<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]-->
<!--<!--<!--[if !mso]> <object classid="clsid:38481807-CA0E-42D2-BF39-B33AF135CC4D" id=ieooui> </object> <style> st1\:*{behavior:url(#ieooui) } </style> <![endif]--><!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
المشاركة الشعبية في التعليم
لماذا ، في ماذا ، كيف ؟
إعداد
د/ جمال علي الدهشان
بحث مقدم الى
المؤتمر العلمي السنوي الثاني للجمعية المصرية للتربية المقارنة والإدارة التعليمية ‘‘ إدارة التعليم في الوطن العربي في عالم متغير ‘‘ – كلية التربية – جامعة عين شمس – يناير 1994 .
مقدمة:
العلاقة بين التعليم والظروف والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع وثيقة ومتبادلة، فالتعليم يتأثر دائماً بهذه الظروف والتحولات ويؤثر فيها، والواقع أن هذا شيئاً طبيعياً، فالتعليم باعتباره منظومة فرعية من البنية المجتمعية الكلية لا يمكن أن يظل بعيداً عن التحولات التي يمر بها المجتمع، أو أحد أنظمته الفرعية (النظام الاقتصادي أو النظام السياسي مثلاً) هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الهدف من التعليم – أو أحد أهدافه– هو إعداد النشء للحياة في المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن ينفصل عن أحوال المجتمع وظروفه وبالتالي لا يمكن أن ينفصل عن أحوال المجتمع وظروفه، وعما يدور فيه من حوارات تتعلق بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
والواقع أن المجتمع العالمي قد شهد الفترة الأخيرة مجموعة من التحولات أو التغيرات، أكد كثيرون أنها تحولات تاريخية جذرية سوف يقف المؤرخون أمامها فيا بعد جاعلين منها منعطفات كبرى تفرق بين عصر وعصر، وقد تمثلت هذه التحولات في اتجاه الجمهرة الكبرى من المنظومة الاشتراكية إلى الليبرالية لتتاح الفرصة للجهد الشعبي الخاص، لا للتعبير عن الرأي فقط، وإنما كذلك للمشاركة في مجالات الإنتاج والخدمات.
وقد ألقت هذه التغيرات بظلالها على المجتمع المصري، فارتفعت أصوات عدة تطالب بإعادة النظر في القطاع العام، وتحويل ملكية بعض وحداته إلى القطاع الخاص، وتنشيط وتوسيع نطاق المنافسة في إنتاج وتسويق كافة السلع والخدمات، والتوسع في تحميل تكلفة الخدمات العامة إلى المستفيد مباشرة، وتخفيض القيود على حركة القطاع الخاص ومبادءاته وغيرها من السياسات التي أطلق عليها التخصيصية أو الخضخضة، وفي المقابل ارتفعت أصوات أخرى تحذر من هذا التوجه، مؤكدة أنه قد يتيح الفرصة لعودة الاستغلال لرأس المال، واهتزاز مبدأ تكافؤ الفرص والإخلال بسياسة العدل الاجتماعي وغيرها، هذه التحولات والحوارات انعكست بدورها على التعليم حيث ارتفعت أصوات تطالب بضرورة أن تخفف الدولة من أعباء مسئوليتها عن التعليم، وتتيح الفرصة للقطاع الخاص أن يشارك في تمويله حتى لو كانت هذه المشاركة تتضمن الحياة الجامعية، ومن جهة أخرى تحفظ الآخر على ذلك خوفا من أن يؤدي هذا إلى حرمان الفقراء وذوي الدخل المحدود من فرص متكافئة في التعليم، واحتكار أبناء الأغنياء له أو غلبتهم فيه، ولعل أوضح مثال على هذه الحوارات ما حدث من جدل وحوار حول موضوع أنشاء جامعة خاصة في مصر (الجامعة الأهلية) وموضوع المشاركة الشعبية في التعليم.
فعلى الرغم من أن المشاركة الشعبية في التعليم مصطلح حديث نسبياً، إلا أنه يعبر عن اهتمامات قديمة، فممارسة مفاهيم العمل الجماعي الاتحاد والتعاون والتضامن المتضمنة في مفهوم المشاركة كانت منذ القدم في أصل التكوين الاجتماعي الأنثروبولوجي للإنسان، كما تمتد جذوره في التراث متمثلة في دعوة الأديان جميعها الجلية القوية إلى التكافل الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية والمشاركة الاجتماعية، وفيما قامت به الأوقاف الإسلامية من دور هام في خدمة العلم وطلبته من خلال إقامة المؤسسات التعليمية ومرافقها، دفع مرتبات المعلمين والإنفاق على الطلاب لا من حيث تحصيل العلم فقط، وإنما في المسكن والمأكل والمشرب والملبس والعلاج، وما أسهمت به وثائق الوقف من توجيهات وشروط خاصة بمحتوى التعليم وطرائقه، وشروط المعلمين، وعدد الطلاب وكل ما يتعلق بجوانب العملية التعليمية.
كما تمثلت هذه الاهتمامات فيما قامت به ا لجمعيات الأهلية الخيرية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر أوائل القرن العشرين من جهود (أهلية) كثيرة في نشر الثقافة والتعليم، بلغت ذروتها بإنشاء الجامعة الأهلية في مصر
عام 1908 بفضل مبادرة المصريين وجهودهم وتبرعاتهم خاصة الأثرياء منهم.
والواقع أن مصطلح المشاركة قد دخل إلى الأدبيات التربوية في بداية السبعينات من هذا القرن حيث يعتبر عام 1973 علامة مهمة في تاريخ هذا المصطلح إذا عقد مؤتمران عن المشاركة في مجال التربية، أحدهما دعت إليه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية QECD وعقد في يناير 1973 تحت عنوان تخطيط المشاركة في التربية Participatory Planning in Education والثاني عقده مجلس التعاون الثقافي التابع للمجلس الأوربي في نوفمبر من نفس العام لدراسة المشاركة والتدرب عليها في التربية
Participation in Education and Training for Participation.
وخلال شهر سبتمبر من عام 1976 نظمت اليونسكو في مقرها العام في باريس اجتماعا للخبراء حضره نخبة من الاختصاصين وممثلون من عدة هيئات دولية وهيئات معنية بالتربية والتعليم لدراسة اتجاه جديد في المشاركة يتمثل في مشاركة غير المهنيين في النشاطات التربوية، باعتبار هذا الاتجاه علامة مميزة من علامات إستراتيجية تربوية جديدة قوامها تعبئة جميع إمكانات المجتمع بكافة أنواعها من أجل تعليم أفراده، أو تعبئة طاقات كل من يقدر على التعليم لكي يسهم في العمل التربوي، وقد أوضح المجتمعون أن غير المهنيين هم أولئك الأفراد الذين لا يكون التعليم مهنتهم الرئيسية، ويستطيعون مع ذلك أن يطلعوا بدور في التربية بمعناها الواسع.
وقد تم إدماج مصطلح المشاركة الشعبية في الفقه التربوي العربي على حد تعبير ضياء زاهر من خلال الإستراتيجية العربية لمحو الأمية التي تبنتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأقرتها في مؤتمر الإسكندرية الثالث الذي عقد في بغداد في ديسمبر عام 1976 حيث أكد المبدأ الخامس لها على ضرورة تشجيع وتوحيد الجهود الشعبية والجماهيرية التطوعية المتاحة، وتوفير الإمكانات المادية والعلمية لها، وفتح الباب أمامها لتقديم إسهاماتها الفاعلة الممكنة في مجال تحديث المجتمع ومحو الأمية، وضماناً لتحقيق هذا المبدأ الهام من مبادئ الإستراتيجية انعقدت ندوة خبراء دعا لها الجهاز العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار في مدينة الكويت في المدة من 17-22 نوفمبر عام 1979 لدراسة مفهوم وأبعاد المشاركة الشعبية في مواجهة الأمية الحضارية وللوصول إلى صيغ واضحة تحدد فيها الأهداف والأدوار، وتوضيح أنماط التعاون التي يمكن أن تحدث بين الجهود الشعبية والحكومية.
كما عقد في بغداد في الفترة من 2-6 ديسمبر من نفس العام مؤتمر عن تنمية الجهود الشعبية في مواجهة الأمية الحضارية، تم خلاله دراسة واستعراض بعض التجارب العربية في مجال المواجهة الشعبية للأمية الحضارية.
وعلى المستوى المحلي اهتمت مصر بموضوع المشاركة الشعبية، والجهود الذاتية في مجال التعليم، بل اعتبرت الاهتمام بها، والعمل على تشجيعها أحد أبعاد سياستها التعليمية، كما أصدرت القرارات والقوانين التي تصورت انها تنظم هذه المشاركة، وتلك الجهود وتحدد أبعادها وتزيد من فاعليتها.
والواقع أنه على الرغم من هذا التاريخ الطويل والاهتمام المتزايد بالمشاركة الشعبية في التعليم أو ما يسميه البعض الجهود الأهلية في التعليم، والدراسات التي تناولت مفهوم المشاركة وأبعادها والعوامل المؤثرة فيها ودورها في حل بعض مشكلات النظام التعليمي، واهتمام وزارة التربية والتعليم بالعمل على تشجيعها وزيادة فاعليتها فإن الواقع يشير إلى وجود جدل وحوارات كثيرة على مفهومها وأبعادها ومبرراتها، وكيفية تشجيعها (تنميتها)، فمن ناحية يرى البعض أنه إذا كان شعار المشاركة الشعبية أو الجهود الذاتية يعكس ضرورات حقيقة، فإنه يتخذ صورة الحق المراد به باطل فالحكومة تعتبره مجرد مهرب لكي يتحمل الناس عنها بعض أعباء التعليم وأن الأمر يتطلب فقط ضرورة إعادة صياغة الأولويات في المجتمع، بشكل يؤدي إلى أن يأخذ التعليم حقه الكامل من الإنفاق العام، ومن ناحية أخرى يتساءل آخرون هل يمكن أن نطالب بالمشاركة في التعليم دون أن يكون ذلك من خلال المشاركة في كل شيء في الحكم والسياسة ووضع القوانين المنظمة للمجتمع؟ وهل تعني المشاركة أن يدفع القادرون أموالهم وينتهي دورهم بعد ذلك؟ وهل تقتصر المشاركة على فئة معينة دون غيرها من فئات المجتمع؟ وهل المبرر الاقتصادي فقط هو السبب في الدعوة إلى المشاركة من جانب الشعب في العملية التعليمية؟ وهل يمكن أن تكون هناك مشاركة المواطنين في حل مشكلات مجتمعهم تأتي بمجرد النداء بوجود مشكلة أم أنها تتطلب إلى جانب ذلك أشياء أخرى كثيرة، هذه التساؤلات والحوارات حول موضوع المشاركة الشعبية في التعليم دفعت الباحث إلى تحليل الدراسات والبحوث والمقالات التي تمكن الباحث من الحصول عليها التي تناولت موضوع المشاركة الشعبية بصفة عامة والمشاركة الشعبية في التعليم خاصة للتعرف على ما تضمنه من آراء وأفكار حول مفهوم وفلسفة المشاركة الشعبية في التعليم ومبرراتها ومجالاتها الشروط الضرورية لنجاحها وتوسيع نطاقها وزيادة فعاليتها في محاولة للإجابة عن التساؤلات الثلاثة التالية:
المشاركة الشعبية في التعليم...لماذا؟
المشاركة الشعبية في التعليم...في ماذا؟
المشاركة الشعبية في التعليم... كيف؟
أولاً: المشاركة الشعبية في التعليم... لماذا؟
تعددت وجهات النظر حول جدوى المشاركة الشعبية وضرورتها، والمبررات التي تدعو إلى ضرورة الأخذ بها في مجال تنمية المجتمع وتطويره بصفة عامة والتعليم بصفة خاصة، ويمكن تقسيم وجهات النظر هذه وفق المحاور التالية:
1- المشاركة كحاجة نفسية:
ويمثل هذا المحور وجهة نظر علماء النفس الاجتماعي والصحة النفسية في موضوع المشاركة وهم يرون أن مشاركة الفرد في صنع وإصدار القرارات المؤثرة في حياته وتشكيل مستقبله، تمثل حاجة من الحاجات النفسية الأساسية في حياته، يشعر من خلالها بأنه مرغوب ومحبوب وليس هامشياً منبوذا، ففي المشاركة يعرف الفرد قدره وقدرته،ويتلمس مكانه ومكانته،ولذل فهي آية صحة وقوة في الشخصية الإنسانية وسبيل من سبل هذه الصحة والقوة، وانطلاقا من ذلك كان أثر التدمير النفسي للبطالة لا يقل عن مأساتها الاقتصادية فهو قد يؤدي بالفرد في كثير من الحالات إلى صور كثيرة من الانحراف تعويضاً بل وانتقاما من حرمانه من المشاركة عن طريق العمل.
فإذا كانت قيمة الفرد تقاس بمدى تحمله لمسئولياته الاجتماعية تجاه ذاته وتجاه الآخرين بحيث يعتبر الشخص المسئول على قدر من السلامة والصحة النفسية، فإن مسئولية الفرد تتضح من خلال مشاركته في أعمال جماعته، تلك المشاركة التي تعد عنصرا أساسياً من عناصر المسئولية الاجتماعية، أو على حد تعبير سيد عثمان "آلتها أو جانبها التطبيقي من حيث أنها تشكلها أو تعمقها وتنقيها وترقيها"، ومن هنا تأتي أهمية وضرورة أن يشارك الفرد مع غيره في كل ما يتعلق بأمور مجتمعه بصفة عامة والتعليم بصفة خاصة انطلاقا من أهميته للفرد والمجتمع حاضراً ومستقبلاً.
2- المشاركة كمبدأ تنموي:
تعد المشاركة الشعبية مبدأ أساسي من مبادئ تنمية وتطوير المجتمع اجتماعيا وتربويا، فعملية التنمية كما يرى هوين كاوتري تخضع في الغالب لمطلبين، يتمثل الأول في اعتماد التخطيط العلمي من أجل تحقيق التنمية بالسرعة والتكامل المطلوبين وتعلق الثاني بضرورة اللجوء إلى المشاركة الشعبية ضماناً لنجاح هذا المجهود التخطيطي ولتكييفه مع الأوضاع الراهنة، فالتنمية الحقيقة والجادة لا تقوم إلا بالاعتماد على النفس من خلال الاعتماد على جهود الشعب كله، وليس على جهود عدد قليل من أفراده، ولذلك فتجاهل مشاركة المواطنين في التنمية أو ما يطلق عليه البعض "اللامشاركة الشعبية" أو "اللاتطوعية" يعد من المعوقات التي تقف في طريق التنمية، فالمشاركة الشعبية تعد وسيلة رئيسية وشرطا لازما لكل عمل إنمائي وتربوي ناجح، نظراً لما لها من دور هام في برامج التنمية يتمثل فيما يلي:
1- أن مشاركة المواطنين في برامج التنمية تجعلهم يدركون حجم مشكلاتهم وإمكانياتهم، وحقيقة البرامج والخدمات التي يشتركون فيها، وتتيح لهم فرص الاستفسار عن المشروعات المختلفة التي يشاركون فيها بل والاهتمام بها والمحافظة عليها وحسن استخدامها، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نمو الوعي والإحساس بواقع المجتمع ومشكلاته.
2- تؤدي المشاركة في الغالب إلى تنمية العلاقة بين الشعب وحكومته، وتقلل من شكوك المواطنين في أغراض البرامج الموضوعة، والتي غالباً ما تؤدي إلى انعدام (ضعف) الثقة بين المواطنين وأجهزة الحكومة وتحول في أحيان كثيرة دون نجاح برامج التنمية.
3- المشاركة تؤدي إلى أثراء القرارات المتصلة بالبرامج والخدمات المقدمة لهم، لأن القرارات والإجراءات المتخذة ستكون في ظل المشاركة أكثر ملائمة لمتطلبات الموقف الذي يتفاعل معه المشاركون، كما أن المشاركة يمكن أن توجه نظر الحكومة والمسئولين إلى بعض الميادين الجديدة للخدمات والأنشطة لم تكن متوفرة من قبل.
4- أن للمشاركة دوراً تدعيمياً وتكميلياً لدور الحكومة، فجزء ليس بالبسيط من خطط التنمية لا يتحقق ولا يكتب له النجاح إلى عن طريق مشاركة المواطنين فيه، فتكلفة بعض الخطط تكون أقل بفضل مشاركة المواطنين فيها الأمر الذي يمكن أن يسهم في توفير الجهود الحكومية لما هو أهم من المسئوليات الكبرى على المستوى القومي، أو في أداء هذه المسئوليات بصورة أفضل بمستوى أعلى، وبشكل يشبع طموحات المواطنين، فمثلاً في مجال المباني المدرسية يمكن أن تضاعف المشاركة الشعبية من القدرة على بناءها، لأن كلفة البناء تكون أقل بفضل مشاركة اليد العاملة المحلية التطوعية والمجانية في عملية البناء والصيانة، كما أن الأهالي يمكن أن يتولوا بناء الطرق الفرعية التي تؤدي إلى المدارس وهو ما يمكن أن يسهم في توفير جانب كبير من جوانب التكلفة.
5- يمكن للمشاركة من خلال الهيئات والمجالس المحلية أن تقوم بدور الرقابة والضبط، وهو أمر ضروري ويساعد الحكومة على اكتشاف مناطق الضعف والخلل في المجتمع، بل قد تمنع المشاركة أحياناً وقوع أخطاء من المسئولين التنفيذيين، إذا أنها تعتبر في هذه الحالة صمام أمن أمام أية احتمالات للانحراف.
6- تساعد المشاركة الشعبية أخيرا على أحداث بعض التغيرات اللازمة لمساندة عملية التنمية إذا كثيرا ما تقف بعض الاتجاهات أو التقاليد والقيم السائدة أمام نجاح عمليات التنمية، وهذه أمور لا يمكن تغييرها عن طريق القرارات أو بالقوة، وإنما يمكن تغييرها عن طريق المشاركة الشعبية حيث يقتنع المواطنين بأنفسهم ويقررون التغيير اللازم ويحددون اتجاهه ويرسمون وسائل أحداثه في المجتمع.
3-المشاركة كحق إنساني ومبدأ ديموقراطي:
تتجلى أهمية المشاركة الشعبية من هذا المنظور في كونها التعبير الصادق عن حق إنساني أكدته وتأكده المواثيق والدساتير الدولية المتصلة بحقوق الإنسان، والتي تؤكد على أن للإنسان الحق الكامل في المشاركة في قضايا مجتمعه عن طريق إبداء الرأي أو تقديم المعونة للآخرين، أو الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده بطريقة مباشرة أو غيرة مباشرة منظمة أو حرة، وكذا حقه في أن يشارك بحرية في الحركة الثقافية لمجتمعه، وهو ما أكد عليه المؤتمر العام لليونسكو في دورته التاسعة عشر، حيث أشر إلى أن لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكاً حراً في حياة المجتمع الثقافية، والعشرين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
فالمشاركة أذن كحق إنساني ومبدأ ديمقراطي تعطى للإنسان الحق في إخضاع كافة المسائل والموضوعات التي تؤثر في حياته وحياة جماعته ومجتمعه، للمناقشة وإبداء الرأي، بل والمساهمة في تنفيذ وتمويل المشروعات التي تتعلق به مع غيره من أفراد جماعته ومجتمعه وكذلك الحق في الاستمتاع بثمرات مشاركته وغير خفي أن هذا الحق ليس مطلقاً على عواهنه، بل أنه من المفيد أن يقترن بشيء من التخطيط يضمن فاعليته ويجنبه مخاطر الفوضى.
كما تأتي المشاركة من كونها تعد من أهم مقومات النظم الديموقراطية، التي تقرر المشاركة في اختيار الحكام وفي أسلوب تداول السلطة والحكم، وذلك من خلال نظم الانتخاب والاقتراع السري دون تمييز في اللون أو الجنس أو العرق أو الديانة، فالمشاركة تعبر عن مدى ديموقراطية النظام السياسي الحاكم، وبيان لمدى حرصه على توفير كافة المنبهات والفرص السياسية اللازمة لقيام المواطنين بمباشرة أدوارهم في صنع القرارات المتعلقة بهم وبوطنهم، وبما يؤدي إلى تعميق انتمائهم لهذا الوطن والحفاظ على وحدته وحرياته والذود عنها.
في هذا الإطار تصبح المشاركة في مجال التعليم تعبيراً عن ديموقراطية التعليم من حيث قدرتها على زيادة اهتمام الفئات المستفيدة من العملية التعليمية بها، وتؤكد الشعور بالمسئولية تجاهها، وتؤمن تحريك طاقات عديدة متوفرة في المجتمع، يمكن أن تساهم في معالجة قضية التربية ومشكلاتها، وهي أيضا وسيلة لتوفير الموارد المالية والطاقات البشرية والمواد اللازمة لزيادة فاعلية النظام التعليمي، الامتيازات التي تتمتع بها بعض الفئات الاجتماعية المسيطرة دون غيرها بشمول كافة أفراد المجتمع بالخدمات التعليمية، فالتربية لم تعد للنخبة، ولم تعد منحصرة في مرحلة معينة من مراحل العمر، بل تشمل المجتمع بأسره ومتواصلة مدى الحياة، ليس بالنسبة للتعليم قبل الجامعي فحسب، بل امتد للمتقدمين، وصار التعليم العالي حقاً مكتسباً للجماهير التي تمارس ضغوطها من أجل الحصول عليه، فالطلب المتزايد على التعليم العالي يعد سمة من سمات التحويل من التعليم العالي للصفوة إلى التعليم العالي الجماهيري، أو التعليم العالي للجميع.
فديموقراطية التعليم تعني توفير فرص تعليمية تشمل كل أفراد المجتمع هذا من ناحية واشتراك أو اهتمام الفئات المستفيدة من العملية التعليمية بها من جهة أخرى، فإقامة التربية على أسس ديموقراطية ليس معناه توفير المزيد من العلم لعدد أكبر من الناس فقط، بل معناه أيضاً اشتراك عدد أكبر من الأشخاص في تسيير شئونها.
4- المشاركة كضرورة تربوية:
أن أهمية المشاركة الشعبية في التعليم لا تكمن فقط في اعتبارها حاجة من حاجات الإنسان الأساسية ولا لكونها تعبيراً صادقا عن حق من حقوق الإنسان ومبدأ ديموقراطياً، ولا بكونها أداة للتنمية الفعالة ومبدأ هام من مبادئها، بل لكونها أيضاً ضرورة تربوية هذه الضرورة تفرضها طبيعة التربية، وطبيعة الظروف المحيطة بالنظم التعليمية تتمثل في الجوانب التالية:
أ- أن التربية والتعليم قضية عامة تشغل وتهتم كل الناس وتمس حياتهم وحياة أبناءهم، إذ لا يوجد على وجه التقريب منزل إلا وله ابن أو ابنه أو أكثر في دور العلم، الأمر الذي يتطلب ضرورة مشاركة أولياء الأمور في قضايا وسياسات تعليم وتربية أبناءهم، باعتبارهم أصحاب المصلحة الأساسية في التعليم، ومن حقهم التعبير عن آرائهم حول سياساته وإجراءاته وعن تقيمهم لنتائج التطبيق ومشكلاته، كما أن هناك كثيراً من الجوانب في النظام من معلمين ونظار وإداريين وتلاميذ، للتعرف على آرائهم حول ما يتبع من سياسات وإجراءات تعليمية وما يواجهونه من مشكلات،وما يقابلونه من صعاب بسبب هذه السياسات والإجراءات بما يؤدي إلى إعطاء صورة حقيقة عن واقع التعليم ومشكلاته، ويسهم في وضوح الرؤية وسلامة البصر لدى مسئولو التعليم، ولذلك فمن الضروري أن يصحب كل مشروع من مشروعات التعليم حتى تتبناه وتحرص عليه وتتدافع في سبيل تنفيذ، وهو ما يتطلب ضرورة أن يستند ذلك المشروع على اتفاق مجتمعي حقيقي، وإلى تجريب مدروس حتى لا يتسبب في أضرار بعيدة المدى تؤثر على أجيال متعددة، أو يتسبب في أجراء تغيرات مفاجئة تؤدي إلى نظام تعليمي غير مستقر، فالتعليم قضية كل مجتمع، الأمر الذي يتطلب ضرورة أن يشترك المجتمع كله في الحوار حوله، وفي المشاركة في تطوير وحل مشكلاته.
ب- أن للتربية جوانب متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ولذلك فالطريق الصحيح لحسن تشخيصها والتصدي لحل مشكلاتها إنما يكون باجتماع ومشاركة جملة من المهتمين بهذه الجوانب فمعالجة مسائل التربية تتطلب التعاون الصادق بين جهات تربوية وغير تربوية، فمشاركة الاقتصاديين ورجال السياسة والإعلام والمهندسين والإداريين والأطباء بالإضافة إلى ممثلي مختلف ميادين الابتكار الفني والفكري في النشاطات التربوية عامل هام في إثراءها وإدراك مشكلات تطبيقها على أرض الواقع.
ت- أن الجهود التي تبذلها كثير من المجتمعات حالياً لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتطلب أنشطة تربوية لا يمكن أن يتحمل المعلمون وحدهم كل أعبائها (حملات محو الأمية الإرشاد الزراعي، تأمين لا مركزية النشاطات الإنتاجية وما يتصل بها من نظام التسيير الذاتي ومشاركة العمال في إدارة المؤسسات... وغيرها)، ثم أن تطور وسائل العمل والإنتاج بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي جعل بعض المؤسسات سواء في الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو المعاملات المالية تبدو أقدر من المدرسة على التعليم والتدريب كل في مجالها، ولذلك بفضل ما صار يتوافر لها من خبرات ومهارات وإمكانات، ومن ثم أصبح العاملون في هذه المؤسسات مطالبون بجانب نشاطهم الإنتاجي بالإسهام في الأنشطة التربوية، فمواقع العمل والحياة العائلية وحياة الجمعيات والتنظيمات المعاصرة تعبر عن حاجات تربوية وثقافية تستلزم اكتساب وإنتاج معارف جديدة،وتعلم أساليب وطرائق جماعية جديدة لا تتوافر دائماً في أطار التعليم النظامي في شكله الحالي، وتسمح الاستعانة بغير المهنيين أو مشاركتهم بتلبية هذه الحاجات إلى حد كبير.
ث- أن مشاركة المواطنين في برامج ومشروعات التنمية المحلية بصفة عامة والتعليم بصفة خاصة تساعد على تعليمهم وتدريبهم مستقبلا على مواجهة وحل مشكلاتهم، ويعبر "روس" عن هذا البعد التربوي قائلا أن اشتراك الأهالي في تغيير مجتمعهم كفيل بتغييرهم أنفسهم، فعندما يشترك الناس سويا ويتعاونون في تحديد الأهداف وفي التخطيط والتنفيذ، فإنهم يعدلون من اتجاهاتهم ويزيدون من قدراتهم ويكتشفون في أنفسهم مهارات جديدة، وكذلك يؤكد هوين كاوتري على ضرورة ألا يستند تقدير أثر المشاركة إلى معيار العائد أو الفعالية على الصعيد الاقتصادي فقط بالنظر إلى تعدد وظائف المشاركة فاتخاذ القرارات بطريقة ديموقراطية فعلية، وإتاحة الفرصة للفرد لكي يعبر عن شخصيته، لهما بحد ذاتهما قيمة كبرى، وإذا ما اعتبرنا معياراً أوسع لمفهوم الفعالية فإننا لا نستطيع تقدير أثر المشاركة في المدى القصير، أو إصدار حكم نهائي حول دورها وجدواها في أطار زمني محدود كالخطط الخمسية أو حتى العشرية للتنمية.
ج- الارتفاع المستمر في تكلفة التعليم خاصة مع غلبة القيم الديموقراطية ومبادئ الرفاهية والعدالة الاجتماعية وما ترتب على ذلك من زيادة في طموح الشعوب وكبر أمالهم وتوقعاتهم في الحياة، وزيادة اقتناع الناس بأهمية التعليم ورغبتهم فيه وإقبالهم عليه، واهتمام معظم دول العالم بعوامل الجودة في التعليم مثل إطالة عدد سنوات التعليم الإلزامي المجاني، وإطالة العام الدراسي واليوم المدرسي، وتقليل كثافة الفصول، والاهتمام بالمباني المدرسية والوسائل المعينة،والاهتمام بالدراسات التكنولوجية والتطبيقية، والتوسع في التعليم العالي... وغيرها من الأمور التي عادة ما تزيد من تكلفة التعليم، هذا بالإضافة إلى التغيرات في مستوى الأسعار، وارتفاع المستوى العام لاستثمارات التربية كالمرتبات وغيرها من المصاريف الجارية والرأسمالية.
لكل هذه الأسباب زادت تكلفة التعليم إلى حد فاق إمكانات أغلب الدول سواء المتقدم منها أو النامي، وجعل الدولة غير قادرة وحدها على القيام بدور الممول الأوحد للمشروعات التعليمية التي ترضي طموحات أفرادها، ولذلك فهي قد تلجأ إلى التخلي عن بعض مشاريعها التعليمية أو تأجيلها إلى سنوات قادمة، أو إلى دعوة الأهالي إلى المشاركة في تمويل بعض هذه المشروعات، فلقد أشر التقرير الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم بعنوان "مبارك والتعليم" عام 1992 إلى ذلك، حيث أكد أن الحكومة وحدها مهما رصدت من مبالغ ضخمة لإصلاح التعليم لا يمكنها أن تفي بمتطلبات العملية التعليمية والإصلاحات المنشودة خاصة في مجال المباني المدرسية التي ضاقت بطلابها، ولم يعد يصلح الكثير منها للحفاظ على الحد الأدنى للكرامة الإنسانية والأمر يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تكاتف كل الجهود الوطنية والمخلصة وإلى مساهمة القادرين من أبناء الشعب في تمويل التعليم.
والواقع أنه إذا كان ما سبق يبرر ويؤكد على ضرورة المشاركة الشعبية في التعليم، فهل تقتصر المشاركة على التمويل ودفع الأموال والتبرعات؟ وهل المشاركة تعني الجباية؟ أما أنها أشمل من ذلك بكثير؟ هذا ما سوف نتناوله في السطور التالية.
ثانياً: المشاركة الشعبية في التعليم... في ماذا؟
إذا كان مفهوم المشاركة الشعبية قد اجتاز مراحل عدة ارتبطت كل مرحلة بتيارات فكرية مميزة، فإن المشاركة كمنحنى اجتماعي (فلسفة حياة) يعد من أكثر مفاهيم المشاركة تقدما، باعتباره يتناول المشاركة على أنها عملية شاملة متكاملة متعددة الأشكال والأبعاد، تسعى إلى إشراك جميع أفراد المجتمع في جميع مراحل التنمية، فالمفهوم التقليدي للمشاركة في مرحلة من مراحل التنمية لم يعد مقبول الآن ولا يتفق مع دور المشاركة الشعبية وضرورتها بالنسبة للفرد والمجتمع.
فالمشاركة الشعبية عملية شاملة أو يجب أن تكون كذلك لكل مراحل وخطوات المشروع أو البرنامج التنموي، وبدءا من المبادأة فيه، وتصميم الخطة ووضعها، واتخاذ القرارات، والتنفيذ والتسيير، والمتابعة والتقييم، وإعادة توجيه الخطة،والمبادأة الجديدة وانطلاقا من ذلك يشير "سعد المغربي" إلى أن المشاركة الشعبية تتم على مستويات ثلاثة هي مستوى الفكر ومستوى الانفعال ومستوى الفعل، ففي المستوى الأول تتاح الفرصة لجميع الناي للإسهام بالرأي والمشورة سواء كانوا من ذوي العلم والخبرة والدراسة، أو كانوا من عامة الناس، مع ضرورة توافر الوعي والمعرفة والموضوعية، أما المستوى الثاني ففيه يعبر الناس بالرضا أو الغضب، تأييداً أو احتجاجاً عما هو مقبول أو مرفوض قراراً أو سلوكاً أما المشاركة على مستوى الفعل فتعني تقديم الجهد كما تعني تقديم المال كل على قدر طاقته، وكل ما يملك من مال أو ممتلكات كالأرض والأجهزة والأدوات.
ويميز "سيد عثمان" بين ثلاثة جوانب في المشاركة أولها تقبل الفرد للأدوار الاجتماعية التي يقوم بها، وما يرتبط بها من سلوك وتبعات وتوقعات، وثانيها المشاركة المنفذة أي المشاركة التي تنخرط في العمل الفعلي المشترك فهي مشاركة انجاز، وثالث هذه الجوانب المشاركة المقومة وهي مشاركة موجهة وناقدة.
ويرى "حامد عمار" أن للمشاركة ثلاث حلقات مترابطة ومتلاحمة، تتمثل في المشاركة في تحديد الهدف،والمشاركة في ترجمة الهدف إلى عمل إيجابي من خلال الوسائل والإمكانات اللازمة، وأخيراً المشاركة في الاستمتاع بثمرات يعتبر أهداراً لجانب من جوانب المشاركة، ويشوه إشباعها لإنسانية الإنسان، فالمشاركة في العمل قد تكون متاحة للرقيق، ولكنه محروم من المشاركة في تقرير نوع العمل، كما أنه محروم من الاستمتاع بعائد عادل لعمله.
ففي مرحلة تحديد الهدف، ينبغي أن يستثار أفراد المجتمع ومؤسساته المعنية في وقت مبكر لكي يكون لهذه الاستشارات حظ في التأثير على تعيين الأعمال والمشروعات الواجب تنفيذها، فالإسراع بالمشاورات منذ بدء عملية التخطيط يقلل من احتمالات رفض الخطط التفصيلية التي استغرق إعدادها عدة سنوات في بضع ساعات كما يحدث أحياناً وعندما تتم المشاركة بصورة فعلية وناجحة خلال مراحل أعداد البرامج ووضعها، يصبح بالإمكان الذهاب بها إلى أبعد، فنعطي الهيئات الشعبية دورا في مراقبة التنفيذ ومتابعته والمشاركة في تسييره.
أما المشاركة في التنفيذ واتخاذ القرار فمن الضروري أن تتم على أساس المعرفة والفهم والمهارة، لا على أساس الأصل والقرابة أو النوع أو غير ذلك من معايير التحيز والتعصب، وإنما شعار المشاركة في العمل هو الشخص المناسب في المكان المناسب، بمعنى ألا يحرم أي شخص من تولي أي منصب في أي قطاع، وفي أي مكان ما دامت لديه القدرة على أداء العمل والوفاء بمسئولياته، أما مجال المشاركة في العائد أو الثمرات فيدخل فيها جانب العدالة في ضوء الجهد المبذول، كما يدخل فيها المشاركة في المفارم والتضحيات وتوزيعها العادل وفق ما تتحمله كل شريحة من شرائح المجتمع، فإحساس عضو الجماعة بسيادة العدل فيها يزيد من ارتباطه واهتمامه بها، وتقبله لأهدافها، ومشاركته في نواحي أنشطتها المختلفة.
في ضوء ما سبق يتضح أن المشاركة الشعبية في التعليم لا تقتصر في حقيقتها كما يتصور البعض على المساهمة في عملية التمويل فقط، أو على المساهمة في بعض مراحل التنفيذ فحسب، ولكنها تتعدى ذلك لتشمل كافة الجهود المبذولة من قبل كافة الأفراد على جميع المستويات بدءا بتحديد الاحتياجات وانتهاء بعملية التقويم وإعادة توجيه الخطط والسياسات اللازمة، ثم المشاركة في الاستمتاع بثمرات تنفيذ ذلك العمل، فإذا كنا نطالب الشعب بالمساهمة في نفقات التعليم، فإننا نؤكد على ضرورة أن يكون لهذه المساهمة عائد تربوي يتمثل في خدمة تعليمية جديدة تتوفر فيها الشروط الأساسية للتعليم الجيد.
فالمشاركة الشعبية في التعليم يمكن أن تكون مشاركة في تحديد فلسفته وأهدافه، ورسم سياساته وإستراتيجياته وتحديد إجراءاته وأولويات الإنفاق فيه، وفي إرادته وتوجيهه وتمويله وتوفير بعض خدماته ومرافقه من خلال التبرعات النقدية أو التبرعات العينية، أو من خلال المشاركة بالجهد والعمالة، أو توفير فرص جديدة للتدريب أو التعليم غير النظامي، بالإضافة إلى المشاركة في تقويم خططه وإجراءاته ونتائجه، ولعل في الرجوع إلى تراثنا وتجاربنا السابقة في مجال الجهود الأهلية ما يشير إلى ذلك.
فإذا كانت الأوقاف قد مثلت خاصة في العصر الأيوبي والمملوكي أعلى صور المشاركة أو الجهد الشعبي في مجال التعليم، فإن دورها في التعليم لم يق\تصر فقط على أنها كانت المورد المالي للمؤسسات التعليمية، بل تعدي الأمر ذلك إلى كافة جوانب العملية التعليمية، لأهداف التعليم، المقررات الدراسية وطرق التدريس مقر المدرسة القائمون بالتدريس، الخدمات الطلابية وغيرها، فوثيقة أو كتاب الوقف كان بمثابة اللائحة الأساسية للمؤسسة التعليمية والتي تضم الأسس التربوية للتعليم والشروط التي يجب أن تتوافر في القائمين بالتدريس ومواعيد الدراسة... وما إلى ذلك من التنظيمات الإدارية والمالية.
كما أن دراسة مجالات الجهود الأهلية في التعليم خلال الفترة من عام 1952 حتى عام 1980 قد أشارت إلى أن هذه الجهود قد شملت مجالات متعددة تمثلت في المساهمة في إنشاء وإصلاح المؤسسات التعليمية ومرافقها والاشتراك في رسم سياسة التعليم وخططه، والاشتراك في إدارة التعليم ومدارسه، وسد العجز في معلمي بعض المواد الدراسية، والمساهمة في مشروعات محو الأمية وتعليم الكبار، تقديم بعض الخدمات التعليمية (كتنظيم فصول تقوية، وتدريب الطلاب مهنيا خلال العطلة الصيفية، وتزويد المدارس بالكتب والأجهزة والوسائل التعليمية، وإصلاح وصيانة بعض الأجهزة والأثاث... وغيرها) بالإضافة إلى أقامة المدارس الخاصة.
والواقع أننا إذ كنا نؤكد على أن المشاركة الشعبية في مجال التعليم تتجاوز حدود المشاركة في التمويل أو التنفيذ لتشمل كل ما يتعلق بالعملية التعليمية، فإن ذلك يتطلب عدة أمور لابد من أخذها في الاعتبار، باعتبارها مبادئ وشروط أساسية لتوسيع نطاق المشاركة وزيادة فاعليتها، وهو ما سوف نتحدث عنه في الجزء التالي من الدراسة.
ثالثاً: المشاركة الشعبية في التعليم...كيف؟
إذا كان قد اتضح مما سبق أهمية وضرورة المشاركة الشعبية لتنمية المجتمع وتطويره، ولحل مشكلات التعليم وتطويره بصفة خاصة فإن هذه المشاركة من قبل الجماهير لا تأتي لمجرد النداء أو التنبيه، وإنما يتطلب الأمر توافر عدة شروط تدفعهم إلى المشاركة والعمل لصالح أنفسهم ومجتمعهم مشاركة حرة ميسرة (أي تتوافر فيها ميسرات المشاركة ومشجعاتها وظروفها وعواملها المؤيدة) وتتمثل هذه الشروط في الجوانب التالية:
1- توفير مناخ عام من الديموقراطية والحرية في كافة المجالات بالمجتمع، لإتاحة الفرص المختلفة للمواطنين للتعبير عن أنفسهم وحاجاتهم ومشكلاتهم، فالمطالبة بالمشاركة في التعليم تتطلب أن تكون المشاركة في كل شيء في الحكم والسياسة ووضع القوانين والقواعد المنظمة للمجتمع، فمن الصعب مثلا أن تتم مشاركة في أي مجال من المجالات، وهناك حزبا واحدا يحتكر الحكم، ففي سياق المشاركة تمارس المسئوليات بصورة دورية جماعية، بحيث تتوزع السلطة بين المؤسسات الديموقراطية، فيستطيع كل فرد من حيث المبدأ، أن يمارس السلطة، وأن يشارك في اتخاذ القرارات أو أن يكون في المقابل السلطة المعارضة للسلطة القائمة.ولعل ذلك يتطلب ضرورة أن تظهر السلطة الحاكمة من جهة استعداها للانفتاح على المناقشة العامة، بأن تعطي المواطن بإخلاص "حق الكلام" خارج الهيئات النيابية والإدارية التقليدية، وتعترف بأهميته وقدرته على الفهم والفعل والعطاء أيا كان موقعه أو مستواه الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، وأن توفر من جهة ثانية الشروط الفكرية والمادية لمثل هذه المشاركة محو الأمية، الإعلام، التنمية التربوية والثقافية المستمرة، بالإضافة إلى توفير المعلومات الحقيقة والصادقة عن قضايا المجتمع ومشكلاته، ففعالية عملية المشاركة رهن بالمستوى التعليمي للمشاركين، وبنوعية المعلومات المتوفرة لديهم، وبتوفير القنوات الشرعية التي تسمح بهذه المشاركة وتنظمها.
2- وجود التشريعات والمؤسسات الاجتماعية التي تنهض بعملية المشاركة وتنظم جهودها وتوظفها لخدمة المجموع، وتمكن لدورها بشكل كاف، إذ لا يمكن تحقيق المشاركة بصورة فعلية خارج إدارة سياسة حكومية وخارج تشريعات ومؤسسات اجتماعية تنهض بها، فالمشاركة أخذ وعطاء في إطار الجماعة أو الفريق أو المجتمع تخضع بالضرورة لقواعد وسنن تحكمها من أجل تنظيم العمل أو الجهد الجماعي وتوظيفه لخدمة المجتمع، ومن ثم كان تشريع القانون والإذعان له وتطبيقه والعمل على تطويره من الضوابط الأساسية الضرورية لتنظيم مشاركة البشر في صياغة الحياة، وهذا ما يقصد حين يشار إلى دولة المؤسسات. فالمشاركة المباشرة وغير المباشرة تتوقف إلى حد بعيد على الضمانات والفرص التي تتيحها السلطات الحكومية بموجب النصوص التشريعية والقانونية، خاصة في المجتمعات النامية والسلطوية، ذلك أن تحريك المشاركة الشعبية في هذه المجتمعات لا يتم تلقائياً لعمق ا�
ساحة النقاش