<!--<!--
شهد سوق الإنتاج الاْكاديمى بروز بعض الدراسات المتميزة حول المجتمع المدني ، على المستويات النظرية والمقارنة ، والتاريخية والسوسيو- سياسية ، أو السوسيو- ثقافية ، وعلى الخرائط الأولية للجمعيات الأهلية وأنماطها العديدة ، ومجالات أنشطتها المتعددة ، وخاصة الرعائية ، أو حول الجمعيات الإسلامية ، أو المسيحية ، ثم ركزت الدراسات بعدئذ على المنظمات الدفاعية والتنموية ... الخ.
وقد تزايدت أهمية هذا الحقل من الدراسات الاجتماعية في ظل الدور الذي باتت تلعبه منظمات القطاع الثالث في أداء بعض المهام التي كانت تناط قبلا بالحكومات وسياساتها الاجتماعية التدخلية من ناحية ، وبعد بروز دور المنظمات الدفاعية في مجال تحريك وتطوير الاهتمام بحالة حقوق الإنسان ، ومدى احترامها على المستويين الرسمي أو اللارسمى ، وايلاء عناية واهتمام بإنتاج اْدابيات حقوق الإنسان بأجيالها المتعددة ونشرها بحثا وترجمة عن اللغات الأجنبية ولاسيما الانجليزية من ناحية ثانية . ولاشك في أهمية ودور الاهتمام العولمى بالمنظمات الطوعية ، وعمليات تشكيل وإنماء المجتمع المدني على مستوى جنوب العالم ، ومصر جزءا منه ، وفى دعم منظماته ، وفاعليته ، ولاسيما في المجالات الدفاعية والإنمائية على نحو بات الدعم والتأييد من المجتمع المدني العولمى يمثل نقطة تحول هامة في التأثير على بعض عمليات التغير الاجتماعي والسياسي والدولتى في هذه البلدان .
فمع تراجع دور الدولة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، أصبحت عدة مؤسسات وهيئات دولية تساعد المنظمات غير الحكومية لتقوم بأنشطة تكمل دور الدولة ، مما شجع على تزايد المبادرات الجماعية لتكوين تنظيمات وجمعيات ذات أهداف متنوعة ، وعرفت البلاد العربية ودول العالم الثالث عموما في العقود الأخيرة حركة ملحوظة في تقوية وتوسيع النسيج الجمعوى الذي يستقطب الأفراد للاْنخراط في أعمال وأنشطة جماعية منظمة ، تقوم في الأساس على التطوع في مجالات اقتصادية واجتماعية ودينية وثقافية وبيئية ورياضية ... الخ لتحقيق أهداف مجتمعية ، باْستقلال عن الدولة ، وفى إطار القوانين المتعلقة بالجمعيات والهيئات المدنية ، وتعرف هذه الجمعيات في بعض الدول العربية بالمجتمع الاْهلى ، بينما تعرف لدى المؤسسات الدولية ، وفى الكتابات الغربية الحديثة بالمجتمع المدني ، أو المنظمات غير الحكومية .
غير أن المبادرات التطوعية للأفراد والجماعات المنظمة ، والتي تقدم خدمات مجتمعية ليست ظاهرة حديثة ، ولم ينحصر وجودها في منطقة جغرافية محددة ، مما يجعل التجارب في هذا المجال متعددة ومتباينة ، من حيث الأنظمة التي تخضع لها ، وأساليب عملها ، ومستويات تطورها ، وأهدافها ، والعلاقات التي تربطها بالدولة ومكونات المجتمع السياسي ، وبالتالي فان تعميم إطلاق مصطلح المجتمع المدني على الهيئات المدنية ، بمختلف أشكالها وأنظمتها ومستوياتها ، وبقطع النظر عن الظروف التي نشأت فيها ، والبيئة المحيطة بها ، يصطدم بعدة صعوبات ، لدرجة أن هناك من اْعتبر أن المجتمع المدني ليس واقعا بديهيا قابلا للتعريف ، ولكنه قابل للدراسة والتفسير والتحليل ، ولا يمكن معرفته بصفة مباشرة ، وإنما يمكن إخضاعه للتأويل مادام يحمل في اْعطافه سيرورة اجتماعية ، ونمطا من الروابط يستحفان الوقائع والظواهر التي تؤول على أنها تدل عليه .
انه بالرغم من عودة جذور مفهوم المجتمع المدني في الفكر السياسي الغربي إلى بدايات القرن السابع عشر ، إلا اْنه يحظى الآن باهتمام لم يسبق له مثيل ، وقد بداْ هذا الاْهتمام خلال العقديين الماضيين ، إذ استخدم باعتباره أداة تحليلية لتفسير سقوط المعسكر الشرقي في أوروبا ، وانهيار بعض النظم السلطوية في أمريكا اللاتينية ، وفى هذا الإطار تم التعامل معه كأحد العناصر الأساسية في المشروع الاصلاحى الليبرالي ، والذي اْعتبر المجتمع المدني جزءا أساسيا في برنامج الإصلاح لابد أن وتركز عليه أية دولة تسعى إلى تنفيذ سياسات إصلاح حقيقية .
ولقد أصبح من المألوف ، للتدليل على قيمة مؤسسات مدنية معينة ، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي ، الاستناد على عدد المنظمات الأهلية مثلا ، واتجاهها للنمو في سياق اجتماعي وسياسي بعينه . والعدد ، أو حجم القطاع ، وان كان له أهمية _ ضمن مجموعة أخرى من المؤشرات _ لا يشير إلى انعكاسات فعالية هذا العدد من المنظمات على المجتمع ، ولا يحمل معنى أن المنظمات تتفاوت فيما بينها في فعاليتها ، وان البعض منها هو مجرد " رقم " في السجلات الرسمية في الجهة الإدارية المعنية .
أن الاستناد على اتجاه الحجم للتصاعد ، وارتفاع متوسطات النمو في مؤسسات بعينها للمجتمع المدني ، من المؤكد اْنه مؤشر لزيادة المبادرات التطوعية " حسنة النوايا " ، وهو مؤشر للميل إلى المشاركة ، وهو أيضا مؤشر لاتجاه العلاقة بين المجتمع المدني والدولة إلى مستوى من " الثقة " و "التسامح " ، لم يكن قائما من قبل في مجتمعات عربية افتقدت لفترات طويلة الثقة بين المجتمع المدني والدولة.
ومن ناحية أخرى ، فان تنوع أنشطة ومجالات اهتمام المنظمات الأهلية ، بقدر ما تشكل إشكالية في القياس بقدر ما تمثل اْحد مصادر أهمية محاولة بناء مقياس . فالنشاطات تتعدد وتتنوع في المنطقة العربية ، بحيث تعكس جميعها " عدة أجيال " ، تتعايش معا في سياق ثقافي واقتصادي وسياسي واحد ، فهناك جيل المنظمات الخيرية والتي تشكل نسبة عالية في بعض الدول العربية تتراوح ما بين 25% و 50% من المنظمات الأهلية ، والى جانبها منظمات رعائية وخدمية ( تشكل 75% في حالة مصر مثلا ) ، وهناك جيل من المنظمات يعلن عن نفسه ويسجل نفسه رسميا باعتباره منظمات تنموية ( حوالي 25% في حالة مصر ) ، ثم جيل حديث من المنظمات الحقوقية والدفاعية يتصدى لقضايا الحقوق والحريات .
إن تعايش هذه المنظمات معا ، في نسيج اجتماعي واحد ، يطرح آثارا وانعكاسات مختلفة على قطاعات المجتمع التي يتوجه إليها ، وتتفاوت هذه الانعكاسات من ناحية ككل ، كما تتفاوت المنظمات في فاعليتها ، والى تنتمي لنفس الجيل أو نفس مجال النشاط ، وهو ما يجعل الاهتمام بالانعكاسات وبالفاعلية ضرورة للاقتراب من المشهد . إن اختبار فاعلية مؤسسات المجتمع المدني عامة ، والمنظمات الأهلية خاصة ، له علاقة مباشرة بصحة وقوة المجتمع المدني . فإذا كان هناك تأكيد على قيمة مطلب عالمي واقليمى ينصب على توفير مجتمع مدني قوى أو صحي ، فانه من المهم لكي تتحقق القوة والصحة ، أو بعبارة أخرى الحيوية ، أن نبذل جهدا منظما لتقييم الواقع من خلال نشاط بحثي منظم ، ينصرف إلى اختبار الفاعلية والوقوف على مكامن القوة ، أو مكامن الضعف في هذا القطاع ، وهو أيضا أمر من شاْنه أن يفسر قوة أو ضعف القطاع _ بعبارة أخرى مدى فاعليته _ في إطار سياسي واقتصادي واجتماعي معين في تحقيق التنمية المتواصلة أو المستدامة للمجتمع . وهو أمر يوفر أداة لصانع السياسات وصانع القرار ، لتطوير المجتمع المدني ، إذا كان بالفعل راغبا في ذلك وتتوافر لديه القناعة بقيمة مشاركة وشراكة المجتمع المدني في تنمية المجتمع المتواصلة أو المستدامة .
ساحة النقاش