العمليات الفدائية استشهاد أم انتحار(3)

العمليات الفدائية" استشهاد أم انتحار؟"

بعد هذا الاستعراض لآراء الفريقين يمكن القول

أولًا: إن القيام بهذه العمليات لا يجوز إلا إذا توفرت القيود والضوابط التي وضعتها الشريعة والتي أبانها العلماء والمتمثلة في الآتي:

1-ألا يكون هناك سبيل آخر غير تفجير الشخص لنفسه لتحقيق الهدف من وراء مثل هذه العملية ولا يترتب عليه مفاسد إضافية كإمكانية القبض على المنفذ وما يتبع ذلك من حصول قوات الاحتلال على معلومات عن خلايا المقاومة عبر اعترفات المقبوض عليه.

2-أن يكون الصف الذي سيهاجمه القائم بهذه العملية صفًّا يجوز قتله ، ولا يختلط به من لا يصح قتله.

3-أن يتحقق من وراء ذلك الهجوم مصلحة ضرورية قطعية كلية راجحة ولا ينجم عنه مفسدة أكبر منها.

ولقد عدد الفقهاء أمثلة للمصالح التي يمكن أن تنجم وأيضًا للمفاسد التي يمكن أن تقع فتمنع من جواز هذا الانغماس ، ونذكر أمثلة لما ذكروه لكل منها؛ أما المصالح التي قد تنجم فمنها:

(أ) إحداث نكاية في العدو.

(ب) توهين العدو وبث الرعب في نفوس أفراده مما يسهل هزيمته.

(ج) تجرئة المؤمنين وتشجيعهم وتقوية قلوبهم.

(د) نيل الشهادة في سبيل الله تعالى.

أما المفاسد التى يذكرها العلماء والتى يمكن أن تقع من جراء هذا الانغماس فهي:

(أ) أن يترتب على ذلك وهن للمسلمين إذا رأوا أنه لم يحدث شيئاً وأن فعله كان على سبيل التهور.

(ب) عدم إحداثه لأثر ينفع المسلمين والمجاهدين مع عدم قدرته على التخلص وعدم النكاية.

والحقيقة إنه يجب النظر إلى ما عدده العلماء من المفاسد والمصالح المترتبة عن هذا الفعل على أساس أن حالة الحرب قائمة ومشتعلة؛ لأنه عند القيام بهذه العمليات دون أن تكون هناك حرب قائمة بالفعل ستظهر مفاسد عديدة قد لا تكون واردة إذا كان هذا الانغماس حال قيام الحرب.

وما ذكره العلماء في هذا الصدد من جواز الانغماس في صف العدو أمر منطقي يلبي احتياجات الظفر في الحرب أو الدفاع عن البلاد إذا ما قصدها مستعمر بالاحتلال ، ولكن ليس معناه أن يتم الإقدام عليه دون الضوابط المذكورة أو بإغفال المفاسد التي قد تنجم عنه،

وفى تقرير هذا الحكم يقول العلامة ابن عابدين الحنفي: "ذكره في شرح السير أنه لابأس أن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يصنع شيئاً بقتل، بهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك، فأما إذا علم أنه لايُنكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم، لأنه لا يحصل بحملته شئ من إعزاز الدين"

ويقول الإمام الصنعاني رحمه الله: وقال المصنف في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو أنه صرح الجمهور أنه إذا كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ومتى كان مجرد تهور فممنوع لاسيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين.

ولنقف مع الإمام الشوكاني عند تفسيره لقوله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) :"الحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكان ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو في الدنيا فهو داخل في هذا وبه قال ابن جرير الطبري، ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها وهو ظن تدفعه لغة العرب".

ويقول الإمام الشوكاني في كتابه السيل الجرار:

(وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور ، أو مغلوب ، فقد ألقى بيده إلى التهلكة)

وقال الإمام القرطبي : ( إن غلب على ظنه أن سيقتل وينجو.. فحسن ولو علم أو غلب على ظنه أن يقتل، ولكن سينكى نكاية أو سيبلي، أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون..فجائز أيضاً

يقول الإمام الغزالي: "فأما تعريض النفس لهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراما".ً

والذى ينبغي التأكيد عليه أن المصلحة التي تبيح قيام الشخص بتفجير نفسه لابد وأن تكون متصفة بصفات ثلاث وهى:

(أ)أن تكون المصلحة ضرورية، بمعنى أن تكون ضمن المصالح والمقاصد الكلية التي أتت الشريعة لحفظها وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال أو ما يعبر عنه بالضرورات الخمس.

ب-أن تكون المصلحة كلية بمعنى أنها تمس مجموع المسلمين ولا تقتصر على تحقيق مصلحة خاصة بفرد أو عدة أفراد من أبناء الأمة.



ت-أن تكون المصلحة قطعية، بمعنى أن يكون هذا الفعل -أي تفجير المرء لنفسه-سيؤدى قطعاً إلى تحقيق تلك المصلحة، وهذه الأوصاف الثلاثة توضح أن الأصل في القيام بهذه العمليات التي يفجر فيها الإنسان نفسه هو التحريم وأن الجواز هو الاستثناء، وهذا يتسق قطعاً مع تحريم الشريعة القاطع لقيام المرء بمباشرة قتل نفسه.

ثانيا: إنه بعد التأكيد من توافر القيود والضوابط المطلوبة يجب النظر إلى المصالح المرجوة منها والمفاسد المترتبة على فعلها وذلك قبل القول بجوازها، مع مراعاة أن حسابات المصالح والمفاسد تلك تتغير من زمان لآخر، ومن مكان لآخر، ولبيان ذلك كله نسوق المثالين الآتيين:

المثال الأول: نلتقطه من حادثة تفجير أحد الشباب لنفسه في أحد أهم الشوارع التجارية وأكثرها ازدحاماً وهو شارع جوهر القائد بمنطقة الأزهر بالقاهرة مستهدفاً إصابة بعض السائحين الموجودين به.



وبتطبيق الضوابط السابقة لن نجد أدنى صعوبة في القول بجرمة هذا الفعل وذلك للآتى:

أ-إن الصف الذى استهدفه هذا الشاب بتفجير نفسه فيه لا يجوز استهدافه ابتداءً؛ حيث لا حرب قائمة بينه وبين أحد من المارة، ومن ناحية أخرى لا يجوز استهداف أحد من هؤلاء ابتداءً بالقتل ؛ وذلك لأنهم ما بين : مسلم لا يجوز قتله أو من السائحين الذين دخلوا البلاد بأمان أو لهم على الأقل شبهة أمان تمنع من ذلك ، او من غير المسلمين من النساء والأطفال أو اهل الكتاب الذين لا يصح استهدافهم بالقتل.

ب-إن الأوصاف التي يجب توفرها في المصلحة المستهدفة للقول بإباحة القيام بهذا الفعل غير متوفرة، فأين هي المصلحة الضرورية التي تعم كل المسلمين والقطعية التي لا يمكن تحقيقها إلا بهذا التفجير؟ وهل يجوز لمجرد الثأر أو الضغط على أميركا استهداف بعض السائحين المختلطين بأغلبية مسلمة بمثل هذا التفجير اذا لم تنجم عنه إصابة أي اميركى وأدت إلى قتل عدد من المسلمين، أو السائحين الذين لهم على الأقل شبهة أمان؟

المثال الثاني: ونلتقطه من فلسطين حيث تجاهد العديد من الحركات الفلسطينية المحتل الإسرائيلي من أجل استرداد حقوقهم المغتصبة وذلك عبر وسائل عديدة من بينها تلك النوعية من العمليات الفدائية فربما ترى إحدى هذه الحركات توفر الضوابط المطلوبة للقيام بهذه العمليات في مقاومتها للاحتلال، وقد ترى أن المصلحة راجحة في القيام بها في زمان معين، ثم يتراءى في زمان آخر أن مفسدة القيام بها راجحة على المصالح التي ترجى منها؛ ومن ثم تتجه إلى إيقافها، ولا حرج عليها في هذا الموقف أو ذاك.

ثالثا: إن العلماء المعاصرين اختلفت كلمتهم حول توصيف هذا الفعل فمنهم من يرى أنه لا يجوز, لأنه يمثل انتحاراً منهياُّ عنه والبعض الآخر أجازه في ظل شروط معينة، لكن الملاحظة أن دائرة المجيزين له خاصة عندما يكون التفجير في مواجهة مستعمر غاشم تتسع حتى صارت اليوم أكثر من أغلبية.

رابعا: لا شك في وجود فارق بين ما أجازه علماء السلف من جواز الحمل على صفوف الأعداء وتفجير المسلم لنفسه، ولكن هذا الفرق يتضاءل حتى يكاد ينعدم في ظل تعذر هروب من يقوم بهذه العملية لو لجأ لغير هذا الأسلوب في تنفيذها مع اعتبار أن المجاهد لم يخرج إلا لنيل الشهادة في سبيل الله والدفاع عن الوطن ضد المحتل الآثم.

خامسا: القيام بهذه العمليات بشروط من أجازها لاتعد عندهم من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة؛ لأن سبب نزول هذه الآية يبين عدم صحة الاستدلال بها في هذه القضية فقد ذكر الإمام النيسابوري "في سبب نزول هذه الآية عن الحكم بن عمران أنه قال :" كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني ،صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم ، وصففنا لهم صفا عظيماً من المسلمين ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إلينا مقبلا ً فصاح الناس فقالوا: سبحان الله ، ألقى بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل ، وإنما أنزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه- قلنا بعضنا لبعض سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أنا أقمنا فيها، وأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به، فقال: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) في الإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال فنصلحها ، فأمرنا بالغزو، فما زال أبو أيوب غازياً في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل"

سادساً: إن هناك فارقاً مهماً بين من يقوم بهذه العمليات الفدائية ومن ينتحر بقتل نفسه لا يصح إغفاله، فكما قيل – وبحق- أن نية ومقصد كل منهما تختلف اختلافاً بيناً، فالمنتحر يريد أن يتخلص من حياته ومقصده الهروب من ضرِّ أو همِّ أَلَمِّ به، ونفسيته يغلب عليها اليأس والقنوط والضيق، وهو يقدم على الانتحار دون إيمان بقضية أو دفاع عن مبدأ، بينما من يقوم بتلك العمليات يحمل بين جنباته إيماناً عميقاً بمبدأ أو دين، ويغلب على أحواله الاستبشار والاطمئنان والسكينة ويهدف إلى نصرة دينه او وطنه؛ لتحقيق بغيته بنيل الشهادة.

وفي ظل وجود هذا الفارق فلا يصح وصف القائمين بهذه النوعية من العمليات بالمنتحرين؛ لأنهم إما أنهم قاموا بها على الوجه المشروع وبالقيود المقررة في الشريعة مبتغين وجه الله وفي سبيل الله فهؤلاء يرجى لهم نيل الشهادة وبلوغ السعادة، أما إذا قاموا بها دون استيفاء شروط الشهادة أو الالتزام بالضوابط الشرعية المقررة فلا يطلق عليهم شهداء أو منتحرون؛ لأنهم مخطئون معذورون في الغالب متأولون في فعلهم هذا.

وبناء على ذلك؛ يمكن القول: إن هذه العمليات الفدائية تتوقف مشروعيتها على مدى الالتزام بالضوابط المقررة في الشرعية وما تحقق من مصالح، وما ينجم عنها من مفاسد ويجب أن تكون المصلحة المقصودة ضرورية قطعية كلية.

وهذا يعنى أن الأمر يحتاج إلى نظر في كل قضية على انفراد قبل الحكم على فاعلها أنه مخطئ متأول أو منتحر مؤثم، أو يُرجى له نيل الشهادة وبلوغ الكرامة وإذا كان لله مخلصا ولنصرة منهجه قاصدا.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 89 مشاهدة
نشرت فى 2 سبتمبر 2014 بواسطة gy

الجماعة الإسلامية ببنى مزار

gy
نحن جماعة دعوية تدعو للخيروتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكروتنصر المظلوم. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,744