تأملات في ليلة القدر

بقلم د/ أحمد زكريا

لقد تأملت كثيرا ً في المدلول الإيماني لليلة القدر.. وما سر هذه الحفاوة البالغة بها من جميع المسلمين طائعهم وعاصيهم على السواء.. الكل ينتظرها له فيها آمال.

فلا بد أن هناك سرا ً.. بل قل أسرارا ً في هذه الليلة.. وبمزيد من التأمل وجدت أن مفاتيح الأسرار تكمن في سورة القدر.. التي سميت خصيصاً باسم هذه الليلة المباركة العجيبة.

إن الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال..ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى.

ليلة بدء نزول هذا القرآن..على قلب محمد "صلى الله عليه وسلم".. ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته.. وفي دلالته وفي آثاره في حياة البشرية جميعا ً.

العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر".

وبداية الأسرار في أن الله تعالى  خص الليلة بسورة وحدها.. مما يدل على عظيم شرفها.. وبالغ خطرها.. وهي سورة قصيرة يحفظها الصغار والكبار.

وكأن من الحكم البالغة أنه كلما قرأها المسلم اشتاق إليها.. وحن إلى شهر رمضان.. فيظل الود موصولا ً في هذا الإطار.. نفهم لماذا كان السلف يدعون الله أن يبلغهم رمضان دائما ً.. لأن السورة تهيج مشاعرهم كلما قرأوها أو سمعوها.. فتحن إلى رحمات الله.

كذلك نرى أن شرفها ينبع من شرف ما أنزل فيها.. ومن شرف من أنزل عليه.. ومن عظمة من أنزل.. فهي ليلة ذات قدر.. لأنه نزل فيه القرآن وهو ذو قدر.. على قلب النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو ذو قدر.. عن طريق جبريل وهو ذو قدر.. من عند القدير الكبير سبحانه.

فلماذا لا تكون ليلة ذات قدر؟!!

هي ليلة كالتاج بالنسبة للعمر.. قيامها يعادل العمر كله صياما ً وقياما ً وعبادة وطاعة وذكراً.. فهي تجبر الكسر.. وتسد الخلل.. وتبقي على الأمل.

وتأمل معي قوله تعالى: "تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا"هذه الليلة المباركة تتنزل فيها الملائكة تشهد لأهل الأرض.. وتدعو للقائمين الخاشعين الركع السجود.. ويباهي بنا الله ملائكته.

وهناك ملمح آخر أراه في السورة.. فقد انقطع جبريل عن الأرض بعد موت النبي الكريم وانتهاء دوره في إنزال القرآن.. فلا ينزل جبريل إلا في ليلة القرآن.

فمن أراد أن يعيش لحظات نزول الوحي على الرسول أو قريبا منها.. فهذا جبريل الذي كان ينزل على رسول الله ينزل في ليلة القدر.. ليرى أحباب محمد وهم على العهد بالكتاب العزيز.. فمن أراد أن يشم أريج رسول الله.. فليشهد ليلة القدر.. فقد جاء من يذكر به.. ومن صاحبه طويلا ً.. لذلك خصه الله بالذكر بعد الإجمال في الملائكة.

ثم إن السلام يملؤها حتى مطلع الفجر.. فلا يرد الله فيها سائلا ً.. ولا يخيب راجيا ً.. ولا يغلق الأبواب في وجه أحد.. فأعظم بها من ليلة.

ليلة القدر ليلة كالتاج بالنسبة للعمر.. قيامها يعادل العمر.. كله صياما ً وقياما ً وعبادة وطاعة وذكراً.. فهي تجبر الكسر.. وتسد الخلل.. وتبقي على الأمل.

والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري.. فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن.. وإفاضة هذا النور على الوجود كله.. وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية.. وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير.

وتنزيل الملائكة وجبريل - عليه السلام - خاصة بإذن ربهم.. ومعهم هذا القرآن - باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة -.. وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني.. الذي تصوره كلمات السورة تصويرا ً عجيبا ً .

ولقد تغفل البشرية - لجهالتها ونكد طالعها - عن قدر ليلة القدر.. وعن حقيقة ذلك الحدث.. وعظمة هذا الأمر.

وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها.. وخسرت السعادة والسلام الحقيقي - سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع - الذي وهبها إياه الإسلام.

ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة.. فهي شقية.. شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!!

لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة.. وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى.. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب.. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين.

ونحن - المؤمنين - مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى.. وقد جعل لنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) سبيلا ً هينا ً لينا ً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدا ً.. موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها.. وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام..ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان.. في الصحيحين:

"تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"

ليلة القدر: ليلة الاتصال المطلق.. بين الأرض والملأ الأعلى.

ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم)

ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي دلالته وفي آثاره في حياة البشرية جميعا ً

وفي الصحيحين كذلك: "من قام ليلة القدر إيمانا ً واحتسابا ً غفر له ما تقدم من ذنبه"

رزقنا الله وإياكم ثوابها وفضلها

الأربعاء الموافق:

25- رمضان 1435هـ

23-7-2014

المصدر: بقلم د/ أحمد زكريا
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 49 مشاهدة
نشرت فى 26 يوليو 2014 بواسطة gy

الجماعة الإسلامية ببنى مزار

gy
نحن جماعة دعوية تدعو للخيروتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكروتنصر المظلوم. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,895