.
بقلم / خالد البطاوى
ان الحرية بايجاز تعني القدرة على التفكير السليم والفعل الراجح بدون قيود. ان الحرية لا تعطي ولا تؤخذ، بل هي معطى أصلا.ان الحرية تكتشف و تستخرج. ولكن يتداول سياسيا في أنها اما تعطى أو تؤخذ. يروى عند العرب ان شيبوبا أو احد العبيد قال يوما قولا حكيما لعنترة بن شداد العبسي أن الحرية تؤخذ من الاسياد والسلطة من الضعفاء. فلا يتسلط على الضعيف الا الاقوى منه ولا يأخذ الضعيف قوته الا من الاسياد، لا من مثيله من الضعفاء. صح هذا سياسيا ولا أروم السياسية وحدها في هذه التأملات بقدر ما أروم تجليات فكرة الحرية في معناها الوجودي أو الفلسفي، ولا تستقيم فلسفة أو أسئلة الوجود اذا لم توضع في سياقها، والسياق عامة توجده السياسة. لذا ستكون لي اشارات لمعنى الحرية في ما بين العالمين، القكري والسياسي.
صحيح أن الفرد ليس مخيرا في مكان ولادته ووفاته ونسبه وقليل أشياء أخرى، لكن المجتمع بشكل عام له طوابع تطبع عليها تاريخيا ولاستمراريتها يتم الترويج لهذه الطباع اما طوعا او كرها، فرادا او جماعات، فيصبح الفرد في احايين كثيرة مسؤولا عن نسبه أو مكان ولادته رغم انه ليس مسؤولا مباشرا عن ذلك، بل هي مسؤولية الابوبين وظروف أخرى قد نعلمها او لا نعلمها. ان ما يهم هنا هو الافعال المباشرة للفرد والتي يقوم بها عند بلوغ سن معينة نرتضيها سن الرشد والمسؤولية. منذ هذا السن لا يصح للفرد أن ياتي ما يناقض المجتمع وقوانينه، وكل من اتى ذلك عن اختيار أو كره فقد يناله غضب الجماعة أو النخبة الحاكمة.
ان مستويات ثلاث تتحكم في مفهوم الحرية: الفرد، الجماعة المؤثرة، والجماعة الحاكمة أو الدولة أوالقانون. منذ ولادته يجد الفرد نفسه محاطا بنظام تربوي منظم أو غير منظم من طبيعة ما، فيتطبع المرء بطباع هذا النظام ويصبح لسانه احد المؤتمرين به، بحيث لا يأتي ما يستقبحه المجتمع وما رباه عليه الاباء والاولون من الجماعة. والجماعة ان كانت تدين بدين دولة ما لا تغير من مسيرها بل تسير على ما سارت عليه نخبة الدولة.
سنقفز على كثير أمور هنا لنوصل المبتغى من الحديث بقليل كلام، ولنبدء من قمة الهرم لنصل الى قاعدته، اي الفرد. فاذا كانت الدولة ديمقراطية ووصلت النخبة الحاكمة بطريقة الاقتراع المباشر للافراد، فذاك مقبول اجمالا لان القاعدة تقول بالاغلبية. ومع ذلك فالديمقراطية تقول بأنه لا يجوز للاغلبية أن تضر بمصالح الاقلية وان وصلت للحكم، لان الاصل ليس هو الوصول الى الحكم بل طريقة الحكم بشكل يناسب الجميع، حتى الاقلية التي خسرت الانتخابات مثلا. بمعنى اخر، ان الانتخابات لا تكون ديمقراطية ان لم تكن النخبة الحاكمة تعمل لصالح الجميع، وليس لصالح من يدور في فلك الاغلبية فقط. ويكون من حق الاقلية مراقبة الاغلبية في صغيرات الامور وكبيراتها، وللاقلية فرص الحكم في الاستحقاقات الموالية ان ظهر ان الاغلبية غلبت مصالحها على مصالح الجميع، وخلال كل ذلك واجب على كل من الاغلبية والاقلية أن تفصح عن برامجها ونتائجها بكل شفافية عند بداية ونهاية كل استحقاق انتخابي لكي يكون المقترع اي المنتخب على دراية بالامر، ولتكون له حرية الاختيار عن قناعة تامة، وليس عن جهل. ان ظهر أن الاغلبية أو الدولة تتحيز في برامجها، ولا تكشف للمواطنين عما قامت وما لم تقم به، فان ذلك من سمات اللاديمقراطية، واللاحرية في البلاد.
ان الديمقراطية تستلزم حرية ذات مستوى عال من اللاتحيز. وكل انتخابات مهما كانت نزيهة في ما يخص عملية الاقتراع المباشر لا تهم ولا يمكن الاعتداد بها ان كانت الحرية مفقودة عند الافراد. ان الديمقراطية تبدأ بحرية الافراد، وحرية الافراد تبدأ بحقهم في معرفة الاختيارات الممكنة وغير الممكنة التي قد يختارونها وقد لا يختارونها.
ان الجماعة او القبيلة التي تشد اليها الفرد شدا لا لمصلحة له ذاته ولكن لمصلة لها بعينها دون أن يكون للفرد رغبة في ذلك، او بايعاز من الدولة او النخبة الحاكمة، لا يغير من المجتمع شيئا ولا يسير بالديمقراطية قيد أنملة، وانما هو فعل يقتل الحرية قتلا ويجهض اجتهاد الفرد وابداعه قبل أن يولد. فكل فرد تكبله جماعته في سبيل الجماعة او الدولة انما هو تكبيل لمستقبل الجميع، فردا وجماعة ودولة.
فما السبيل الى الديمقراطية؟ ان طريق الديمقراطية معبدة بالحرية. والديمقراطية، كالحرية، طريق مفتوحة لها مشارب عدة، ولا منتهى له.
فكيف ننتج أفرادا أحرارا اذن؟ قد يتساءل متسائل. ان الحرية لا تنتج ولا تعطى. انها معطى انساني يجب اكتشافه، ولاكتشافه شروطا أهما وأولها ان يعي الفرد كل الوعي ان الحرية له وله أن يكتشفها ويستخرجها من ذاته وجماعته والسلطة أو الدولة التي تأويه أو تحسب أنها تأويه.
ان الحرية التي يتوجب على الفرد أن يكتشفها لا ترادف الليبرالية الضيقة. ان الليبرالية فلسفة ذات توجهات سياسية معينة وذات توجه دنيوي خاص نتج بأوروبا ولها تاريخها الخاص وتمظهراتها الخاصة، ولا نخوض في ذلك هنا. ولا أرى أن على العالم، وخاصة العالم الثالث، أن يتبع حرية تصدر اليه بتاريخ وقيم معينة. انني لا أعني عدم الاستفادة من مكتسبات الليبرالية الغربية، ولكن ما اعنيه ها هنا في هذا المقام والمقال هو ان الحرية في ذاتها ليست فلسفة أو دينا معينا تخص ثقافة أومجتمعا بعينه بقدر ما أعني أن لكل مجتمع الحق في أن يكتشف حريته ويصيغ حقوقه طبقا لما يكتشفه من حريات، عوض أن يستورد ما لا يستورد، بدون وعي واعمال لعقل الفرد. ان الحرية التي ُ تصدر ما هي الا رمز من رموز الاستعباد، لا الانعتاق والحرية.
صحيح أن الفرد كما الجماعة او الدولة قد يحتاج الى نموذج أو نماذج يقتدي بها لانارة الطريق نحو عالم حر وديمقراطي، ولنا في ذلك تساؤلات أكثر مما لدينا من أجوبة.
ان الفرد الحر لا يدرس-بضم الياء وكسر الراء- ولا يتحدث الا حرية في الفكر، والرأي، والسياسة، والدين، وكل من تحدث غير ذلك فذلك ليس بفرد حر وانما سيد استأسد بالحرية على مخاطبيه ليستعبدهم.
ان الفرد الحر لا يدرس طريقا واحدة للحرية، بل يجد لها سبلا كثيرة ويوحي لمستمعيه لها دون ان يوجههم الى واحدة بعينها. فالحرية ذات الطريق الواحدة و الوحيدة ليست حرية بل تنتهي باستعباد في اخر الطريق.
ان الفرد الحرلا يتحدث باسم الحرية كممثلها الوحيد، بل كواحد ممن ظفروا بقليل من كثيرقيمها التي لا تنجلي ما دام الفرد ممتطيا لصهوتها.
ليس للحرية وطن ولا زمان ولا مكان. ليس للحرية دين تدين به أو فلسفة تتفلسف من أجلها. ان أردنا مرادفا للحرية فالانسان مرادفها وبه تستقيم أو لا تقام. فالانسان كذات مفكرة هي التي تتعاطى مع معطى كبير كالحرية. ان الانسان الفرد هو من يحدد مستويات الحرية التي تليق بمقامه وبما يتطلع اليه: قد يراها صغيرة المدى فيمتثل لها على مدى مداها، وقد يراها واسعة فتتسع ذاته المفكرة ليستوعبها، فيداعبها كما تداعبه، ويطلق بنات أفكاره لها فتزيده من زادها، فتغذيه أفكارا وابداعا ونشوة وانسانية. ان الفرد الحر الحق فرد مسؤول عن حريته وما اكتسب عن طريقها، فلا يظلم أحدا لانه يعرف حدود حريته، ولا يستضعف أحدا لانه يدري أن ليس لكل الافراد نفس اللياقة الذهنية والجسدية لمراودة الحرية والاحتساء من حساءها والتغذي بغذاها. ان الفرد الحر عند تشبعه بالحرية وقيمها يصبح أكثر انسانية ومسؤولية وحكمة، لان الحرية هي التي توسع نظره وتمدد أفق تفكيره، فيصبح ليس عبدا للحرية بل تلميذها وأستاذها في نفس الان لانه يدرك جوهرها ومداها، كما يدرك مخاطر من يستهين بها، فكم من حر جرى مجرى الحرية غير المسؤولة فسقط في استعباد الاخر واستعباد ذاته لهواه، فلم تعد الحرية عنده حاملة للقيم الانسانية بقدر ما أصبحت حاملة للشهوة والسلطة. وعند التقاء سلطة الشهوة بسلطة القدرة على الفعل والتسلط فذلك هو الجانب اللاأخلاقي للحرية الذي لا يرتضيه عقل راجح ولا يقبله قلب سليم.
ان الحرية أصلها الفرد ومنتهاها الفرد، وما الجماعة والدولة الا دواليب سيرت من أجل السير على درب الحرية أو السير في ظلمات بعيدة عنها. ان كانت الحرية هي مبتغى الجماعة والدولة فبها ونعمت، لان الفرد لا يبتغي غيرها. أما اذا كانت رغبة الجماعة والدولة تسير غير سير رغبة الفرد الحر الحق والمسؤول فله أن يصارع من أجل ان يحتسي من حساءها وفوائدها. وأول ما يصارع به الفرد الجماعة أو النخبة الحاكمة الظالمة هو البحث عن العلم اليقين الذي لا يعادي الحرية ولا يقلل من شأنها ما دامت ترفع من شأن الانسان وترتقي به من فرد عبد الى فرد حر عاقل وراشد يعي ما له وما عليه. ان الحرية مسؤولية، والمسؤولية تصبح مسؤولة عن ذاتها وغيرها عندما تنتقل من الفرد الى الجماعة أو المجموعة الانسانية. وبما أن الحرية مسؤولية فان الفرد مع مرور الوقت يعي أن لها حدودا تحدها غايات غاياتها حفظ النوع البشري من التسلط والجور والفسوق، وكل ذلك حسب الزمان والمكان الذي تكبر فيه هذه الحرية وأفرادها.