<!--
<!--<!--
إذا كانت الجريمة في حد ذاتها ظاهرة اجتماعية خطيرة تضر الشعور الجمعي وتهدد مصالح الجماعة ، فان ظاهرة العود إلى الإجرام تمثل خطورة أعظم ومشكلة جذورها أعمق ، فالمجرم الذي يتردى في الجريمة المرة تلو الأخرى دون أن تجدي طرق العقاب أو أساليب الإصلاح في ردعه أو تقويمه ، يبدو اشد خطرا على المجتمع من المجرم الذي يجرم مرة واحدة فحسب ثم لا يلبث أن يتكيف ثانية مع المجتمع ، ويخضع لنظمه وقوانينه .
والحق اْنه متى خرج النزيل من سجنه ، فانه يواجه المجتمع بمشكلات متعددة ، اجتماعية ونفسية واقتصادية . ويكون في اشد الحاجة إلى من يأخذ بيده ، ويعينه على تخطى الهوة التي تفصله بين حياته التي كان يحياها داخل السجن وحياة المجتمع الحر الذي يقف على أبوابه . فإذا وجد هذه المعونة من المجتمع ، تكيف معه واندمج فيه ، أما إذا صادفته المتاعب ولاحقته الصعاب ، ووجد تنكرا من البيئة ونفورا وصدا من المجتمع ، وصدت في وجهه سبل العيش الشريف ، فليس لنا أن نتوقع منه سوى عداء سافر للنظم والمعايير الاجتماعية وعود سريع إلى الإجرام ليثاْر لنفسه من إهمال المجتمع لأمره واحتقاره لشاْنه . وإذا كان الغرض الأول الذي ينبغي أن تهدف إليه أية سياسة إصلاحية ينحصر في إعادة المسجون إلى الطريق السوي وإدماجه في المجتمع ، فان السبيل إلى تحقيق هذا الهدف يجب أن يكون بمحاولة العمل على تجنب نكسته حتى لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى .
وترجع صعوبة مشكلة تكيف المفرج عنهم مع المجتمع إلى عدة عوامل يعود بعضها إلى السجن بما يسببه من انسلاخ المذنب عن روح المجتمع ومفاهيمه وقيمه ، ثم أثره في الحياة التي يحياها السجين في مجتمع كل أفراده من المذنبين ، ثم اْثر حرمان الأسرة من عائلها وما يستتبع ذلك من التمزق والتشرد والفقر والتحلل الخلقي وانهيار الحياة العاطفية للأسرة . أما أعظم القيود المضنية التي ينوء تحت عبئها غالبية خريجي السجون والتي كانت ومازالت تقف عقبة كئودا في سبيل تكيفهم مع المجتمع ، فترجع إلى المجتمع نفسه الذي يضع من العقبات والتشريعات ما يجعل من السجين شخصا منبوذا ويرى أن إيداعه السجن يجب أن يتبعه سلب كل أو بعض حقوقه المدنية ، فيحرص بذلك المواطنين الصالحين على عدم الثقة فيه ، ووضع أمامه من العراقيل والموانع القانونية والأدبية ما يحرمه من العودة إلى عمله السابق وما يجعل أمر عودته إلى مكانته الاجتماعية السابقة يكاد يكون مستحيلا.
والركيزة الأساسية لحدوث مثل هذه المشكلات لا تكمن فيما اقترفه المفرج عنه من جرم أدى للزج به في السجن ، ولكن تكمن في الوصمة ( الانحرافية أو الإجرامية ) التي ألصقت بكل من يدخل السجن لقضاء عقوبة سالبة للحرية ( ولو كانت قصيرة المدة ) . تلك الوصمة التي ستلحق كذلك بكل فرد من أفراد أسرته وعائلته أو من يرتبط به بعلاقة أيا إن كان نمطها ، كنتيجة للصورة الذهنية السيئة المترسخة داخل أذهان أفراد المجتمع عن كل من يرتبط بنمط من العلاقات مع أفراد تلك العائلة دونما اى ذنب اقترفوه .
وتعتبر الوصمة من النتائج المترتبة على الإدانة وصدور الحكم بعقوبة جنائية ، وهى معنى رمزي داخل إطار اى مجتمع انسانى تعكس ما وصل إليه المجرمون من انحطاط خلقي وخروج عن قواعد المجتمع ومعاييره ، ومن ثم يلجاْ المجتمع إلى رد فعل يوضح مدى امتعاضه وكراهيته لهذه السلوكيات ، وذلك من خلال وصفهم بصفات وسمات تحمل بين طياتها معنى الشذوذ والعار.
فالوصمة تشير إلى أن الفعل الرسمي والإدانة لا يمثلان نهاية المطاف بالنسبة للمجرم إنما هناك عقوبات اجتماعية تظل عالقة بهذا الإنسان وبمن يحيطون به تنعكس في دورة الحياة وتنتقل لكل جوانب حياته مما يعوق حركة التفاعل الاجتماعي بينه وبين المجتمع الانسانى .
ويؤكد (شوهام) أن الوصمة لها اثر رادع بصورة دائمة يزيد على اثر العقوبة ذاتها. ومن هنا يرى أن الوصمة قد تعد من قبيل الجزاء أو على الأقل ترتبط به برابطة خاصة . ويزيد على ذلك بالقول أن الوصمة تعكس رد فعل الجماعة مع انتهاك القاعدة القانونية ، ولذلك يمكن استخدامها كمعيار لقياس قوة هذه القاعدة . وكلما كانت الوصمة خطيرة زاد رد فعل الجماعة على انتهاك القاعدة القانونية ، وزادت القوة الكامنة في هذه القاعدة.
فالوصمة الجنائية تعتبر صورة من صور الانحراف الذي يدفع بالآخرين إلى محاكمة كل من يحملها محاكمة اجتماعية ، فيتم حرمانهم من حقهم في المشاركة في عملية التفاعل داخل إطار المجتمع السوي ، على اعتبار أنهم بوصمتهم هذه يهددون استقرار التفاعل الاجتماعي والحياتي ، ذلك لان الموصوم خرج بأسلوبه غير السوي عن المعايير التي يقرها المجتمع والتي تظل الأفراد بحماية تامة مطلقة ، وعليه فان المجتمع المتمثل في الأفراد والجماعات المختلفة يضع العوائق والعقبات التي تحول بين هذا الموصوم وبين حصوله على المكانة الشرعية المطلوبة ، لأنه غير مؤهل لاْن يكون فردا سويا داخل المجتمع .
إن وصمة الإجرام التي يصف بها المجتمع الشخص المذنب المحكوم عليه تعرضه وتعرض أفراد أسرته إلى كثير من المضايقات الاجتماعية . وقد تسد أمامه وأمام أفراد أسرته سبل العيش الكريم والحياة الاجتماعية الهادئة المستقرة . وقد تشكل هذه المضايقات ميولا قوية لممارسة الإجرام اشد من السابق ( اى قبل دخوله السجن لأول مرة ) . ومن بين هذه المضايقات التي يتعرض لها الشخص المحكوم عليه المفرج عنه ، نظرات الازدراء والاحتقار من قبل بعض أعضاء المجتمع الذي يعيش فيه حتى وان كان يمارس عملا شريفا وأعلن عن ندمه وتوبته وسلك سلوكا حسنا في المجتمع . وقد يتعرض مثل هذا الشخص إلى الإيذاء من قبل الآخرين وجرح كرامته وكبريائه كانسان ، وبخاصة عندما يستخدم ضده بعض الكلمات والألفاظ الجارحة أو عندما يكون عرضة للتهكم والسخرية والنقد اللاذع . وقد تصل هذه المضايقات إلى درجة تطبيق الفصل أو العزل الاجتماعي ضده ، فلا يزوره أو يكلمه احد ، ولا يبادلونه الزيارات أو يشركونه في شئونهم الاجتماعية المختلفة ، وعندئذ يصبح التكيف الاجتماعي في البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها أمرا بالغ الصعوبة ، وقد يترتب على ذلك كثير من المخاطر لعل أهمها جميعا العود إلى ارتكاب الجريمة أو ممارسة أفعال انحرافية مختلفة . ويتزايد أضرار المضايقات الاجتماعية عندما تمتد هذه المضايقات إلى أفراد أسرته أو إلى أقاربه . فقد يحجم أفراد المجتمع عن الزواج ببناته بدعوى أن والدهن من أصحاب السوابق حتى وان تاب وندم ، وقد يحجمون عن تزويج بناتهم لأحد أبنائه للسبب نفسه ، وقد يتعرض أبناؤه وبناته إلى ألوان مختلفة من النقد والتجريح والسخرية والتهكم في البيئات الاجتماعية المختلفة مثل المدرسة والجامعة وجماعات الجوار وغيرها . وقد يفرض المجتمع على هؤلاء جميعا طوقا من العزلة فيمارس ضدهم نوعا من الفصل الاجتماعي ، فتعيش الأسرة جميعها في سجن مفتوح . وقد تمارس هذه المضايقات نوعا من الضغوط قد تؤدى في نهاية الأمر إلى ارتكاب الجرائم وممارسة ألوان مختلفة من السلوك الاجرامى .
ومخطئ من يظن أن المشكلات التي يواجهها الشخص المفرج عنه لا تتعدى نطاقه ونطاق أسرته ، بل على العكس من ذلك تماما أن المشكلات التي يواجهها هذا الفرد تصيب المجتمع كله بأقدم الأضرار واشد الأخطار . إن عدم توفير عمل مناسب للأشخاص المفرج عنهم يضر باقتصاد المجتمع ويعطل عجلة النمو الاقتصادي والرقى الاجتماعي ، حيث يفتقر الاقتصاد في مثل هذه الحالة إلى القوى البشرية العاملة فيقل الإنتاج مثلما يقل الدخل الفردي والقومي . كما أن هذه الطاقات البشرية المعطلة تصبح أداة أساسية من أدوات نشر الرذيلة والأخلاق الفاسدة في المجتمع ، فتتعاظم الجريمة ويزداد عدد الناس الذين يمارسون السلوك الانحرافى .
ونتيجة لهذه المشكلات التي تواجه المفرج عنهم ، فقد تعالت الأصوات في مختلف أنحاء العالم لإنشاء مؤسسات اجتماعية رسمية وغير رسمية يكون هدفها الاساسى رعاية المفرج عنهم وتقديم العون والمساعدة لهم حتى يتمكنوا من الاندماج في المجتمع وممارسة ادوار ايجابية في سبيل بنائه ونهضته كأعضاء (كاملي العضوية) ، وبالفعل فقد أسست جمعيات كثيرة لهذا الغرض في مختلف أنحاء العالم أصبحت تعرف باسم (جمعيات الرعاية اللاحقة للمفرج عنهم) . وتشهد هذه المؤسسات المهام والمسؤوليات التي أصبحت تقوم بها المؤسسات الإصلاحية (السجون) وتكملها .
إلا اْنه في الوقت نفسه فإننا نؤكد في هذا الصدد على أهمية دور الجمهور في معاونة المفرج عنهم على استعادة اعتبارهم الاجتماعي ومكانتهم بعد خروجهم من السجون وعودتهم إلى الحياة الاجتماعية بوصمة جنائية واجتماعية .
فأفراد الجمهور هم الذين يتخذون موقفهم من المفرج عنهم ، إما بالعطف عليهم وقبول توبتهم ودعوتهم للإسهام في العمل الشريف وتيسير أحوال معيشتهم ، وإما بالنفور منهم والسخط عليهم والاشمئزاز من الاتصال بهم وغلق كل ما يسعون إليه من أبواب الرزق.
ساحة النقاش