إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) فاطر.رقم السورة 35
لكي ندرك ونفهم جيدا معنى هذه الآية الكريمة، لابد لنا أن نعيش الآيات التى سبقتها، حتى ندرك كيف تكون تجارتنا مع الله ناجحة ولا تبور.. قال الله سبحانه وتعالى في صدر الآية ما يأتي:
(19) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (20) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (21) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (22) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
هل تعيشون معي هذا التقسيم العجيب؟ هل ترون معي الفارق الكبير بين كل من :
<!--الأعمى والبصير.. وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ .
<!--الظلمات والنور .. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّور
<!--الظل والحرور...{ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } ليس حرا واحدا ولكن حرورا كثيرة... حر الفكرة ، وحر المشاعر، وحر الظلم، وحرور كثيرة لا يعلمها إلا الله.
<!--الأموات والأحياء...{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } وهذه هي الفاصلة والقاضية... هنا ينتهي المطاف ويموت القلب بسبب إعراضه عن ربه.
هيا بنا نستعرض معا المراحل التى يمر بها الإنسان عندما تبدأ مشاكله مع الحياة..وعندما يبدأ المولى عز وجل بإرسال الإنذارات له لعله يرجع إليه:
المرحلة الأولى: عندما يعرض عن آيات ربه.. ويتعامى عنها، سواء كان يقصد ذلك أو لايقصد، عندما يعرض الإنسان عن ذكر ربه وولايته سبحانه، يفقد قدرته تدريجيا على أن يبصر ويدرك حقائق الأمور...هنا لا يرى إلا أشياء معينة، تكون هي سبب في شقاءه، أما الحقائق الإدراكية والتى هي سبب راحة الإنسان وسعادته، لا يستطيع أن يراها.
.كانت الصلاة قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ...كان يجد فيها سعادته، ويستمد منها طاقته، ويستتعيد بها قدرته على مواصلة تبليغ رسالته، ويتصل بها بربه عز وجل...وكذلك يجب أن تكون بالنسبة لنا.
أجمع علماء الدين كلهم أجمعين أن الصلاة هي مصدر سعادتهم وراحتهم، وهي وسيلة إتصالهم بخالقهم.... كما أجمع كل علماء الغرب، في مختلف المجالات، الطبية والنفسية والإجتماعية، على أن التأمل والتدبر والتفكر في أمور الدنيا{ هذا ما نسميه عندنا بالخشوع } هو العلاج الوحيد للإكتئاب والحزن والهم والغم.... وهو الوسيلة المثلى ليعود الإنسان إلى كامل قواه العقلية والبدنية.
عندي لكم آياة في منتهى العظمة، وفي منتهى القوة، وفي منتهى الخطو رة:
{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) سورة الزخرف }، لن أكمل الآية لأنها تهز الجبال هزا من شدتها، { يعش أي يتعامى } يرى الشيئ وكأنه لا يراه، ويسمع الكلمة وكأنه لم يسمعها...وهذا في حد ذاته أول إنذار للمسلم الموحد بالله، عندما يبدأ بفقدان قدرته على رؤية الحقائق، هذا معناه أنه إبتعد كثيرا عن الله وأن الله سبحانه وتعالى ينذره بعدم رؤية ما فيه أمنه وآمانه وسعادته.فتبدأ من هنا مشاكله مع الحياة. والحل الوحيد هو التوبة والإستغفار والرجوع إلى الله.
ولكن قبل أن نترك هذه الآية يجب علينا أن نتذكر عمل الشيطان، إنه يدعونا دائما إلى الشقاء والإعراض عن الله، وهذا ماحذرنا منه الله سبحانه وتعالى بقوله:{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) }.
المرحلة الثانية : { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } عندما تجرفنا تيارات الحياة، وننسى معها ذكر الله، يبدأ الظلام يتسرب إلى عقولنا أولا.. فلا ندرك مواطن النور.. ثم يتوغل الظلام إلى مشاعرنا.. فنفقد إحساسنا بالأمن والسعادة ، ليحل محلهما الخوف والقلق والضيق... ضرب لنا المولى عز وجل مثلا في منتهى الروعة ، ارجو من الله أن نعيشه ونتدبره بكل ما بنا من قوة على الفهم والتدبر:..
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) }، أول شيئ يهز وجداننا، أن الله يحي القلوب بعد موتها، والقلب الذي يحيى بذكر الله والإخلاص له وحده، يجعل له الله سبحانه وتعالى نورا يمشي به في الناس{ أفهم أنا من هذه الآية أن هذا الذي جعل له الله نورا يمشي به في داخل الناس، بمعنى أنه عندما يرى شخصا فإنه يراه على حقيقته، إن كان تقيا أو غير ذلك، وهذه هي حالة الصحابة رضوان الله عليهم } هذا والله أعلى وأعلم.
المرحلة الثالثة :{ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } وعندما يتسلل الظلام إلى نفوسنا، فإن كل شيئ يؤلمنا، كالذي يتألم من حرارة الشمس، فهناك فرق واضح بين الذي يجلس في الظل وينعم بكل ما أنعم الله به عليه، وبين الذي يعمل تحت حرارة الشمس ولهيبها، هذه هي المرحلة قبل الأخيرة، أراها وكأنها مرحلة الإحتضار، مرحلة ماقبل الموت، والعياذ بالله...فهذا هو الإنذار الثالث وقبل الأخير... وهو أشد وأقوى مما سبق من إنذارات.
المرحلة الرابعة والأخيرة : عندما يمر الإنسان بكل تلك المراحل السابقة ولا يرجع إلى الله، الذي من رحمته سبحانه وتعالى أن ساق إليه كل ما سبق من إنذارات، فالإنذار الثاني كان أقوى من الأول، والإنذار الثالث كان أقوى من الثاني، والرابع بطبيعة الحال أقوى من الثالث..
ومع ذلك فلم يرتجع، ويعود إلى ربه متضرعا متذللا نادما على بعده وعصيانه، هنا يقول المولى عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، دعك من هؤلاء فقد ماتت قلوبهم{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ }لقد اصبحوا في عداد الأموات رغم أنهم يتحركون ويأكلون ويتكلمون ويزينون للآخرين سوء أعمالهم...
الآن وبعد أن عرفنا كل ما سبق من تلك المفارقات، فعرفنا الفرق بين الأعمى والبصير،و أدركنا تماما أن كل ما يصيبنا مما يعكر صفو حياتنا إنما هي إنذارات من الله ورسائل لنا لنعود إليه، ولينبهنا أننا قد حدنا عن الطريق...بعد أن أدركنا كل ذلك فتعالوا بنا إلى صدر الآية الكريمة التى نحن بصددها، والتى يسعى إليها كل عاقل في الحياة،ليفوز بتجارة مع الله لن تبور:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) فاطر.رقم السورة 35 }.
هنا عندنا ثلاثة أسباب نرجو بها تجارة مع الله لا تبور.. وهي :
<!--{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } تلاوة كتاب الله وتدبره، كما أوضح ذلك فضيلة الدكتور محمد هدايا جازاه الله كل خير، فليس من الحكمة أن نقرأ القرآن ولا نتدبره، ولكن لابد لنا من أن نعيش مع الكلمات القرآنية ونستشعر في قلوبنا المعاني المقصودة منها لكي نستطيع أن نطبقها في حياتنا العملية... فالذي يفهم الأمر يسهل عليه تطبيقه، لأنه سيقتنع به بعقله أولا، ثم يؤمن به بقلبه ثانيا.
<!--{ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ }. ولكي نفهم المقصود هنا سأسوق لحضراتكم بعض الآيات التى ذكرت عن الصلاة..{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105 }يونس. { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) } الروم{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) }الروم. يعني عندما نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى لا يصح أن نكون مع غيره بأفكارنا ومشاعرنا وخيالاتنا المريضة.
<!--{ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ }.. وعملية الإنفاق هذه عملية صعبة شوية، وسأسوق لحضراتكم آية صغيرة لتوضح لنا الغاية من الإنفاق: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) }التغابن.
الآن لكي تكتمل عندنا الصورة وتتضح معالمها جيدا بالنسبة لموضوع التجارة مع الله، هناك آية في سورة الصف، والسورة رقمها 61 في كتاب الله، أما سورة فاطر التى نحن بصددها الآن فهي رقم 35، مما يجعلنى أفكر أن الآية الأولى في سورة فاطر كانت لمن سبقونا بالإيمان من المسلمين الأوائل،
أما هذه التالية فهي لنا نحن أبناء هذا العصر، الذي أصبح كل شيئ فيه مشوش، ومتداخل، وقد تطاولت وسائل الإعلام الغير هادف فلوثت الأفكار ، ودفنت فطرة الإنسان الطاهرة الذكية تحت أسماء ومسميات وإنتقادات وتزوير للحقائق..لهذا جاء نداء ربنا لنا في صدر الآية التالية بقوله سبحانه هل أدلكم على تجارة؟ نعم ياربنا وكلنا آذان صاغية وقلوب مخبتة فدلنا وأنقذنا من الضلال والظلام الذي هجم علينا من كل جانب:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) الصف.رقم السورة 61
أصول التجارة مع الله هي :
{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
أن تجدد إيمانك... وربما يسأل سائل كيف، أقول بأن تجعل كل اعمالك في سبيل الله خالصة، وأن تؤمن برسول الله فكلما قرأت حديث عنه صل اللهم عليه وسلم، تقرأه وكأنك تسمعه منه، أن تستحضر رسول الله صل الله عليه وسلم في قلبك ، ثم بعد ذلك تجاهد نفسك فتعصمها من كل ما يغضب الله، وتزكيها وتقربها من خالقها وتطهرها بتلاوة كتاب الله وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله سرا وعلانية، هذا والله أعلى وأعلم...
ما سبق ليس إلا من خواطري فالصواب فيه من الله العلي العظيم وأشكر له فضله سبحانه، والخطأ فيه فمنى وحدي وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
اللهم أجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعلمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا إنك على كل شيئ قدير .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والصلاة والسلام على اشرف الخلق كلهم أجمعين المبعوث بالحق هدى ورحمة للعالمين، والحمد لله رب العالمين .
ساحة النقاش