د/ هيام عباس الحومي

أستاذ العقيدة الإسلامية المشارك

بجامعة القصيم

الإيجابية الإيمانية في عقيدة الولاء والبراء

إن عقيدة والولاء والبراء في مجتمعنا المعاصر أصبحت عقيدة نظرية، يتناولها كثير من الكتاب بشكل نظري بعيد عن التطبيق، ولا يربطونها بالواقع المعاش، الذي يخالف علميا وعمليا هذه العقيدة. فما يحدث الآن في الواقع المعاصر أن المسلمين في كافة الاتجاهات العلمية يعيشون عالة على ابتكارات ومخترعات غير المسلمين، في الطب والصناعة والإعلام والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والأسلحة المطورة، وكل علومهم التجريبية، حتى اتخذوا علماءهم قادة يدربونهم على استخدام تلك التكنولوجيا، وتحديثاتها المستمرة، وصار أبناء المسلمين تلاميذ لهم يوالونهم ويجلونهم ويعجبون بهم وبعلومهم وتقدمهم وخبراتهم العلمية العالية، ومنهم عبدة المسيح وعبدة الطبيعة، والملاحدة، واليهود، وغيرهم من غير الموحدين. 

الآيات كثيرة في القرآن الكريم كثيرة جاءت تقرر أصلا قرآنيا وتضع دستور الولاء داخل المجتمع الإسلامي، دستورًا يحدد لمن يكون الولاء ويبين حدوده عندما يحتدم الصراع أو تُشن الحرب. إنها رؤية صرح بها القرآن الكريم "قاطعة"؛ هي أن المؤمن لا يوالي إلا من آمن بالله ورسوله ، ومع ذلك فقد كانت تلك الرؤية مضبوطة بضوابط لا تخرجها إلى حد العداوة أو البغضاء بسبب اختلاف العقيدة، فالنهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة، وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تتخذ من تميزها الديني لواء تستجمع به قوى المناوئة للمسلمين والمحادة لله ورسوله، ولذلك تكررت في النصوص القرآنية عبارة ]مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ( للدلالة على أن الموالاة المنهي عنها هي الموالاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته، من حيث هم أعداء لهذا الدين وهذه العقيدة. والمودة المنهي عنها هي مودة المحادين لله ورسوله، لا مودة مجرد المخالفين ولو كانوا سلما للمسلمين. فقد ربط القرآن الكريم النهي عنها في سورة المجادلة بالمحادة لله والرسول. وفي سورة الممتحنة بإخراجهم الرسول والمؤمنين من ديارهم بغير حق ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ (<!--.إن غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة، وصلته فريضة دينية، وذلك شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال أبناء المسلم وجدته وجده، وكلهم من الأرحام الذين صلتهم واجبة على المسلم، ومودتهم طاعة، وقطيعتهم معصية يأثم فاعلها.

ولقد شهد المجتمع الإسلامي في حياة الرسول r في المدينة تعايشا بين طوائف مختلفة من أصحاب الاعتقادات منها الصحيح ومنها الفاسد، فقد كان في المدينة المسلمون والصابئة واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى. ولم يقلد المسلمون غيرهم من أهل العقائد المخالفة، مع أنهم كانوا يعيشون في مجتمع واحد تشمله ظروف واحدة، وقد تمتع الجميع بحرية الاعتقاد التي كفلها لهم الإسلام، وتعايشوا في تواد وتراحم، مجتمع تسوده المحبة والرحمة. تلك إيجابية من نوع آخر، إيجابية التعايش السلمي مع الحفاظ على عقيدة التوحيد سليمة نقية.

كيف وازن المسلمون بين صفاء عقيدتهم التوحيدية وتفاعلهم مع مجتمع تعيش فيه طوائف عقدية غير توحيدية، وكانت لهم آثارهم الإيمانية التي ظهرت في تفاعلهم مع مجتمعهم وإيجابيتهم في سلوكهم. ولم يتأثروا بهم ولم يتبعوهم أو يقلدوهم كما يفعل بعض المسلمين الآن؟

وكيف نوازن نحن اليوم بين تعاملاتنا المختلفة تجاريا وثقافيا وفكريا مع غير المسلمين الذين فرضت علينا معطيات العصر التعامل معهم في شتى مجالات الحياة، ونتجاوب في تعاملاتنا، ونسعى في الأرض لإعمارها، دون أن نفقد هويتنا الإسلامية، أو نجور على عقيدة البراء من الكفار، وكيف نعاملهم ولا نواليهم الولاء الذي يفقدنا ولاءنا للإسلام؟

وتلك إشكالية يقع فيها كثير من المسلمين اليوم، حين يولعون بتقدم غير المسلمين، فيتعلقون بهم، وتبهرهم دنياهم وحياتهم وزخرف الدنيا، وما وصلوا إليه من تقدم، فيتخذونهم قدوة في تسريحات الشعر وتصميم الثياب وحمل بعض الشارات والشعارات، وتعليق بعض التمائم في أعناقهم ومعاصمهم وفي حقائبهم وجولاتهم. وغير ذلك من صور الشرك المختلفة دون فهم منهم. وربما قلدوهم في بعض سلوكياتهم الغير إسلامية، إعجابا بهم وبسلوكياتهم.

وما ذلك الإعجاب والانبهار بحضارتهم وتقليد عاداتهم إلا موالاة لهم؛ فالموالاة غالبا ما تبدأ بالمودة والرضا، وعلى الرغم من أنه عملٌ قلبي لا يطلع عليه أحد إلا الله، فإنه مرفوض في الإسلام، لقوله تعالى: ) لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ(<!--. قال ابن تيمية مفسرا : "فأخبر أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي مودته، كما ينفي أحد الضدين الآخر. فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب"<!--.

 وفي قوله تعالى: ) تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ(<!-- " ذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف [لو] ، التي تقتضي مع الشرط انتقاء المشروط، فقال: ) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء(، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه"<!--.

هذا فيما يتعلق بالولاء القلبي والتعلق النفسي بغير المسلمين من أصحاب العقائد المخالفة، في السلوكيات وطرق المعيشة وغيرها من المظاهر الدنيوية، فماذا عن ولايتهم باستخدام تقنياتهم التي يصدرونها لنا، ومخترعاتهم التي غزت حياتنا، وعلومهم التي أصبحنا مولعين بتعلمها، وعلمائهم الذين نرسل المبتعثين من أبناء المسلمين وبناتهم يتتلمذون على أيديهم، ويعجبون بهم وبعلومهم، ويتعلمونها لنقلها إلى عالمنا الإسلامي بكل تفاصيلها حتى ما يخالف منها الدين ، ألا تعد هذه كلها مظاهر ولاية حقيقة لهم ؟

ومن ثم فإن دائرة الولاء هي المحبة القلبية، والبراء تعني التبرؤ من محبة غير المسلم وتقليده، تتعلق باتخاذهم قدوة في العبادة والتوحيد، حتى فيما يخص الأمور العلمية والطبية والحياتية، ووسائل التكنولوجيا الحديثة، على المسلم أن يتبرأ مما يعارض أمور الإيمان كلها.

والعمل دائم مترجم عما انعقد عليه القلب، فتظهر الموالاة في السلوك، وما أسر عليه قلبه، يفضحه فعله، وهنا تكمن الخطورة، ويُخشى على العقيدة من التحول التدريجي، لهذا قال تعالى لهؤلاء الذين اتخذوا غير المسلمين أولياء:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( <!--.

    إنه واحد من وجوه الردة التي تتجلى في القول والفعل والاعتقاد؛ إنه الولاء لليهود والنصارى، ذلك الولاء الذي حرَّمته الآية على المؤمنين، وحكمت على من والاهم بأنه قد صار منهم.  وإذا صار منهم فقد تحول عن الولاء القلبي إلى الولاء الفعلي، فيصير مصيرهم واحد، وإذا صار المسلم بالولاء لليهود والنصارى واحداً منهم؛ فقد خرج من دين الله، وأصبح لا يمت له بصلة؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾<!--. في تلك الآيات وغيرها يخبر الله تعالى أن من يتولاهم يكون منهم، وفيها تأكيد على أن ولاية الكافرين تعد خروجا من الإيمان.

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!-- - سورة المائدة، الآية: 51.

<!-- - سورة آل عمران، الآية: 28.

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!--- سورة المجادلة، الآية: 22.

<!--- ابن تيمية، الإيمان، 1 /17.

<!--- سورة المائدة: 80، 81

<!--- ابن تيمية، الإيمان، 1 / 18.

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!-- - سورة الممتحنة، الآية: 1.

المصدر: د/ هيام عباس الحومي أستاذ العقيدة الإسلامية المساعد بجامعة القصيم
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 229 مشاهدة

الدكتورة هيام عباس الحومي

hayamabbas
موقع شخصي يتضمن مقالات وأبحاثًا علمية في مجال الدراسات الإسلامية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

34,364