الزمانية والمكانية الموجودة في الوصف النصي أو الملاحظات التي تكتشف عن طريق حوارات الشخصيات.   

إن طروحات فضاء الصورة النصية تبحث لها عن بدائل دلالية منفصلة عن شروحات الفضاء المقترح من قبل المؤلف، وتبدل أوصاف المكان (القصر، الصحراء) في مسرحية الملك لير. البحيرة والريف (طائر البحر)،(القلعة الغرفة) مكبث . وتخلص معطيات العرض الصوري وبناءه من الافتراضات والشروحات النصية المعلنة وتحيل هذا الافتراض إلى حقل إنشائي صوري بعيد عن التجسيد المطابق للنص. راسمه لغة إخراجية تخضع لسلطة الخيال لتجسد هذه الصور أحلام وللاشعور صانع الفضاء (المخرج).

من هذا المنطلق تبدأ عملية الاشتغال الإبداعي لخلق فضاء التشكيل الصوري. وهو فضاء يجمع بين عناصر متباينة ومتناقضة ومتباعدة يعتمد إنتاجها على رؤى العالم سريالي. يستند عليه المخرج في اختيار مساحات مطلقة لكي تتحرك عليها الكائنات الوجودية(الشخصيات) حيث تؤدي طقوسها المعذبة . ولا يميل هذا الفضاء التشكيلي إلى تحديد جغرافية مقننة للعرض بل يعتمد على مفردات عرض يخرجها بحركة الممثل لخلق علاقات مكانية لها أبعاد بلاستيكية، فحركة الممثل التشكيلية هي التي تعطي للحيز الفارغ وجودا دلاليا معبرا وهي التي ترسم حدود الصورة.

 

أمثلة:

ا_قماشه بيضاء كبيرة تملأ سطح الخشبة تعمل على تشكيل دلالات متعددة. قصر.. صحراء .. قبر.. بحر .. كفن .. ..الخ (الملك لير).

ب_مساحة ملتبسة.. ارض رملية، سماء ذات نجوم ساطعة.. جدار مرتفع، شبابيك شاهقة، موقد مشتعل، فرقة سيمفونية لكائنات شاحبة.. (عزلة في الكريستال).

ج_فضاء واسع لا يمتلك حدود بصرية مفتوح على اللامكان.. سراب(العاصفة). 

د_دمج الحيز أللعبي مع صالة المتفرجين بوحدة مكانية طقسية متألقة توحي بجو احتفالي أفريقي . رسوم بدائية على الجدران، جلود حيوانات صيد تغطي أماكن جلوس المتفرجين .. أقنعة خرافية يلبسها الممثل والتي تحمل معالجتها وظيفتين في العرض الأولى تعبيرية والثانية تزينيه (هاملت). 

نستنتج من هذا وصفا شاعريا سحريا للفضاء في مسرح الصورة محدد في البيان الثالث الذي أطلق عليه د. القصب (كيمياء العرض) حيث يصفه بأنه((سحر كوني يحاكي فيه الروح تحت وطأة الحسد يشعرنا بامتلاء الجو برعشة الأشياء الهاوية،قدسي، سري تسبح فيه الأطياف المهاجرة وباستمرار ليل نهار تدوسه عرباتهم حاملة أحلامنا . لا تستغيث أبدا ، أثيري ..انه الرواق المفتوح على السماوات المجهولة لاينتمي لمعمارية الهندسة وخرائطها، لاجدران ، لامساحات مثبتة ، انه الباحث عن اللانهاية، المتنسك، الشهواني ، المحتدم بالصراخ حينا والمحتدم بالدموع حينا آخر))(12).  

في فضاء التلقي يصدم هذا السحر الصوري ذاكرة المتفرج التقليدية ويحفزها على إيجاد معادلات تأويل تفرضها طبيعة الصور المضطربة فيواجه المتلقي مشهديه تحطم النص الأدبي وانتماءه الأصلي وترده إلى مشهديه قائمة على لعبة التدمير المستمر ((الصورة تدمر الصورة، الطقوسية تلغي الطقوسية بالطقوسية، المشهدية تكسر المشهدية، الكلام ينفي الكلام ، الحركة تقطع الحركة. علاقة نفي متبادلة))(13).  

إنها مشهديه تعطي مجالا واسعا لأصطدم حواس وفكر المتلقي الذي عمل المخرج في تأكيد كيمياء عرض سرية حاول فيها جمع العناصر المتنافرة وجعل منها دلالات موحية بالعالم المضطرب المميت ضمن ثنائية صورية مابين الحياة والموت، الأرض والسماء، الضحك والبكاء، التمرد والاستسلام. إنها دلالات لايمكن أن يتعامل معها المتلقي بأحادية وإنما تتعدد الرؤى والتفسيرات التي يخرج بها في ضوء وعيه وإدراكه للصورة.

إن فضاء مسرح الصورة بلور الشكل المسرحي واختزل كافة المتناقضات وجمع العناصر ذات العلاقات المتباينة وجعل منها فضاء مرصوصا مكثفا شامل الدلالات موحدا. يعني بكل الفضاءات ، فضاء النص ، الفضاء أللعبي ، وفضاء التلقي. حيث تترجم في هذا الجمع المؤلف بصريا لغة للاتصال والتواصل مبنية على البحث والتجريب عن أماكن عرض غير تقليدية.. تتصف بمعمارية تتلاءم مع طروحات مسرح الصورة الحليمة الطقسية . والملاحظ أن مجمل عروض (القصب) ابتعدت عن اختيار المكان تقليدي (مسرح العلبة الايطالي)، بل عمد إلى تقديم عروضه في صالات يقوم هو بتنظيم العلاقات الفضائية فيها وفق رؤيا تشكيلية تحول هذه الصالات إلى أماكن قدسية .

ولقد اختار القاعات التالية واعدها لعروضه :

1_المسرح الدائري         قصة الخليفة البابلية. 

                                 طائر البحر.  

                                 أحزان مهرج السيرك. 

2_الفضاء المغلق          هاملت ( المسرح التجريبي اكاديمة الفنون )

                           الملك لير(باحة أحد قاعات قسم المسرح). 

                              الحلم الضوئي(نفس القاعة).  

                             حفلة الماس(مسرح الرشيد). 

3_الفضاء المفتوح          عزلة في الكريستال . 

                             ما كبث. 

 

وهذه المحاولات التجريبية في تغير المعمار لها دور فاعل في رسم حدود لغة العرض الصورية وإعطاء الفضاء معناه الجامع الشامل.

 

النتائج

خلص البحث إلى تثبيت النتائج أدناه والتي تمثل الكيفية التي تؤسس عليها آليات اشتغال الفضاء المسرحي في عروض مسرح الصورة عند المخرج العراقي صلاح القصب انطلاقا من فرضيات جمالية تكشف عن سرية هذا الفضاء وخصوصيته والنتائج يمكن تحديدها بالاتي :

1- فضاء مسرح الصورة .. لغة مسرحية تبحث عن غموض في دائرة العلاقات البصرية ..وتسعى الى التعبير عن اصطفا فات متناقضة من الصور والدلالات المعبرة عن حقيقة العالم والكون بالحلم ومنطق اللاواعي .

2- تعتمد لغة الفضاء المسرحي على لغة مسرحية خالصة تفجر معانيها الحقيقية الباطنية لتكشف المخفي من العلاقات .

3- فضاء مسرح الصورة بفرضياته السحرية والطقسية عبارة عن عالم للاسراروالدلالات الرمزية يحتاج إلى متلقي يبذل جهدا معرفي ذهني في فك شفرة العرض للوصول إلى معرفة إسرار الصورة الغير معلنة .

4- فضاء مسرح الصورة المفترض عبارة عن رؤية حلميه شاعرية تعمل فيها عناصر التكوين البصري خارج سياق التقليدي والمنطقي وصولا الى سحر الصورة وطقوسيتها .

5- الفضاء في مسرح الصورة جامع شامل يحوي كل التركيبات والعناصر البصرية في العرض ويؤكد على اشتغال معماري متجدد تفرضه منطلقات فكرية جمالية تخضع الى فرضيات العرض في مسرح الصورة .             

الهوامش:

(1)               د.صلاح القصب. ما وراء الصورة، الإشارة الأولى لصورة الذاكرة. مجلة الأقلام (بغداد) العدد الثاني شباط 1990.  ص65 . 

(2)                سعيد توفيق. سينا فيزيقيا الفن عند شوبنهاور . دار التنوير( بيروت) 1983 . ص64 . 

(3)               ياسين النصير.ثلاثة نماذج من الإخراج المسرحي في العراق . مجلة الأقلام (بغداد) العدد 3 آذار 1989 . ص73 .

(4)               انتونا ن ارتو. المسرح وقرينه، ترجمة د.سامية اسعد. مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر (القاهرة) 1973 . ص64 . 

(5)               المصدر السابق. ص29 .

(6)      د.صلاح القصب.مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق. بحث مقدم الى المؤتمر العلمي كلية الفنون /قسم المسرح 1986 (بغداد). ص3 .

(7)               ــ ، ــ .نقلا عن ياسين النصير. ثلاثة نماذج من الإخراج المسرحي في العراق . ص72.        

(8)               ــ ، ــ .كيمياء العرض . مجلة أسفار (بغداد) العدد 17 صيف 1994 . ص16 .

(9)               ــ ، ــ .ما وراء الصورة . الإشارة الأولى لصورة الذاكرة. ص64 .

(10)    سامية اسعد. مفهوم المكان في العرض المسرحي المعاصر. مجلة عالم الفكر (الكويت) العدد 4 يناير. فبراير. مارس 1985 . ص92 .

(11)          باتريس بافيس.الفضاء في المسرح . ترجمة محمد سيف. مجلة الأقلام (بغداد) العدد الثاني شباط 1990 . ص53 .   

(12)          د.صلاح القصب.كيمياء العرض . ص18 .

(13)    بول شاؤول. تعقيب عن مسرحية عزلة في الكريستال. نقلا عن احمد فياض ألمفرجي. مهرجان بغداد للمسرح العربي 10 _20 شباط 1990 . دائرة السينما والمسرح (بغداد) 1991 . ص88 .

                                                              

 

  • Currently 42/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
13 تصويتات / 1864 مشاهدة
نشرت فى 18 نوفمبر 2010 بواسطة kreem

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

13,314