د.ايمان مهران

أعمال تهتم بالإبداع والمبدع والتواصل الإنساني عن طريق الفن

<!--

<!--<!--

مقدمة الكتاب

       يُمثل كبار السن خلاصة التجربة الإنسانية وتاريخ نضالها المستمر ، وهي فئة عمرية تعكس ما توصلت إليه الشخصية من إنجازات ، فهؤلاء الكبار خلاصة الأجيال المتعاقبة.

       إن الكبار مرآة التاريخ الإنسانى ، فحين تجلس معهم تحس برهبة التعامل مع الكبير ، فنحن لا نمثل فى هذا التاريخ سوى لحظات ، وهذه النظرة يعكسها لك الكبار.

       ولقد كان حظى كبيراً مع الجدود ، فقد كنت أكبر أحفاد جدي لأمى ، هذا الجنوبي المستنير صاحب الهيبة والذى ترك لأبنائه السمعة الطيبة والصيت الواسع ، وكان أخوه مقيماً فى القاهرة يسكن حى النعام بالمطرية ولم يرزق بأبناء اتخذ أمى عقب استقرارها بالقاهرة ابنة له ، ورغم وفاته وأنا صغيرة إلا أننى أدركه حيث كان محباً للفن التشكيلى ، وكان يسكن بفيلا بجوار الفنان التشكيلي / حسني البنانى ليتعرف عنده على الفنانين الروَّاد  يوسف كامل وكامل مصطفى المقيمين بجواره أمام قصر الأمير يوسف كمال .

      وقد كان هذا الجد زوجاً لسيدة جذابة وقوية شامية المولد ، وهو الذى إتخذ موقفاً من أسرته الصعيدية ليعيش معها بسيطاً ويموت وحيداً بسبب حبه لها، لتحافظ من بعده على علاقتها بذكراه وعلى محبيه وعلى كل متعلقاته حتى كبرنا ووجدنا كل أشيائه وكأنه على سفر وما زال حياً فى بيته وبين مملكته .

     عاشت تلك السيدة 92 عاماً لم تقصِّر يوماً فى واجب ولا في معروف ، وكانت أمى هى إبنتها التى لم تنجبها ، ويوم وفاة أمى مرضت تلك السيدة فور سماع الخبر، والغريب أن مرض أمى بتفاصيله انتقل لتلك السيدة ، وكأن روح أمى رفضت أن تتركها، ويوم زفافى جاءت لبيتى وهى تقول أنا الأم وأنا التى أشرف على كل شىء وكان عمرها تسعين عاماً. وفي مرضها الأخير لم نستطع التواصل معها فقد وقعت تحت سلطة الورثة فهى لا تملك التحكم فيمن يزورها ، فقد فقدت سلطتها على ذاتها  وأصبحت ملك راهنها  .

       أما جدى لأبى فقد كان فخوراً بى وكان يقوم بمراجعة الدروس معى حين كبرت ، كما كان يظن دائماً فى أن المعروف فى البنات لا يضيع أبداً وإنهن (أبرك من ميت راجل) ، وكان يرى أنى حفيدة لصديقين حميمين فيقول (أكيد حتورثى الخير مجتمع) .

      هكذا بدأت علاقتي بالكبار أسرياً حيث كنت مصدر إهتمام دائم ورعاية ، أما أكاديمياًّ فقد بدأت بدراسة علوم الإعمار حين تم تعينى باحثاً للحصول على ماجستير فى العلاج الوظيفي للكبار بمركز رعاية المسنين بجامعة حلوان .

    دخلت المجال بكل توجهاته وتكتلاته و بدأت فى السعى لتسجيل أطروحة الماجستير في العلاج الوظيفي لكبار السن ، وقابلتني مشكلات نتيجة ندرة التخصص وعدم وجود خلفية لباقي التخصصات عن ملامح التخصص ، حيث بدأت أقابل صفوة المجال في العالم مثل الدكتور (ترويسى Turuyzi ) عميد معهد مالطة لعلوم المسنين التابع للأمم المتحدة بالإضافة للعلماء القادميين للمؤتمرات الدولية من كل البلدان ، ومن خلال المؤتمرات التى كانت تقام في كليات الطب بجامعة عين شمس وجامعة الأزهر وغيرهما، وحصلت على دورات تدريبية من المتخصصين فى المجال ،و بدأت فى حضور دورات فى العلاج الوظيفى من معهد مالطة لعلوم الإعمار بالاشتراك مع كل من جامعةحلوان (بإشراف أ.د.عبد المنعم عاشور ) رائد المجال الطبى فى علوم الإعمار ، والذى كان يتوقع أننى قد أكون رائدة العلاج الوظيفى المنتظرة فى الوطن العربى ، وبدأ يعدنى لذلك و توالت المؤتمرات الدولية والمحلية التى تقام من أجل الكبار وكلها برؤية العلوم الطبية ، وهو ما يثري رؤية المعالج الوظيفي.

     وقد أثار ذلك حفيظة البعض وتم إخراجى من المجال  ليتقلص التخصص وتبرز خبرات لبنانية بعد ذلك فى المجال ويتوسع التخصص فى العالم العربى على مراحل ، ونظل نحن هنا فى مصر  تحت رؤية قاصرة أتت على المجال وجعلته كما يقول الفلسطينيون( على أد حطة إيدك). فالمجال علمياً لصيق بالعلاج الطبيعى ، عكس المدخل التشكيلى الذى تم فرضه على الرؤية المصرية و الذى يطوف حول المفاهيم النفسية والاجتماعية ، وهو بذلك لا يتعدى علاجاً بالفن مقنناً بأساليب فنية تطبيقية متنوعة تعتمد على القياسات والتقييم النفسى دون النظر للبعد البيولوجى والذى يعكس تحسن وظيفة الاعضاء للمسن .

   وقد بدأت قراءة جديدة فى التعامل مع الكبار فور خروجى من مجال العلاج الوظيفى للمسنين ، من خلال تعاملى مع الجانب الإنسانى فى تجربتهم  . تفرغت للموروث التقليدى والفنون الشعبية ، وساعدنى زوجى الذى زاملنى محبة فى تشجيعى وقمنا بدراستى الماجستير ثم أنهيت الدكتوراه فى فلسفة الفنون .

     وفى هذا الكتاب أحاول فتح قناة اتصال بين مجالين في العلوم الإنسانية أحببتهم وأرى أهمية فى التواصل بين معارفهم سواء لأهمية ستعود على المجتمع أو لتلك العلوم ، فعلوم الموروث المرتبطة بإرث الشعوب وتقاليدها  تحتاج إلى توثيق وتحليل و تنمية في إطار ممنهج  .وعلوم الكبار تحتاج لإعادة اكتشاف لمواهب المسن ليدفع بدوره للأمام. وفى هذه الرؤية المشتركة بين علوم الإعمار وعلوم  الموروث الشعبى ندعم مصادر الجمع الميدانى من الموروث التقليدى لكبار السن ، و لتخرج لنا زهور ورياحين تحمل لنا صورة تراثية متكاملة لتساعدنا على قراءة الحاضر والتخطيط للمستقبل بنظرة ناقدة من رؤية وخبرة الكبار الحاملة للصدق وخلاصة الخبرة الإنسانية ، والتى تتجه بقدرات المسن للبناء والتنمية كشريك إيجابى فى الحياة يسعى _ دائما_ً كداعم رئيسى فى العطاء.

 

 

د. إيمان مهران

المعادى. القاهرة

 

المصدر: كتاب كبار السن والموروث الشعبى، د. إيمان مهران، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة ، 2012 .
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1462 مشاهدة

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

65,764

د.إيمان مهران

imanmahran
فنانة تشكيلية وكاتبة »