الجهاد : "الحقيقة الغائبة"
د.عصام دربالة
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) "آل عمران : 102" . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) "النساء: 1" ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ﴾ "الأحزاب : 71"
وبعد،
في لهيب أتون المواجهات المتفجرة في أماكن عديدة من عالمنا الإسلامي تشتد الحاجة في معرفة حقيقة الجهاد التي غابت عن عقول بعض أبناء الإسلام بفعل جناية المخطئين فيه أو نتيجة لعبث المبطلين الساعين لحذفه من عقل الأمة وشريعة الإسلام.ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتيب الذي يسعى عبر صفحاته لإبراز معاني تلك الحقيقة الغائبة لذروة سنام الإسلام.
ونسأل الله تعالى أن يجعل تلك السطور عونا لكل راغب في جهاد يرضي الرحمن ويحقق أهداف الإسلام. والله الموفق والهادي إلى صراطه المستقيم.
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
المؤلف عصام دربالة
نظرة الإسلام للحرب
لم يغفل الإسلام عن أنه دين جاء لينظم حياة البشر لا الملائكة، البشر بكل نزعاتهم الخيرة وأيضا الشريرة.
لم يحلق الإسلام في سماء الخيال متطلبا سموا بشريا لا ينال للصبر على الظلم والكف عن الإنتصار من العدوان ولم يوغل في المثالية ويطلب من الناس إدارة الخد الأيسر ليتلقى لطمات المعتدي بعد أن يفرغ من خدهم الأيمن فهذا ضد الفطرة ومناف للمنطق ومستعص عند التطبيق.
ولم يكن الإسلام يوما كأولئك الذين يمارسون أبشع الحروب ويتفننون في القتل والتنكيل والذبح والتدمير وهم يترنمون بأن دعوتهم هي دعوة المحبة والحرية والإخاء والسلام.
كان الإسلام واقعيا في رؤيته لحقائق الحياة والنفوس والاجتماع الانساني وما قد تحفل بها من صراعات ونزاعات وما قد ينجم عنها من حروب ؛ فالإسلام نظر إلى الحرب في ذاتها كأمر تدعو إليه طبيعة الاجتماع البشري فلم يحاول إنكارها ، ولا أن يعارض مقتضيات النظر فيها ، ولكنه اعترف بها كوسيلة لابد منها لدفع العدوان وتقليم أظافر الطغيان ، وكبح جماح المفسدين.
اعترف الإسلام بالحرب لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع كثيرا ما تفضيان إلى التنازع والبغي والتنكر للحق والاعتداء على الحريات والفتنة في الدين، والإسلام شريعة عملية إصلاحية لا تغمض عينيها عن الواقع ولا تسترسل وراء الخيال، ولو لم يقرر الإسلام الحرب ويعترف بها لتكون وسيلة من وسائل المقاومة ودفع العدوان وإزالة العقبات من طريق دعوته إلى الخير العام لقضت عوامل الشر والفساد التي يؤازرها دائما قوى الطغيان والعنادعلى هذه الدعوة وهي في مهدها ولحرمت الإنسانية أن تجتني ثمراتها الطيبة في معاشها ومعادها قال تعالى ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) "البقرة : 251" وقال تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كثيرا) "الحج : 40".
جاء الإسلام بالجهاد - إذن - ؛ لدفع تلك الأخطار وتجاوبا مع هذه الإعتبارات ومقدما للكون أنموذجا جديدا لم يكن مألوفا لديه.
فلقد اعتاد الكون على حرو البطش والتنكيل التي تعلي منطق الظلم والبغي والعدوان ففوجئ بنموذج جديد يعتمد منطق العدل الممزوج بالرحمة والسماحة والإحسان وكانت المفاجأة الإضافية أن ذلك النموذج السابق يأتي من أقوام كان يقول قائلهم :
و إنا المانعون لمـــــــــا أردنا و انا النازلون بحيث شيـــنا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدرا وطــــينا
لنا الدنيا ومن أمسى علــــيها و نبطش حين نبطش قادرينا
بغاة ظالمين ومــــــا ظلمـــــنا ولكنا سنبدأ ظالــــــــــمينـــا
إذا بلغ الرضيع لنا فطامـــــــا تخر له الجبابر ساجدينــــا
حقيقة الجهاد بين المخطئين والمبطلين :
ورغم وضوح الفارق بين مفهوم الجهاد في الإسلام ومفهومه لدى المتأخرين الا ان هناك من يطمس معالم هذا المفهوم تارة عن سبق إصرار و ترصد لدى البعض وتارة في غمرة الحماس والغضب والثورة عند آخرين .وسواء كان طمس معالم الجهاد يأتي من قبل المبطلين له أو من قبل المخطئين فيه فإن النتيجة واحدة وهي تقديم مفهوم مغلوط عن حقيقة الجهاد في الإسلام قد يترسخ مع استمرار شبهات المبطلين وتتابع أخطاء المخطئين . ومن هنا لزم البيان والتوضيح لتلك الحقيقة الغائبة للجهاد عن هؤلاء وأولئك .
الحهاد ... الحقيقة الغائبة
لأنه ما من أمة من الأمم إلا وهي لا تستغني عن الجهاد , فقد لبى الإسلام تلك الحاجة بقول النبي الكريم : ( الجهاد ماض منذ بعثنى الله الى ان يقاتل اخر امتى الدجال ) ومادام الجهاد حقيقة واقعة وقائمة إلى يوم القيامة فيجب إبانة معالم تلك الحقيقة بما يكشف عن مقصدها ويوضح معناها وجوهرها , فالجهاد في الإسلام له مقصد نبيل ، ومعان متعددة وضوابط جازمة حكيمة وجزاء عظيم وأجر جزيل .
ولنتناول حقيقة الجهاد عبر النقاط الآتية :
أولا : للجهاد معان متعددة :
وانه لمن الظلم البين حصر معنى الجهاد في سبيل الله في مباشرة القتل والقتال وامتشاق الحسام في وجه الخصوم فمفهوم الجهاد أشمل من ذلك وان كان بالضرورة يدخل في معناه مجالدة الأعداء .
وان كنا لا نتفق مع من يقدم لنا مفهوما للجهاد ومحذوفا منه القتال فنحن أيضا لا نتفق مع من يذهب إلى عسكرة الجهاد فالتأمل في الدلالة اللغوية والشرعية للجهاد في سبيل الله لابد وأن ينتهي إلى أنه يشمل معاني عديدة متنوعة على حد تعبير ابن رشد .
ــ فالجهاد لغة مأخوذ من الجهد والتعب وشرعا من المبالغة في إتعاب النفس في ذات الله تعالى و إعلاء كلمته التي جعلها الله تعالى طريقا إلى الجنة وسبيلا إليها وبذل الجهد في إقامة المجتمع الإسلامي ، وبذل الجهد بالمال هو نوع من أنواعه .
ومما يدل على اتساع معنى الجهاد وتنوع مدلولاته أحاديث عديدة لم تقصر معنى الجهاد على القتال فحسب ومن هذه الأحاديث ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم
وألسنتكم ). و عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال: ( أفضل الجهاد كلمه عدل عند سلطان جائر ) .
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبى بعثه الله فى أمه قبلي الا كان له من آمته حواريون وأصحاب , يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تأتى من بعدهم خلوف يقولون
ما لا يفعلون, ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) و جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فى الجهاد فقال ( أحي والداك ؟ ٌقال : نعم . قال : ففيهما فجاهد) .
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ) وأحسبه قال ( كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر).
ــ فهذه الأحاديث جعلت من ضروب الجهاد : الجهاد بالمال ، والجهاد باللسان والجهاد برعاية الوالدين من الضياع جنبا الى جنب الجهاد باليد . والقتال وبذل النفس و النفيس و من الطبيعي أن تتنوع أشكال الجهاد لتنوع الأعداء
فهناك جهاد الكفار والمحاربين باليد واللسان والقلب وجهاد الفساق باليد واللسان والقلب وجهاد الشيطان بدفع ما يزينه من شبهات وترك ما يزينه من شهوات.
ــ ثم هناك جهاد النفس لحملها على محاسن الأخلاق والترقي في مقامات الإيمان والعلم والعمل بالأحكام وتنقيتها
من الخبائث وإذا ما نظر الى هذه الدلالات في ضوء قوله تعالى: ( و اعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون ، به ، عدو ألله و عدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ فى سبيل الله يوف إليكم و انتم لا تظلمون ) الأنفال .
ــ فلابد أن ننتهي إلي أن المقدمة الصحيحة لممارسة الجهاد بالنفس لإعلاء كلمة الله هي الإعداد الشامل لكل أنواع القوة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية والإيمانية .
ــ وأي أمة تبغي النصر في الميدان لابد أن تكون قد جيشت قدرات الأمة عبر ممارسة الجهاد على مستوى التجديد الفكري والتقدم التكنولوجي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي و الإيماني والإعلامي , وإذا كان الجهاد في سبيل
الله بالنفس في الأصل من فروض الكفاية ولا بتعين إلا في حالات محددة كاجتياح العدو لأرض الإسلام أو على من
يشهد القتال أو من عينه الإمام فهذا يعني أن الانشغال الأكبر للأمة سيكون من نصيب الجهاد بمعناه الشامل الذي يمكنها من بناء حصونها من الداخل لتصير أكثر مناعة وقدرة على مدافعة الأعداء وتحقيق الغايات .
ثانيا: الجهاد وسيلة من وسائل بلوغ الغايات الإسلامية النبيلة.
لم يكن الجهاد العسكري مرادا لذاته ، أو مقصودا في نفسه، فلم تأت الشريعة به لمجرد ازهاق أرواح المعاندين أو المعتدين ولكنه كان وسيلة لبلوغ الغايات الإسلامية النبيلة .
وكون الجهاد يندرج في عداد الوسائل لا الغايات يرتب أمورا عديدة بالغة الأهمية :
فهو..أولا: وسيلة مراده لغاية محددة متى انتفت إمكانية بلوغها من خلاله امتنع اللجوء إليه .
وثانيا: انه ليس الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام المؤمنين لسلوكها إنما هناك وسائل عديدة متاحة لهم ,يسعهم الاختيار من بينها ما هو أكثر ملائمة لأحوالهم وأكبر قدرة على تحقيق أهدافهم .
ثالثا: إنه لو وجدت وسيلة أخرى غير القتال تحقق المطلوب فالواجب اللجوء إليها والأخذ بها دون غبرها.
رابعا: إن الإسلام لم يجعل سياسة الصدام القتالي والصراع العسكري هو السياسة اللازم إتباعها دون غيرها , بل انه أتاح لأتباعه انتهاج سياسات عديدة تندرج من التعاون الى التنسيق إلى التحالف إلى المسالمة إلى الدفع , وجعل لهم الحق في تبني أي منها دون أن يلحقهم ذم أو إثم وفي هذا المعنى يقول الشيخ البوطي : وذلك لأن الجهاد في أصل مشروعيته غير ناظر الى هجوم ولا الى دفاع انما هو يستهدف إعلاء كلمة الله تعالى وإشادة صرح المجتمع الإسلامي السليم وإقامة دولة الله في الأرض ، فايا كانت الوسيلة المتعينة الى ذلك وجب إتباعها . وقد تكون الوسيلة لظروف ما المسالمة وبث النصيحة والتعليم والإرشاد عندئذ لا يفسر الجهاد إلا بذلك . وقد تكون الوسيلة لظرف آخر الحرب الدفاعية مع النصح والإرشاد والتوجيه فهدا هو الجهاد المشروع حينئذ .
وقد تكون الوسيلة المتعينة لظروف أخرى الحرب الهجومية فهي عندئذ ذروة الجهاد وأشرفه وإنما يقدر الظرف ويعين الوسيلة ويحددها الحاكم المسلم المتبصر الواعي المخلص لله ورسوله ولعامة المسلمين.
وهذا يعني أن جميع هذه الوسائل الثلاثة مشروعة في تحقيق الجهاد على أن لا يطبق منها إلا ما تقتضيه المصلحة الأمنية التى يقدرها الحاكم المخلص وتبادل التطبيق ليس من النسخ في شئ" ا.هـ .
ثالثا: غايات الجهاد النبيلة :
مقاصد القتال في شريعة الله عديدة و منذ عرفت البشرية الحروب والنزاعات وهي تضع لنفسها أهدافا وغايات من ورائها ، وصحيح أن بعض هذه الأهداف والغايات كانت في مجملها نبيلة سامية ولكن بعضها الآخر - وهو الكثير الغالب- كان مجرد انعكاس لنزعة الشر في الإنسان ؛ فالحروب تنشب في بعض الأحيان دفاعا عن حق أو دفاعا عن عرض، أو نصرة لمظلوم ، أو إجارة لمستضعف ، أو شهامة ومروءة ، أو أنفة وكرامة ، ولكنها في أحيان كثيرة تكون مجرد إشباع لنزعات الإنسان الذميمة ورغباته الدنيئة فى حب التملك والسلطة ء أو لقهر الناس واستضعافهم ء أو حسدا وطمعا ، أو فسادا أو جورا.
ــ جاء الإسلام ليبطل كل هذا العدوان والعبث وليلغي كل هدف رخيص غير جدير بإراقة دماء هذا المخلوق المكرم، وليجعل أهداف الحرب والقتال منحصرة في هدف واحد مجمل هو بمثابة الأصل الجامع لكل غاية نبيلة ( وقاتلوهم حق لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله) "الأنفال : ه"
وذلك مقصد الجهاد في الإسلام وهو مقصد أرفع من أن يكون مجرد هدف أرضى ومبتغى أسمى من أن يكون مجرد مطلوب بشري بل هو عبادة وطاعة وتوجه لله وحده ( فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو فى سييل الله ) .
ذلك ما حصر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم الجهاد المقبول اذ سئل ( الرجل يقاتل شجاعة ، الرجل يقاتل حمية ، و الرجل يقاتل ليرى مكانه, فأى ذلك في سببل الله؟.
فخرج بذلك كل الغايات الدنيوية وانحصر الأمر في غايه كليه تتفرع منها غايات فرعيه . غايه أساسيه هي : في سبيل الله ، ولتكون كلمة الله هي العليا .
فالقتال هنا يكون فى سبيل إعلاء القيم التى أمر الله بها كى ينتظم أمر الكون على هداها , تلك القيم التى اشار اليها القران الكريم فى قوله تعالى : (ان الله يأمر بالعدل والإحسان و إيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون ) "النحل : 90"
ــ الجهاد : تحرير لا استعباد .. حرية لا إكراه:
والجهاد بهذه النظرة يمثل حركة لتحرير الإرادة الإنسانية من كل ضروب العبودية لبنى الإنسان , وقد كان الصحابي ربعي بن عامر فقيها حين قال : ( إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة الناس الى عبادة الله الواحد القهار ومن جور الأديان الى سعة الدنيا والآخرة ) ذلك هو الإعلان الاسلامى عن مقاصد هذا الدين وعن مقصد الجهاد فيه.
ــ فالجهاد هو لتحرير الناس وإطلاق إرادتهم لا استعبادهم وسحق شخصياتهم, وهو لإقامة العدل بين الناس واحترام كرامتهم لا لظلمهم والجور عليهم, والجهاد جاء لتتسع الحياة وتنفرج وتتهيأ لهم قنطرة الى الآخرة لا لينصرفوا إلى ملذاتها وينعموا فى شهواتها وهم عن الآخرة معرضون , وإنما ليقيم لهم التوازن الدقيق بين طموحاتهم فى الدنيا ومتطلبات الآخرة على ضوء قوله تعالى : ( وابتغ فيما ءاتك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) " القصص : 77" .
ــ فالحرب شرعت فى الإسلام ؛ لتأمين الحرية التى كفلها الله لعباده , فلا قبول بالعدوان على كيانات البشر وحقوقهم , ولا قبول بوصايا تفرض عليهم من قبل أنظمة أو ممالك أو اتجاهات ، حتى الإسلام نفسه لا يقبل بان يكون عقيدة قهرية تفرض على الناس فرضا , ولكن يريدهم فقط ان يختاروا بينه وبين غيره بكامل حرياتهم ومحض إرادتهم فان اختاروا العيش فى دولته لزمهم ان يحترموا قانونها , وذلك حق تحتفظ به كل القوانين لنفسها .
ــ ان مهمة القتال فى الإسلام ان يزيل كل أشكال العبودية لغير الله , أن يكسر كل القيود المفروضة على عقول الناس، أن لا يبقى لجهة سلطان على الخلق يحول بينهم وبين اختيارهم لما تهديهم إليه عقولهم وتطمئن إليه قلوبهم فلا شك ان الدعوة الى الله , والدخول فى الإسلام لا يكون بالقهر والإكراه وإنما يكون طريقها الحجة والبرهان , ولو ترك الناس الإسلام يسرى بمحجته وبرهانه وخلو بينه وبين العقول ولم يضعوا فى طريقه العراقيل , لما سفكت قطرة واحدة من الدم فى سبيل الله , ولغزت دعوته العقول، ونفذت إلى القلوب ، والإسلام يسلك فى هذه الدعوة السلمية الاقناعية كل طريق تواضع عليه الناس فى دعوتهم الى المبادئ ودفاعهم عنها وبيانهم لمزاياها من خطب فى المجتمعات ومن كتب يرسلها الى الملوك والرؤساء ومن وفود يتلقاهم ويحسن وفادتهم ويبين لهم ما يدعو اليه .
فالإسلام شرع الجهاد فى إطار قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين ) "البقرة 256" , تلك الآية التى انزلها الله تعالى عندما جاء بعض الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجبروا أبناءهم الذين تهودوا على اعتناق الإسلام فنزل الوحي بان : ( لا إكراه فى الدين )؛ لان الإسلام حركة تحرير لا إكراه , وظل هذا هو القانون الحاكم للمسلمين فى فتوحاتهم , وظل بقاء أرباب الديانات المختلفة فى ديار الإسلام منذ دخوله إليها والى اليوم شاهد على حقيقة الجهاد وغايته النبيلة .
رابعا: الجهاد حكم شرعى :
جعل الاسلام من الجهاد ذروة السنام فى بنيانه , لما يلعبه من دور حيوى فى حفظ البنيان من هجمات الأعداء وما يقوم به من تحرير إرادة الناس للاطلاع على الإسلام بحرية دون إكراه .
والجهاد فى سبيل الله بذلك يكمل منظومة الأحكام الشرعية التى جاء بها الإسلام لمعالجة الواقع وتنظيم الحياه .
وكون الجهاد حكما شرعيا يرتب على الفور نتيجة هامة الا وهى ان ضوابطه ومجالاته وأحكامه التفصيلية وأسبابه وشروطه وموانعه سوف تؤخذ من مشكاه الوحى لا من دواوين الحماسة او ثورات النفوس او هوى القلوب العابثة , وكون الجهاد حكما شرعيا يعنى عدة أمور :
1ـ ان الجهاد من حيث الأصل يندرج فى فروض الكفايات التى اذا ما قام بها بعض المسلمين سقط الإثم عن غيرهم , وهذا امر يتسق مع رؤية الإسلام فى توظيف قدرات الامة وهو ما اكده قوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) "التوبة 122".
ومن العجب اننا نجد اليوم من يوجب ليس الجهاد فحسب على كل الأمة الإسلامية من الصين شرقا حتى المغرب غربا بل يجعل التدريب على القتال والأسلحة فرض عين على كل مسلم ومسلمة .
2ـ أن الجهاد فى سبيل الله قد يتعين فى مواضع حددها العلماء , وهذه المواضع هى :
مداهمة العدو لديار الإسلام , وعلى من شهد القتال, وعند التحام الصفوف , وعلى من يعينه الإمام للقتال ، ولاستنقاذ أسرى المسلمين.
3ـ إن الجهاد فى سبيل الله كحكم تتطرق إليه الأحكام التكليفية الخمسة : أعنى بها الوجوب ، والاستحباب، والحرمة، والكراهة، والجواز؛ وذلك سواء كان الجهاد يقع فى جهاد الدفع او الطلب او كان فرضا عينيا او كفائيا .
والذى يحدد ذلك مدى توفر الأوصاف الشرعية التى علق الله على توفرها انفاذ الجهاد , ومدى تحقق المصالح المرجوة من وراء إنفاذه .
4ـ ان القول بإنفاذ الجهاد يستوجب توفر عدة أمور هى : السبب الشرعي المبيح له الشروط الشرعية المتطلبة لإنفاذه، وانتفاء الموانع التى تمنع منه , وغياب اى من هذه الأوصاف يمنع من إنفاذ الجهاد ويخرجه من الوجوب وقد يدخله فى عداد الممنوعات .
5ـ إن الجهاد فى سبيل الله تنطبق عليه القاعدة الشرعية التى تقرر : ( كما شرع الله الأحكام شرع مبطلاتها وروافعها ) . فحكم الجهاد شرع فى مواضع وجعل له روافع ترفعه , وذلك مثل عقد الذمة يرفع حكم جهاد من عقدها من اهل الكتاب مع المسلمين .
6ـ إن أحكام الجهاد التفصيلية تتنوع بتنوع أصناف الذين أباح الإسلام قتالهم فلا يصح معاملة كل الخصوم معاملة الكفار رغم وجود فارق بينهم وبين الكفار ولذلك فان الشريعة جعلت أحكاما متميزة لكل صنف من هذه الأصناف , ومن هنا نجد كتب الفقه تعقد فصولا لقتال المشركين و قتال المرتديين وقتال اهل الكتاب وقتال البغاة .... إلخ.
7ـ إن الجهاد فى سبيل الله يرتبط ارتباطا جوهريا بأمرين هامين هما :
أـ القدرة على إنفاذه وهو ما يوجب التأكد من توفرها لان إهمال ذلك لا يعنى سوى الدخول فى مغامرات تدفع ثمنها الأمة وأبناؤها دون طائل من ورائها .
ب ـ تحقيق المصالح المعتبرة شرعا ودرء المفاسد القائمة والمتوقعة , والمصالح المقصودة هنا ليست المصالح الشخصية حتى لو كانت سامية ـ كنيل الشهادة ـ انما هى المصالح الجماعية للأمة والتى لا يصح إضاعتها او تعريضها للخطر للحصول على مصلحة لبعض الإفراد ولو بالاستشهاد الذى قد تخلفه مفاسد تؤثر سلبا على حاضر ومستقبل الأمة بأسرها .
وبالنظر للدلالات السابقة سندرك ان تنزيل أحكام الجهاد الشرعية على الواقع المعاش لابد ان يسند لأهل العلم والاجتهاد ,اذا ما أردنا إنفاذا صحيحا للجهاد يحقق المصالح ويدرا المفاسد ويحقق الرضوان والقبول للمجاهدين من رب العالمين .
يتبع :الجزء الثانى