وقال الميت

 

خالد السيد علي

     تأخذني قدماي من حين لآخر إلى جبانات عتيقة لم تعد تستقبل الموتى منذ زمن بعيد، بسبب ما شاع عنها من أن العفاريت تقطنها، رغم أن عواد التربي ينفي ذلك كلما جلست معه ليروي لي حكاياته مع نزلاء الجبانات حيث يؤكد لي أنهم يخرجون ليلًا ويتحاورون فيما بينهم ومعه لذا يظن الأحياء أن هناك أشباح تخرج ليلًا تجوب المكان..
لقد صدقته خاصة بعد أن جلست مع بعض النزلاء..نعم جلست وليصدقني من يشاء ويكذبني من يشاء، لقد تخطى عالمهم حد خيالي ككاتب، فرغم موت الكاتب إلا أن إبداعه يعيش أبدا الدهر..
في هذه الليلة..
     قبل أن يجيء عواد..لم أشعر بثقل الوقت، فقد كنت شغوفًا وأنا أنصت لحكايات النزلاء؛ رغم أن عواد له أسلوب فذ في القص كأنه جاء من زمن الرواة قبل أن تسطر القصص في القراطيس مثلما أفعل.
وها هو النزيل رقم 1975 يبدأ كلامه:
-         <!--[endif]-->كانت جنازة أخي الأصغر الذي استشهد في حرب 1973 ذلك النصر العظيم جنازة مهيبة..كان أخي جندي مقاتل أسد مرعب على أرض المعركة في سيناء..قال عنه قائد الكتيبة آنذاك لقد كان أخيك صائدًا ماهرًا يصطاد الدبابات الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى بكل جسارة، وقال عنه الزملاء لقد كان عاشقاً لتراب مصر، ويقسم كل يوم وهو بينهم أنه لن يعود لدياره إلا بأفراح النصر أو مرفوع السيرة بالاستشهاد، وعاد أخي بأفراح النصر والاستشهاد معاً.. بينما أنا لا أستطيع إخفاء عار هروبي من تأدية الخدمة العسكرية في الجيش المصري، وذلك عندما قررت السفر لتحقيق الذات وجني المال خوفًا من ضياع العمر على أرض الهزيمة عقب نكسة سبعة وستين، ولكن للأسف تاهت أحلامي في الغربة وعدت يا مولاي كما خلقتني لم أحقق شيئًا..كانت السخرية تلاحقني في عيون من يعرفونني وكأنهم يقولون ها هو خيب الرجاء، وها هو أخيه الأصغر الشهيد الذي وضعت يافطة باسمه على مدخل الشارع..كنت أموت في اليوم الواحد ألف مرة حتى فقدت الإيمان بكل شيء وداهمني اليأس وسلمت نفسي للملحدين واقتنعت بأن الكون بلا إله وأنه يسير وفق الطبيعة وأننا نعيش بالطاقة وليس بالروح وأن الجنة أكذوبة، والنار هزلا، وأن بعد الموت لا حياة ولا نشور إلى أن استيقظ عقلي وأنا أجادل أصغر علماء الأزهر أعادني للصواب فهربت من مطاردة الملحدين، ولكنهم تمكنوا مني.
صمت النزيل 1975 فجأة ما أن جاء عواد؛ وكأن حكايته لم يعد لها بقية..نظر عواد للنزيل 1934 وأذن له بهزة رأس ليبوح بقصته..
تابعت ما يحدث دون أي تعليق..
وبدأ النزيل 1934 يقص قصته:
-         <!--[endif]-->عشت على أمل أن أجد من يقدرني، ويقدر قدراتي، فقد كنت متفوقًا طوال مراحل دراستي إلا أن سفينتي كانت دائمًا بين مواجهة الرياح العاتية التي تعصف بأحلامي، وبين الضباب الذي يحاصرني من كل الزوايا عندما كان ضميري الحي يأبى أن يلتهم حق الغير، وهو يرى بعينيه تساقط أوراق عمره دون أن يجد مكانًا له بين المحيطين به، الذين يلعنون ضمائرهم بل يشنقونها من أجل الذات وجني الأموال وتلقي الخدمات، لم أمكن النفس الأمارة بالسوء أن تخترق ضميري وتحتله وتقوده إلى الهلاك بل كان ضميري كالصخرة العتيقة التي لا يستطيع تحريكها حتى وإن كان إعصارًا..!
قام النزيل 1934 ووقف مكانه مترنحا كأوراق الشجر التي تتساقط في الخريف وهو يستأنف قوله متوجعاً:
-         <!--[endif]-->آه .. آه أيها النزلاء عندما تكون وحدك وسط نفوس حاقدة لأنك مازلت رغم المحن لم تسقط في البراثن التي سقطوا فيها، تأكد أنهم سيتجنبونك، وينبذونك أو ربما يطيحون بك بعيداً عن لقمة الخبز بوصمة تنال من شرفك الأخلاقي، وهذا هو الأرجح في جميع الحالات، كما حدث ليّ ومن أقرب المقربين ليّ في العمل عندما كنت أتصدى له وأحاول تقويمه حتى لا أفضح أمره..لقد كانت وصمة عار متُ عليها في السجن؛ فلم أحتمل تقبلها ولا تقبل نظرة المجتمع وأنا في نظرهم مرتشي، وما أنا بمرتشي !  
وتسلم النزيل 1997 خيط نهاية قصة النزيل 1934 ليسرد قصته..
بدأ يعرفنا بنبرة وهنه متذبذبة أنه النزيل رقم 1997 ثم تلعثم في الأحرف وصمت قليلًا، فسمعت حولي بعض النزلاء يتهامسون بجمل قصيرة، بينما عواد يبتسم لهم وفي عيناه حده، ومعان لا يفهمها سوى هؤلاء النزلاء:
"إنه النزيل إياه .."
"لا يدري أحداً من الخلائق ماذا حدث حتى أولاده وزوجته "
"بل هو نفسه لا يدري "
"ولكن الحقيقة الواضحة أنه رجل بروحين"
"نعم روح فوق الأرض، والأخرى تحت الأرض معنا"
... أخيرًا استطاع النزيل 1997 القبض على طرف أحرف كلماته وبدأ يتكلم بثبات:
-         <!--[endif]-->في يوم وليلة أصبحت في التابوت، ثم صرت في المقبرة..اعتقدت أنه حلم أو كابوس، ولكنه كان واقع أحسه..
لقد كانت نهاية منطقية لأي أحد ينشق عن النظام الحاكم ليعمل لنفسه أو ليرصد فسادا ويحارب أصحابه، طبيعي النهايات مختلفة ولكنها منطقية.. اعتقال، اغتيال، حادث مروعًا، فضيحة تفضي به لنزهة في السجن لبضعة أعوام أو رحلة للمدافن..ذهاب بلا إياب(بمرارة اللسان)أو بمعنى أوضح الدفن حياً؛ وهو أقوى النهايات انتقامًا مثلما حدث معي بعد أن أكتشف النظام حصولي على عمولة من وراء صفقة لبيع أراضي الدولة بمبالغ زهيدة لمستثمر يهودي الأصل يتاجر في الأراضي، ورغم أن عمولتي لا تساوي شيئًا للعمولات التي تدفع لسواعد النظام من أي مستثمر آخر حتى وإن كان صهيوني الأصل، إلا أنهم اعتبروني خائنًا لهم، وليس للوطن، فحكموا ونفذوا  الحكم توًا..قمت من موتي المؤقت، وخرجت من الكفن؛ فوجدت نفسي في ظلام حالك تحسست المكان فأيقنت أنهم نزلاء، وأنا أحدهم..
حاولت الخروج والاستغاثة دون جدوى، كان يحالفني سوء الحظ حيث خرج عم عواد إلى نزهة مع زوجته الريفية-ذات الحُسن الرباني-بعد أن حصل على تصريح الدفن ثم أنهى عمله، لم يكن أمامي سوى الصلاة بالكفن ثم قلت الشهادتين، هكذا تكون النهايات المنطقية عند الحكام.
عم السكون فجأة، واختفى النزلاء مع نهاية الخيط الأسود لليل بلا قمر..
في اليوم التالي..
     لم يخرج النزلاء لدروب المدافن ليقصوا على عواد التربي أحوالهم في الحياة، لأنهم كانوا في احتفالية استقباله وهو بالثوب الأبيض لينضم إلينا..نعم إلينا..!
 
تمت

 مع تمنياتنا بقراءة ممتعة

نشر هذا العمل في مجلة مسارب أدبية بالخرطوم
العدد  الثامن ابريل2020م
فريق عمل
الموقع
2020م
 مع تمنياتنا بقراءة ممتعة
فريق عمل
الموقع
2020م

المصدر: المؤلف
khaledelsyedaly

منصة المؤلف الإليكترونية

خالد السيد علي

khaledelsyedaly
أعزائي وأحبائي قراء، ومحبي الكاتب والسيناريست الكبير خالد السيد علي .. هذا هو الموقع الأول على بوابة كنانة أونلاين(منصة المؤلف الإلكترونية طائر السعادة للنشر المجاني) ويسعدنا ان نتواصل معكم في عالم المعرفة.. كي نتعلم معًا ونزداد نور على نور..نحن فريق عمل متطوع لهذا الموقع .. هذه دعوة لأحباء الكاتب للمشاركات.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

56,239