<!--
<!--<!--
يعتبر القانون من أقوى وسائل الضبط الاجتماعي ، لأنه ضرورة اجتماعية لازمة لحياة الجماعة ، وتدعيم واستقرار النظم الاجتماعية في المجتمع .
فبدون قانون لا يمكن أن نتصور وجود نظام يحكم سلوك الأفراد ، ويحدد علاقاتهم بعضهم بالبعض الآخر ، حسب المصطلحات والنظم الموضوعة ، لان نمط العلاقات المنظمة يعتبر شرطا أساسيا للحياة الاجتماعية في المجتمع فهو ملزم لجميع الأفراد على السواء ، ولا يسمح بالخروج عن هذه النصوص التي يتم تشريعها .
لان الدولة تسن القوانين والتشريعات ، وتسهر على تنفيذها وتعاقب كل من يخرج عليها بعقوبات محددة .
فالقانون يعبر عن الرقابة المنظمة للجماعة ، وهو يتكون من عدة قواعد تنظم العلاقة بين الأفراد ، وهذه القواعد تلزم الأفراد ، ومن يخرج عليها يلاقى عقابه من الدولة . وهذا يبين الفرق الجوهري بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية ، إذ أن الخروج على القاعدة الأخيرة لا يعرض الخارج للعقاب من جانب الجماعة فحسب ، بل يجعله محل سخرية واحتقار من جانب من يعرف الشخص الخارج ، ومن لا يعرفه ، كما أن عقاب الخارج على القانون محددا تحديدا دقيقا ، وذلك بخلاف الخروج على القواعد الأخلاقية .
وعلى الرغم من أن المجتمع يستخدم وسائل الضبط الاجتماعي بهدف ضمان امتثال أعضائه للمعايير الاجتماعية ، إلا أن هناك بعض علماء الاجتماع الذين يرون أن الجهد الذي تبذله هيئات الضبط الاجتماعي – مثل الشرطة والمحاكم – يعتبر من العوامل التي تؤدى إلى الانحراف . فالفعل لا يعتبر في حد ذاته سلوكا انحرافيا ، وإنما يوصم الفعل بأنه سلوك منحرف عندما تتولى هيئات الضبط الاجتماعي وصف وتصنيف هذا الفعل على اعتبار انه نمط من السلوك المنحرف . اى أن الانحراف ليس خاصية للفعل الذي يقوم به الشخص ، وإنما هو نتيجة لرد فعل المجتمع بالنسبة لفعله ، وقيام هيئات الضبط الاجتماعي بتطبيق القواعد والجزاءات على الشخص الذي يقوم بهذا الفعل الذي يوصم بالانحراف . ومن ثم فان محاولات المجتمع لضبط الانحراف تؤدى إلى زيادة أنماط السلوك المنحرف .
وهناك الكثير من الإجراءات القانونية التي تؤدى وتسهل وصم الجاني بالجريمة والجنوح ، والتي تؤكد عليها بعض التشريعات في قوانينها العقابية حيث تشمل بالإضافة إلى العقوبات الأصلية على بعض العقوبات الأخرى التبعية أو التكميلية التي تحد من حرية المفرج عنهم في التنقل والعمل والتزاور والتراسل وغير ذلك من مظاهر الحياة الخاصة ، نزولا على بعض الاعتبارات الخاصة التي تحتم ضرورة اتخاذها ضدهم . ومن أمثلة تلك العقوبات عقوبة ( الوضع تحت مراقبة البوليس ) ، وهى إجراء يقصد به تقييد حرية المفرج عنهم لمراقبة سلوكهم بهدف الحيلولة بينهم وبين العوامل التي يمكن أن تقودهم إلى ارتكاب جرائم أخرى ، وذلك إما بحرمانهم من ارتياد أماكن معينة ، وإما بتقييدهم حديثا وهم في محل إقامتهم بقيود معينة . ويعد التزامهم بتنفيذ هذه القيود دليلا على قابليتهم للإصلاح واستجابتهم للجهود المبذولة لتحقيق هذه الغاية .
وتندرج عقوبة الوضع تحت مراقبة البوليس تحت باب العقوبات الماسة بالحرية ، ولكنها لا تسلب المحكوم عليه حريته تماما مثل عقوبة الأشغال الشاقة أو السجن أو الحبس . فهي تقيد فقط من حريته ، فالمحكوم عليه بالوضع تحت مراقبة البوليس يلتزم بعدة قيود يقصد منها إتاحة الفرصة لسلطات البوليس لمراقبة سلوكه وإمكانية الحيلولة بينه وبين الظروف التي قد تغريه على ارتكاب الجريمة . وهذا هو الهدف الاساسى لتلك العقوبة ، كما تستند هذه العقوبة أيضا إلى حق الدولة في حماية المجتمع ضد المشتبه فيهم أو المفرج عنهم حديثا للتأكد من زوال خطورتهم أو للحد منها أو التدخل لمواجهتها بأسلوب أكثر فاعلية إذا اقتضى الأمر ذلك .
على إن الوضع تحت مراقبة البوليس كعقوبة أو حتى ولو كانت مجرد تدبير وقائي فإنها لابد وان تتم في إطار من الشرعية القانونية التي تنظمها ، وتبين أحوالها ، وتحدد ضوابطها التي تحول دون إمكان التعسف في ممارستها ، ومن ثم لا يمكن قبولها كإجراء أدارى أو مجرد تصرف فردى يتم اتخاذه وفقا لتقدير الأمر بها ، وخارج نطاق الحالات المحددة قانونا لها . وبالتالي فإنها لا تكون تدبيرا وقائيا إلا إذا رؤى إخضاع المفرج عنهم إفراجا شرطيا لها عملا بنص المادة (57) مثلا من قانون السجون المصري الصادر برقم (396/1956م) ، والذي يجيز فرض اشتراطات معينة على المفرج عنه من حيث إقامته وطريقه تعيشه وضمان حسن سيره ، وبالرغم من أن هذا النص لا يوضح صراحة تحت مراقبة البوليس ، ولكنه يسمح إذا رؤى فرضها على المفرج عنه .
وإذا كان الغرض من نظام الوضع تحت مراقبة البوليس كما تقضى به أحكام القانون رقم (99/1945م) هو الوقاية من الجريمة عن طريق تقييد حرية المفرج عنه في الإقامة والتنقل وإلزامه بواجبات معينة تجعله تحت رقابة البوليس بصفة دائمة ، فان ثمار هذا الأسلوب مرهون بموقف الأجهزة الأمنية تجاه الأفراد المفرج عنهم من خلال عمليات المراقبة والأسلوب المتبع فيها.
وبالتالي فانه بمجرد أن يتم وصم الشخص رسميا بالانحراف ، فانه يصبح محل اهتمام هؤلاء الذين يعملون في مهن ترتبط أو تتعامل مع الانحراف – مثل الشرطة أو البوليس – الذين يراقبون الأفراد لحظة أن يصبحوا محل اهتمام هيئاتهم . وبتعبير آخر فان الأشخاص الذين تم وصمهم بالانحراف يصبحون عملاء (زبائن) نظام العدالة الجنائية ، وكما في اى عمل تجارى آخر فان النظام يتميز بالمراقبة الشديدة لعملائه .
إن الأجهزة الأمنية ذات العلاقة تقوم بدور هام واساسى في إلصاق صفة الوصم للمفرج عنهم ، فغالبا ما تقوم هذه الأجهزة ممثلة في الهيئات التشريعية والتنفيذية برسم صورة اجتماعية معلنة عن هؤلاء الأفراد وذلك من خلال أساليب المتابعة الأمنية التي تقوم بها هذه الأجهزة والتي تتمثل في القيام بإجراءات مختلفة ومتباينة لا تأخذ في اعتبارها فكرة وضع هؤلاء المفرج عنهم في دائرة القيل والقال ، أو وضعهم في إطار اجتماعي لا يتوافق مع الإطار الاجتماعي العام ، أو أن مثل هذه الأساليب العلنية تدفع بالكثير من أفراد المجتمع الأسوياء إلى ممارسة أنماط سلوكية غير إنسانية تجاه هؤلاء المفرج عنهم تضعهم في مواقف اجتماعية غير متوازنة وغير طبيعية تظهر في عمليات الصد والرفض الاجتماعي والخوف من التعامل معهم .
ولا تتوقف أجهزة الأمن عند مجرد المراقبة الأمنية للأفراد المفرج عنهم ، ولكن غالبا ما يتجه رجال الشرطة إلى التحقيق مع من سبق لهم ارتكاب ما يماثل الجرم الذي يقوم المحققون بالتحقيق فيه ولم يجدوا دليلا ملموسا عن من قام به . وعادة ما تتخذ الأجهزة الأمنية في عملية سؤال واستجواب المفرج عنهم – في حالة وقوع أنماط إجرامية شبيهة بتلك الأنماط التي مارسوها من قبل في أعمالهم الإجرامية – أساليب صارمة قاسية مرتبطة بطرق مشروعة وغير مشروعة لمحاولة استجواب مثل هؤلاء الأفراد ، وذلك من اجل الوصول إلى الهدف والنتيجة . وتكون هذه الأساليب من خلال الاستدعاء المباشر وفى اى وقت من الليل أو النهار ودون اعتبار للظروف الاجتماعية والاقتصادية للمفرج عنهم ، مما يجعلهم غير متوازنين اجتماعيا ولا نفسيا وغير قادرين على الاستقرار الاجتماعي الكامل.
ولا شك في أن قيام الأجهزة الأمنية بمثل هذه الأنماط السلوكية مع هؤلاء المفرج عنهم يؤدى إلى إحداث ما يمكن تسميته (تجديد الإحساس) لدى أفراد المجتمع من الأسوياء بان هذا الشخص الذي يتم استدعاؤه بحسب الظروف الأمنية مازال في دائرة الإجرام ، أو في دائرة المتابعة ، بالرغم من انه قد يكون تعلم من تجربة الإدانة والحكم أن الجريمة لا تفيد ، واتجه إلى فكرة الاستقامة الاجتماعية ، إلا أن طريقة التعامل الامنى تؤدى إلى أن تظل الوصمة الخاصة به عالقة بأذهان الكثير من فئات المجتمع ومؤثرة في عملية التفاعل والتعامل معه ، وعاملا معوقا لحركته الاجتماعية وعائقا أمام رغبته في السواء .
إن العقوبات الصارمة المرتبطة بالمتابعة والمقاضاة مسالة تتعارض مع إعادة تكيف المنحرف ، كما أن الإجراءات العدوانية التي تتخذ نحو مخالفي القانون تؤدى إلى تدمير عملية الاتصال بينهم وبين المجتمع ، مما يخلق روح العداوة عند المنحرف .
إن نظام العقوبات الطاغية والصارمة ، هو نظام فاشل تماما ، وان فشله هذا لا يقتصر على عجزه عن ردع الانحراف فقط ، وإنما يمتد إلى مظهر آخر وهو انه يعمل باستمرار على الاحتفاظ بطبقة إجرامية ، وذلك لان المبالغة في تطبيق الجزاءات وعدم الاتساق في تنفيذها يثير الحقد والعداوة عند المجرم . فالاتجاه العدائي من جانب المجتمع يؤدى إلى مزيد من الجرائم ، وان عدم الاتساق في فرض العقوبات هو أهم ما يعرض الفرد لمسالك إجرامية أو لاحتراف الجرائم وخاصة من خلال إحساسه المتصاعد بالظلم .
ومن هنا يتضح دور السلطة في تسمية وتوصيف وإدراك الجريمة والانحراف من خلال وضع العديد من القواعد التي يجب الالتزام بها ، ويعتبر الخروج عنها (وصمة) في تاريخ القائم بها . وبالتالي فان عملية الوصم لا تحتاج لأكثر من جرم واحد يصبح بعده الفرد الموصوم من الصعب عليه أن يهرب من اهتمام الجمهور به ، ويصبح سلوكه بالتالي محل توصيف وإعادة وصم ، الأمر الذي يعرضه للكثير من ردود فعل المجتمع وبصوره قد تدفعه إلى الدفاع عن نفسه بمواجهات تؤدى إلى استمراره في الجريمة .
ولعل فكرة المتابعة الأمنية لكل من قام بارتكاب جرم ما تعكس أن الأجهزة الأمنية افترضت فكرة أن هذا الإنسان لم ولن يرضخ لقوانين المجتمع ، وان العمل الاجرامى يمثل سلوكا معيشيا وحياة قائمة بالنسبة له ، وانه ثبت من خلال سلوكه غير السوي انه لا يحترم القانون أو واضعي القانون ، وانه سيكرر نفس سلوكه الاجرامى مرات أخرى .
ونظرا لان نظام الوضع تحت مراقبة الشرطة يحول دون تحقيق الرعاية اللاحقة ، بل هو في كثير من الأحوال مفسدة للمفرج عنهم لذلك يقترح إعادة النظر في قانون الوضع تحت مراقبة الشرطة واستبداله بنظام الملاحظة الجبرية على أن يكون المفرج عنه خلال مدة ملاحظته تحت إشراف وتوجيه اجتماعي يستهدف حل مشاكله وتقديم العون له .
ساحة النقاش