إذا كانت البكتيريا قد أصبحت أشد مقاومة للمضادات الحيوية بشكل يدعو الى القلق حقاً، فإن السبب وراء ذلك يعود الى الاستخدام المفرط لتلك المضادات، هذا علاوة على امتلاك  البكتيريا بحد ذاتها لترسانة استراتيجية حقيقية تجعلها قادرة على تجنب التهديدات واتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة منذ ان تبدأ التغيرات الكروموزومية التلقائية وصولاً الى تجزئة او تقاسم المعلومات الجينية او الوراثية.

 

ربما يجدر بنا ان نعود الى أواسط الاربعينات من القرن العشرين، كيف نقف على حقيقة او طبيعة الأمر، والتعرف الى الكيفية التي غدت من خلالها البكتيريا مقاومة شرسة للمضادات الحيوية، ففي تلك الفترة ادى ظهور البنسلين، ومن بعده الستربتومايسين الى فتح الباب على مصراعيه للدخول في عصر المضادات الحيوية.

وكان ذلك العهد مملوءاً بالوعود المتفائلة لاسيما وان هذه العقاقير، ظهرت في وقت حرج بالفعل اذ كان العالم بأسره واقعاً تحت خطر الامراض البكتيرية او الناشئة عنها، ولذا فقد أدى ظهور هذه العقاقير الى انقاذ ملايين الأرواح من الموت الحتفي. والواقع ان تلك الوعود لم تكن متفائلة مائة في المائة، ففي العام ،1947 لاحت في الأفق مشكلة تتعلق بظهور انواع من البكتيريا قادرة على مقاومة البنسلين، والاسوأ من ذلك ان هذه العصيات الدقيقة اظهرت بسرعة فائقة قدرتها على الهروب من الاسلحة الفتاكة التي صنعت في الاصل من أجل القضاء عليها، الى درجة ان مقاومتها للمضادات الحيوية غدت في يومنا هذا من المشاكل الكبرى التي تواجه الصحة العامة.

الغريب في الأمر ان هذه المشكلة ظهرت في البداية داخل المستشفيات والمستوصفات حيث يتعرض المرضى الى خطر الاصابة بأنواع من العدوى المعروفة باسمها العلمي Mosocomial وهي أنواع خطيرة تصيب الاشخاص الذين يعانون من ضعف في نظامهم المناعي. يذكر ان هذه الكلمة المؤلفة من شطرين Moso وتعني باليونانية المرض وKomein وتعني العلاج او المعالجة. والمعروف ان الوسط المحيط بأجواء المستشفيات والمستوصفات يمتلىء بعدد من الجراثيم المسببة للامراض خلافاً لما يمكن ان يتصوره البعض، فثمة جراثيم غدت اشد مقاومة للأمراض، جراء خضوعها لتأثير العديد من المضادات الحيوية.

وحتى زمن طويل، ظلت الجرثومة العنبية المذهّبة Staphylocoque او كما تعرف باسمها الشائع “المكورات العنقودية” والتي تعتبر من أكثر الجراثيم خطورة، تتأثر بسرعة بالعقار “فانكومايسين”، لكن الأمر تغير في العام 1997 حينما تم الاعلان في اليابان عن أول حالة مرضية يقف امامها هذا المضاد الحيوي عاجزاً عن التأثير بتلك الجرثومة. ولقد كان هذا النبأ بمثابة القنبلة المدوية حقاً في عالم الطب، لأن ذلك يعني خروج الجرثومة من اطار المستشفى الى الخارج.

يذكر انه في الفترة الواقعة بين عامي 1987 - 2000 ارتفع معدل مقاومة جرثومة ذات الرئة (المسببة لالتهاب السحايا والرئات والتهابات الاذن) لعقار البنسلين من 3% الى اكثر من 50%.

فكيف وصل الامر الى هذا الحد؟ يقول الاطباء إنه يجب علينا اولاً التخلص من فكرة خاطئة متداولة كثيراً بين الناس والتي تتمثل في ان المضادات الحيوية التي تعتبر في غالبيتها مواد طبيعية صادرة عن فطريات ميكروسكوبية او بكتيريا ارضية، لا تحفز بشكل مباشر مقاومة البكتيريا لها - لا، فالواقع ان البكتيريا تتصرف مثل كل الكائنات الحية، بمعنى انها قادرة على التطور عن طريق حدوث طفرة في مادتها الوراثية - ويرى هؤلاء انه اذا سنحت هذه التغيرات المفاجئة في المادة الوراثية، احدى انواع البكتيريا القدرة على مقاومة أحد المضادات الحيوية، فإن البكتيريا الحساسة لهذا المضاد الحيوي، ستجد نفسها خارج اللعبة، في حين ان البكتيريا المقاومة، ستكون هي المستأثرة بالأمر.

وفي هذا الاطار يلاحظ، ان المضاد الحيوي يكوّن ما يمكن تسميته “الاختيار القسري” المؤدي الى تضاعف البكتيريا المقاومة التي كانت موجودة في الفئة التي يعمل المضاد الحيوي على استهدافها في الاصل ويكون “الاختيار القسري” في جو المستشفيات المعقم قوياً جداً، ولذا فإن الجراثيم التي تتمكن من البقاء على قيد الحياة هي الاشد مقاومة من بين كافة الجراثيم الاخرى. والواقع ان هذا الامر يساهم الى حد بعيد في تعزيز قوة العدوى المعروفة بال Mosocomiale.

ولو نظرنا الى الموضوع بشكل  اكثر دقة، لوجدنا ان المضادات الحيوية تعمل على مواجهة التطورات الحيوية الضرورية لتضاعف اعداد البكتيريا او لبقائها على قيد الحياة، ومن هذا المنطلق، قام العلماء على مدى سنوات طويلة، بتحضير اكثر من خمسة عشر نوعاً من الجزيئات ذات التأثير المختلف، فمن هذه الجزيئات ما يتميز بقدرته على كبح عملية تصنيع وتجديد الجدار الذي يغطي غالبية الجراثيم، في حين تتميز بعض الجزيئات بقدرتها على مهاجمة الغشاء التحتي، اما الأنواع الاخرى منها فتمنع تكوّن البروتينات الاساسية او تقف حائلاً دون قراءة التعليمات الجينية التي يحملها الكروموزوم البكتيري الوحيد الى درجة انها تقوم ايضاً بكبح عملية استنساخ الرسالة الجينية التي تعتبر المفتاح الرئيسي للدورة التكاثرية.

من الكروموزوم حتى البلازميد

وأياً كان الحال، فإن مسألة المقاومة تتأتى من عدم قدرة المضاد الحيوي التأثير على هدفه، ويرجع ذلك إما الى حدوث تغير في الهدف وإما لعدم قدرة المضاد الحيوي على بلوغ الهدف المنشود جراء تعرضه للتدمير او لأنه غيرنشط بكل بساطة.

من ناحية ثانية يلاحظ ان كل البكتيريا المنتمية لنفس النوع لا تتأثر بالدرجة نفسها بالمضاد الحيوي المستخدم لأن بنية الهدف يمكن ان تتغير من نوع لآخر.

ويعتقد الباحثون ان البكتيريا المقاومة هي التي تختار المضاد الحيوي ومقدار قوته وفترة عمله، ولذا فإن الطب يواجه اليوم انبثاق نوعيات جديدة من المقاومة البكتيرية التي كان من الممكن القضاء عليها في السابق. ويرى هؤلاء ان هذه الظاهرة ترجع بلاشك الى حدوث طفرة او عدة طفرات كروموزومية تلقائية انتقلت فيما بعد الى السلالات البكتيرية المتحدرة من سلفها، لكنها في الحقيقة ظاهرة نادرة ولا تخص سوى 10% من الأنواع المقاومة.

ويقول الباحثون ان أشد ما يقلقهم يتعلق بقدرة البكتيريا على تبادل المعلومات الجينية مع أنواع اخرى من البكتيريا.

ويشير هؤلاء الى ان هذه الظاهرة ترجع الى وجود عناصر جينية صغيرة متحركة لدى البكتيريا المقاومة وهي عبارة عن اجزاء دائرية من الحمض النووي (DNA) تسمى البلازميدات.

ويمكن لهذه البلازميدات ان تنتقل من بكتيريا الى اخرى ترتبط معها ارتباطاً وثيقاً. ومن الملاحظ ان هذه الآلية في التواصل البكتيري تؤدي الى حدوث امتزاج في المعلومات الجينية الى درجة ان هذا التمازج يمكن ان يكون مدمراً لأنه عند الانتهاء من عملية النقل، فإن المعلومات الجينية المسؤولة عن المقاومة تصبح مستنسخة بمعنى ان البكتيريا المانحة وتلك المستقبلة، تمتلك كل واحدة منها نسخة خاصة بها تنقلها بدورها الى اجيالها المقبلة.

ويمكننا تشبيه ذلك بكرة ثلج صغيرة فكلما تدحرجت فوق الثلج ادى ذلك الى تعاظم حجمها، وهكذا الامر بالنسبة للبكتيريا المقاومة.

ويرى بعض العلماء ان هذه الطريق في استنساخ المعلومات الجينية المسؤولة عن المقاومة، لا يمكنها بمفردها تفسير سرعة تعاظم وتيرة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. ولوحظ من خلال التجارب ان البلازميدات التي تحمل في العادة عدة جينات مقاومة تقوم باستعارة جينات جديدة لدى عبورها الى بكتيريا مضيفة، لأن عدداً من الجينات المقاومة تظهر خصوصية غريبة تسمى ب”الجينات القافزة”، تتمثل في قدرتها على التنقل من الكروموزوم الى البلازميد والعكس بالعكس باستخدام طريقة “القص واللصق”.

ومن المثير ان نعلم ان عدداً من الجينات المقاومة، تأتي من أنواع بكتيرية متميزة بمقاومة طبيعية استمدتها من بكتيريا ارضية تستخرج منها في الاصل المضادات الحيوية. وفي العادة تمتلك هذه الجينات الترياق الواقي الذي يمكنها من جعل البكتيريا أشد مقاومة عند التقائها مع المضاد الحيوي.

ومما يثير الشفقة حقاً ان الاستخدام المفرط وغير الملائم للمضادات الحيوية ساهم الى حد بعيد في تنشيط الانواع البكتيرية المقاومة وساعد في استفحال الامراض، فعلى سبيل المثال لم يزل الكثير من الاطباء يصفون المضادات الحيوية للمرضى المصابين بالتهاب في اللوزتين علماً بأن 80% من هذه الالتهابات تعود لأسباب فيروسية وليس بكتيري.

ولاشك ان الخطأ في ذلك يعود الى الاطباء والى المستهلكين ايضاً الذين يعتقدون جزافاً ان المضادات الحيوية هي الترياق الوحيد القادر على الشفاء. ومن المعروف ان المتابعة السيئة للعلاج والوصفات غير الملائمة (جرعات ضعيفة جداً، علاج طويل الأجل او غير كاف..) كلها تساهم في نهاية المطاف في تطور واستفحال الجراثيم المقاومة.

ولوحظ اثناء اجراء بعض التجارب على الحيوانات ان المضادات الحيوية تساهم في زيادة وزن هذه الحيوانات وخاصة عند المواشي.

ومن الناحية النظرية فإن الأنواع البكتيرية الحيوانية والبشرية تختلف عن بعضها بعضا، علماً بأن البكتيريا الحيوانية المقاومة توجد في المواد البرازية التي تلوث النباتات التي يتغذى عليها الانسان لاسيما ان كانت غير مغسولة بعناية. ومن الممكن ان توجد البكتيريا المقاومة في اللحوم او البيض النيئ، وكل ذلك ينتقل في النهاية الى الجهاز الهضمي للانسان حيث تتلاقى اعداد وانواع كثيرة من البكتيريا وتقوم بتبادل الجينات فيما بينها ويكون الضحية هو الانسان بعينه. ومن هذا المنطلق، يلاحظ ان جهدا كبيرا يجب ان يبذل لتأسيس عرف منطقي لاستخدام المضادات الحيوية، لأن ذلك هو الحل الوحيد الذي من شأنه العمل على التخلص من التطور المهلك للبكتيريا المقاومة. ومنذ نهاية العام 2002 ظهرت بوادر أمل تشير الى امكانية التعرف الى بعض الالتهابات (التهاب اللوزتين) من خلال اختبار بسيط يبين لنا إن كان الالتهاب بكتيري الأصل ام بفعل الفيروسات.

وفي اطار الابحاث التي تجرى حالياً على قدم وساق داخل المختبرات، يقول بعض الباحثين انهم بصدد الاعتماد على التطورات في مجال البيولوجيا الجزيئية لاكتشاف أنواع جديدة من المضادات الحيوية التي تفتك بالبكتيريا المقاومة وذلك عن طريق التحكم بالانقسام الخلوي وكبح التفاعلات العادية بين البروتينات البكتيرية ومنع عمليات الأيض في مراحلها المبكرة من تكوين البنيات الأساسية للبكتيريا. وثمة استراتيجية اخرى تهدف الى الاستفادة من المصادر الطبيعية لاستخراج مضادات للبكتيريا من الحشرات، بالاضافة الى استخدام الفيروسات الملتهمة للقضاء على البكتيريا المقاومة.

  • Currently 25/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
8 تصويتات / 231 مشاهدة
نشرت فى 1 مارس 2011 بواسطة gamalh2020

ساحة النقاش

جمال عبد العظيم

gamalh2020
استشاري تصنيع غذائي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

182,170