أ.د/ هاني جرجس عياد

اْستاذ جامعي وكاتب صحفي

 

<!--<!--

إن العنف داخل الأسرة قديم قدم الوجود الانسانى ذاته ، فأول أسرة وجدت على ظهر البسيطة _ أسرة ادم عليه السلام _ قتل احد أعضائها أخاه ، بيد أن الاهتمام العلمي بهذه الظاهرة بداْ متأخرا ، حيث إن أولى الدراسات التي يمكن وصفها بالعلمية أجراها طبيب الأطفال " هنري كيمب " ومعاونوه عام 1962 على عدد محدود من الأطفال الذين تعرضوا للضرب من قبل والديهم ، وكانت ذات طبيعة إكلينيكية تعنى بالوصف الكيفي لآثار العنف على هؤلاء الأطفال ، وقد نشرت تلك الدراسة في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية تحت عنوان " زملة الطفل المضروب " . وبعد ذلك تواترت البحوث ، حتى أن عدد ما أمكن حصره مما أجرى منها بين أعوام 1972 – 1980 بلغ (1170) بحثا ، انصب معظمها على دراسة العنف بين الأزواج وضد الأطفال . وكان الطابع المميز لها هو التركيز على وصف آثار العنف ، ومحاولة الكشف عن أسبابه ، وملامح السياقات التي يندلع في ظلها . وواكب ذلك النشاط البحثي ظهور عدد من الدوريات العلمية التي تعنى بصورة مكثفة بظاهرة العنف في الأسرة . وفى بداية الثمانينات ، وفى عام 1981 بالتحديد ، عقد أول مؤتمر لبحوث العنف في الأسرة في جامعة نيوهمبشاير.

وقد اتسع مجال بحوث العنف الأسرى في منتصف الثمانينات بدرجة كبيرة ليشمل _ فضلا عن دراسة العنف الزواجى والإساءة للأطفال _ كلا من العنف ضد الوالدين والأخوة . وبالإضافة إلى ذلك تناولت تلك البحوث جوانب أكثر تنوعا لتلك الظاهرة من قبيل عواقب العنف ، وانتقال العنف عبر الأجيال ومنبئات العنف ، والتغيرات التي تطرأ عليه عبر الزمن .

وتشير نتائج البحوث  _الغربية  _ إلى انتشار العنف في الأسرة بأشكاله ومستوياته المتنوعة لدرجة أصبح يقال معها _ والتبعة على شتراوس _ إن الأسرة أصبحت من اكبر مؤسسات العنف في المجتمع . ومما يتفق مع هذه المقولة أن إحصاءات القتل _ وهو اشد أنواع العنف _ في استراليا تشير إلى أن (42%) من جرائم القتل التي ارتكبت ما بين 1968-1981 كان منفذوها وضحاياها من بين أفراد الأسرة ، وفى كندا شكلت جريمة قتل احد أفراد الأسرة (60%) من مجمل حوادث القتل التي وقعت ما بين 1961-1974 . وقد أشار " جين ناش " إلى أن (52%) من حالات القتل في المكسيك حدثت داخل الأسرة ، وفى إحصاء أجرى في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1984 تبين أن (24%) من حوادث القتل ارتكبها احد أفراد الأسرة . 

وتتمثل أهمية العنف في انه يؤدى إلى زملة من الآثار المباشرة ، وغير المباشرة ، سواء على المدى القريب ، أو المتوسط ، أو البعيد ، بالنسبة لكل من الضحية والجاني والأسرة ككل ، فضلا عن المجتمع المحلى والعام ، ونستعرض فيما يلي _ بشيء من الإيجاز _ لأبرز تلك الآثار .

1-آثار العنف على الضحية :

هناك العديد من الآثار ذات الطابع البدني والنفسي والاجتماعي التي تنجم عن تعرض الضحية للعنف ، يتمثل أبرزها فيما يلي : 

أ- متاعب صحية :

يؤدى التعرض للعنف إلى العديد من الآثار الفسيولوجية والبدنية الضارة ، منها ما رصده " جيلاس وآخرون " في دراستهم ، حيث تبين أن معدل نبض القلب وإفراز هرمون الكورتيزول وبعض الهرمونات الأخرى يزيد كدالة للنزاعات الزواجية وبوجه خاص في الربع ساعة التالية للنزاع ، وان النساء أكثر تأثرا من الرجال .

وأوضحت دراسة " روزينفيل " أن المشقة المزمنة الناجمة عن التعرض للعنف ، والخوف المتواصل من حدوثه يدفع بالضحايا إلى التردد على عيادات الأطباء طلبا للعلاج من بعض الأعراض النفسجسمية ، كالصداع والسعال والشعور بالوخز والتنميل والأرق ونقص الوزن . ويتوقع أن تزداد حدة المشكلات الصحية والإصابات البدنية حينما يكون العنف شديدا ومتكررا . 

ب- الاضطرابات النفسية :

ذكر " هيلبرمان ومانسون " أن نصف النسوة اللائي أحيلوا إليهما للعلاج من اضطرابات نفسية على مدى عام (60 حالة) ضربهن أزواجهن ، وفى دراسة أجريت على (160) امرأة حولهن للعلاج النفسي بسبب تعرضهن للضرب تبين أنهن يعانين من زملة أعراض التعرض للمشقة الحادة ، ويتسمن بأنهن سلبيات وعاجزات عن التصرف ، وغير قادرات على رعاية أطفالهن ، ويشعرن بالإنهاك حين يقمن بأداء أعمال بسيطة لا تستدعى ذلك ،وتقديرهن منخفض لذواتهن ، ولديهن شعور بعدم القيمة ، وينفرن من الجنس ، وتنصب جهودهن على التعايش مع العنف ، بدلا من منعه ، وتقليل آثاره المؤذية للحد الأدنى ، ويعتقدن أنهن مسئولات عن وقوع العنف ، ويلقين باللوم على أنفسهن ، فهن يستحققن ما يحدث لهن ، ومن ثم يستسلمن للأمر الواقع ، بدلا من تحليل المواقف بطريفة موضوعية ، وتوظيف هذا التحليل في تخطيط استراتيجيات ملائمة للتعامل مع مثل تلك الأحداث مستقبلا ، وهو ما يزيد من احتمال استهدافهن للاعتداء عليهن فيما بعد .

وقد بينت دراسة " اندروز" حول الأسس الاجتماعية للاكتئاب _ التي أجراها على (400) امرأة _ أن العنف الأسرى من بين الأسباب الرئيسية لإصابة (25%) منهن به . وأشارت دراسات متعددة إلى أن التعرض للعنف قد يدفع بالضحية إلى الانتحار ، فعلى سبيل المثال أوضحت نتائج دراسة  " رونزافيل وآخرون " أن (29%) من المبحوثات اللائي ضربهن أزواجهن أقدمن على محاولة الانتحار ، وان لم ينجحن بالضرورة في هذه المحاولة ، وقد حصل كل من " ستارك وفليتكرافت " على نتيجة مشابهة ، حيث قرر (25%) من الزوجات الأمريكيات البيض في بحثيهما أنهن حاولن الانتحار بسبب ضرب أزواجهن لهن . 

وقد كشف " براون " عن زاوية أخرى في الموقف قوامها أن قتل الزوج يعد عملية انتحار رمزي أو بديل ، فبدلا من أن تقتل نفسها تقتله هو ، وجدير بالذكر أن الانتحار بوصفه إحدى العواقب السلبية للعنف لا يقتصر على الضحية فقط بل قد ينتحر الجاني أيضا . ففي دراسة أجرتها " والكر " على (50) ممن قتلن أزواجهن تبين أن ثلثهن حاولن الانتحار ، ووجد " والكر " أن (10%) ممن ضربوا زوجاتهم أقدموا على الانتحار بعد أن هجرتهم هؤلاء الزوجات . 

ج- مشكلات اجتماعية :

 يعد الطلاق من أهم الآثار الاجتماعية والنفسية السلبية للعنف ، فقد أوضحت نتائج العديد من الدراسات أن العنف احد المنبئات بالطلاق ، والذي يعد بدوره من بين الأسباب الرئيسية لتفكك الأسرة ، ففي دراسة أجراها " لفنجر " حول الأسباب التي تدفع الزوجات إلى طلب الطلاق قرر (22%) من المبحوثات من الطبقة المتوسطة مقابل (40%) من الطبقة الدنيا أن العنف هو السبب الرئيسي .

وهناك مشكلات ذات طابع نفسي اجتماعي أخرى تترتب على العنف من قبيل تدنى وتشويه صورة الضحية في عيون المحيطين بها ، وضعف علاقاتها الاجتماعية ، وفقدان العديد من الصداقات ، وان كان الضحية من المراهقين فان التعاطي والجنوح من بين الآثار المحتملة أيضا . 

2- الآثار السلبية للعنف على الأسرة : 

 حين يحدث العنف لا ينجو عضو في الأسرة ، عادة ،  من أثاره ، بحيث إن الجميع يصبحون ضحايا له بصور ودرجات متباينة  ،  فالعنف يعوق حركة الأسرة ، ويجعل من الصعب عليها القيام بوظائفها . 

وحيث إن الأطفال من أكثر أفراد الأسرة تضررا بالعنف الذي يشاهدونه بين والديهم أو يتعرضون له ، والذي يؤثر عليهم بصورة مباشرة وغير مباشرة ، فإننا سنركز بوجه خاص على ما يلحق بهم من آثار كدالة للعنف . 

إن تضرر الأطفال من العنف يبدأ مبكرا عندما يكونون أجنة في بطون أمهاتهم فقد يصابون بأذى عندما يضرب آبائهم أمهاتهم ، وبعد ولادة هؤلاء الأجنة فان الخطر يتسع ، فالأم التي يضربها زوجها تنخفض قدرتها على رعاية أطفالها والاهتمام بهم ، بل يزيد احتمال ضربها لأطفالها ، وقد تجنح إلى كراهيتهم ، لأنهم الذين يجبرونها على الاستمرار في تلك العلاقة الزوجية التي لا تحتملها.

إن الأطفال في الأسر العنيفة معرضون أكثر من غيرهم لاحتمال الإصابة بالاضطرابات النفسية والمشكلات السلوكية ، وتتمثل تلك المشكلات في المعاناة من بعض الاضطرابات الانفعالية ، كالغضب ، والشعور بالقلق ، والخوف من تفكك الأسرة ، والإحساس بالضعف لعجزهم عن حماية الأم ، فضلا عن التوتر الناجم عن ترقب نوبة العنف التالية ، بالإضافة إلى انخفاض الأداء والمستوى التحصيلى ، وظهور مشكلات سلوكية في المدرسة .

إن مشاهدة الأب وهو يضرب الأم قد تغير من اتجاهات الأبناء نحوه ، وخاصة حين يتعاطفون مع الأم لشعورهم بأنه غير محق فيما يفعل ، ومن ثم يتبنون اتجاها سلبيا نحوه ، وبطبيعة الحال سيؤثر هذا الاتجاه في سلوكهم مستقبلا ، فعلى سبيل المثال قد تتبنى الفتيات تصورات سلبية حول الرجال تحدو بهن للنفور منهم ، بشكل عام ، ومن أزواجهن فيما بعد بشكل خاص ، مما يزيد من احتمال فشلهن في حياتهن الزوجية المقبلة ، أو يجعلها ذات طابع غير سوى ، حيث يحاولن السيطرة على أزواجهن ثاْرا لأمهاتهن ، أو يخنعن لهن اقتداء بأمهاتهن ، مما يشجع أزواجهن على ضربهن ، وكلا النمطين _ على أية حال _ لا يسهم في إيجاد علاقة زوجية متوافقة . 

إن الأطفال الذين يشاهدون آباءهم يضربون أمهاتهم من المحتمل أن يضربوا زوجاتهم في المستقبل ، اى ما يعرف ب(توارث العنف) ، ويزيد هذا الاحتمال حين يدركون أن عنف الوالد تتم مكافأته ، ومما يدعم هذا التصور ما توصلت إليه عدة دراسات ، مثل تلك الدراسة التي أجراها "بريسون" ، والتي قرر فيها (63%) من الأزواج الذين ضربوا زوجاتهم أنهم شاهدوا آبائهم يضربون أمهاتهم .

3- الكلفة الاجتماعية للعنف :

ما اشرنا إليه سلفا يعبر عن العواقب السلبية الناجمة عن العنف على مستوى الأفراد والأسر ، ولكن المجتمع يدفع أيضا ثمنا للعنف متمثلا في ساعات العمل الضائعة ، وتكلفة علاج الإصابات ، وحجم الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والنفسية والقانونية والشرطية . فعلى سبيل المثال ، حسبت تكلفة تدخل الشرطة في مواجهة النزاعات الأسرية في كندا عام 1980 فقط ، فتبين أنها بلغت (22) مليون دولار ، ويضاف إلى ذلك إن انتشار العنف الأسرى يهدد تماسك اعرق المؤسسات الاجتماعية ، وينعكس سلبيا على أداء المجتمع ككل .

للعنف دلالات متعددة على المستوى الشخصى والأسرى والاجتماعي يتسنى في حالة إدراكها فهم طبيعته بصورة أكثر جلاء ، وتوقع حدوثه ، والتهيؤ لمواجهته ، والحد منه أو تجنبه . انه كالاشعه التشخيصية التي تمكننا من اكتشاف العديد من المشكلات الصحية و النفسية و الاجتماعية التي يعاني منها أطراف العنف ، والتي لم تكن لتظهر لولا انخراطهم فيه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                                  

 

 

                                                                                                      

 

 

 

                                                                                              

 

 

 

 

 

 

                                                                                                

                       

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                                                        

 

 

 

 

 

المصدر: منشور بجريدة الجزائر الجديدة – الجزائر – بتاريخ 28-5-2013م
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 39 مشاهدة
نشرت فى 21 مارس 2015 بواسطة hany2015

ساحة النقاش

أ.د/ هاني جرجس عياد

hany2015
اْستاذ جامعي وكاتب صحفي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,618