تجلّيات الحرف في دلالة السيّاق
فراس حجّ محمّد/ فلسطين
تجلّيات الحرف في دلالة السيّاق
هذه قراءة في نصّ "قدسيّة الحرف المشترك"* للشّاعرة اللّبنانيّة مادونا عسكر، إذ انتهجت الشّاعرة منذ فترة منهج كتابة النّصّوص الشّعرية القصيرة المكثّفة، والخالية من ثقل العناوين، قد لا تتعدى أحيانا أربعة أسطر قصيرة بعدد محدود من الكلمات، وبتقنيّة أسلوبيّة واضحة في تلك النّصّوص، معتمدة على العبارة الموحية والصّورة الشّعرية؛ وربّما افترقت في نصوصها عن نصوص شاعرات أخريات، لما تحتاجه من التّأمّل الّذي لا يحيل إلّا إلى النّصّ ذاته لتقرأه قراءات متعدّدة، محاولا تفكيك المعنى، مع أنّك لا تعدم النّشوة في كلّ قراءة وإن خاتلك المعنى وتأبّى عليك. وهذا ما لا يتوفّـر ولا يكون إلّا في النّصوص العظيمة الخالدة.
إنّ الشّاعرة في نصوصها المصوغة بتقنية التّكثيف العالية، تشعر بحاجتك لتأمّل ما في النّصّ من إيقاع، ومضطر لأن تقرأ ببطء، بل إنّ النّصّ يجبرك على فعل ذلك؛ فيُخضع القارئء لشروط خاصّة من القراءة، وصولا إلى صورة ذهنيّة بلاغيّة لتصوُّر الفكرة الّتي تسبح في الذّات كما تسبح الغيمة في مديد الفضاء.
لعلّ في هذا التّشبيه الأخير لتصوّر الفكرة بحاجة إلى مزيد من الإطناب لتوضيحه قليلا، لما له من ارتباط بالمعنى الشّعري، وكيف يحدث الشّعر، وكيف يؤوّل في نفس القارئ. فهو أشبه بالغيمة السابحة في الفضاء، تعطي معنى ولا تعطي، تأخذ منك جهدا كي تأتي إليها كما يشتهي الذّهن فتتمنّع عليك، تجعلك بين الحقيقة والمجاز، لتختار معناك الخاصّ بك، كما يفعل الرّائي للغيمة الّتي تغيّرت وتتغيّر كلّ حين، تبعا لعوامل ليس للرّائي دخل فيها.
في نصّ جديد للشّاعرة غير معنون، سأفترض له هذا العنوان "قدسيّة الحرف المشترك"، محاولا البحث في هذا النّصّ عن مكامن المعنى المتّصل بفكرة ذهنيّة تخاتل القارئ، تعطيه وتحرمه، وتظل في عناد التّأويل والتّلقي، لأن يسفر في الذّات معنى "خاصّ".
ولتكن البداية مع قراءة النّصّ:
أكتفي بحرفٍ جمعنا
كشف خدعة اللّغة
أفنى ضمائر أغوت بلاغة هشّة
حرفٌ
حلَّ في الوجد فتمجّد
سُمِع صوت الله في عمق الكلمة
تجذّرت لغة اسمك في نفسي
يتكون هذا النّصّ من (27) كلمة حسب التّصنيف النّحويّ للكلام العربيّ، ما يجعل النّصّ منتميا إلى فن "الأبيجرام"، هذا الفن الحامل لرؤاه مكتفيا بنظريّة "الاقتصاد اللّغويّ" والتّخفُّف من الحمولات الزّائدة حتّى البلاغيّة التّزيينيّة، لأنّ كاتبه لا يريد أن يشرح ولا يهمه أن يشرح، يريد أن يعبر عن المعنى، لأنه فقط يريد ذلك. كما أنّ النّصّ متخفّف من علامات التّرقيم، لا شيء فيه من فعل الكتابة غير كلماته الّتي جاءت على طريقة مخصوصة. هذه الكلمات السّبعة والعشرون توزّعت على سبعة أسطر، بتسع جمل، كلّها فعليّة إلا جملة واحدة جاءت اسميّة، تخلّصت من اسميّتها لتذوب في الجملة الفعليّة.
يبدأ النّصّ بالفعل "أكتفي" المسند إلى ضمير المتكلم، وهو الفعل الوحيد المسند إلى هذا الضّمير، لتكون كلّ الجمل المتبقّية مسندة إلى ضمير الغائب إلا جملتين؛ الأولى جاءت مسندة إلى نائب الفاعل "صوت الله"، والثّانية مسندة إلى اسم ظاهر "لغة". عدا ذلك فإنّ ثمّة اتصالا ما بين أوّل النّصّ وآخره، فقد بدأ بالذّات الشّاعرة وانتهى بها؛ جملة متجلّية كاملة لكلّ عناصر الجملة الفعليّة، جامعة الذّاتين، المتكلم والمخاطب معا، فكما بدأ النّصّ بالفعل (أكتفي)، فقد انتهى بكلمة (نفسي)، كأنّ المعنى مختصرا "أكتفي نفسي"، بعد أن جمعت إلى النّفس اسم المخاطب عبر الفعل "تجذّرت"، وهنا يكون الثّلاثة ذاتا واحدة (الشّاعرة، والمخاطب واللّغة) المعبّر عنها بالحرف.
هذا النّظام المحكم من البناء اللّغويّ يكشف عن طبيعة الشّاعرة الّتي تكتب بصمت، وتشعر بصمت وهدوء، كأنّ تلك اللّغة عندما تتخلّق في الذّات تستعير صفاتها، فثمّة علاقة بين العدد (27)، والعدد (7)، والعدد (9)، وتجلّي الرّقم (1) والرّقم (2) في هندسة النّصّ، هذه الهندسة المشغولة بتلقائيّة مدهشة تعرب عن نفسها في نهاية النّصّ أيضا لتؤول كلّ تلك الأرقام المتعالقة إلى الرّقم (1). كما أنّ المخلوقات كلّها تؤول إلى مصير واحد، أو حرف واحد، أو مصدر كونيّ واحد.
تكتسب المفردة في هذا النّصّ أهميّة خاصّة سياقيّة، كما هو المعهود في فنّ الشّعر، الّذي يمنح المفردات دلالات جديدة، ولعلّ كلمة "حرف" المفردة المركزيّة في النّصّ الّتي تدور حولها ومعها الدّلالة الذّهنيّة المشار إليها أعلاه، فقد وردت نكرة مرّتين، في سياقين مختلفين، وفي كلا السياقين يرتكز المعنى على هذه المفردة، ففي الجملة الافتتاحيّة "أكتفي بحرفٍ جمعنا"، يبدو الحرف هو المقصود والمآل الأخير، الجامع بين الذّاتين ذاتا واحدة، ويتكشف دور الحرف في أنّه يكشف خدعة اللّغة، فالحرف المفتوح على دلالات متعدّدة أصبح واضحا في تعدّديّته مقابل خدعة اللّغة، فما هي خدعة اللّغة إذن؟
ويكشف عن هذا المعنى المضاد بين اللّغة الخادعة والحرف المناقض للّغة في الوصف، المعاني المحتملة لهذه المفردة كما جاءت في المعاجم العربيّة؛ فمن هذه المعاني الطّرف والجانب، واللّغة واللّهجة، والطّريقة والوجه. كما يعني الحرف في سياقات أخرى النّتوء والظّهور والحدّ العالي المحدّد، كما تعني الشّكّ المناقض للطّمأنينة. عدا ذلك فهو كما تقول المعاجم العربيّة "الأداة الّتي تسمّى الرّابطة لأنّها تربط الاسم بالاسم والفعل بالفعل". ومما جاء في التّفسير لكلمة الحرف وهو ذات دلالة كبيرة في نصّ الشّاعرة مادونا عسكر ما أورده الأزهريّ في معرض الحديث عن القراءات المتعدّدة للنّصّ/ القرآن الكريم، ويصدق على كلّ نصّ إبداعيّ: "كلّ كلمة تقرأ على وجوه من القرآن تسمى حرفا"، وأكّد ذلك ابن سيده بشكل مطلق حيث قال: "والحرف القراءة الّتي تقرأ على أوجه"ّ.
إنّ هذه المعاني الّتي جمعتها المعاجم العربيّة لهذا المفردة يتحقّق في هذا النّصّ الّذي يخاتل ويناضل دون معناه الحقيقيّ بمعنى ظاهريّ وآخر باطنيّ، فقد ظلّت دلالة الحرف كما هي عائمة نكرة، تجاذبت أطراف المعنى حدّا واقفا بين الوضوح والمخاتلة، ما يعني أنّ لها أوجها متعدّدة في القراءة، انعكست على النّصّ ليصبح كلّه حرفا واحدا، تحقّق فيه أمران؛ أنّه نصّ يقرأ على عدة وجوه كما قال ابن سيده والأزهريّ، وأيضا أنّه حدّ أعلى للدّلالة ظاهرا فيه المعنى المركون في النّصّ متلصّصا على حدّين.
أمّا السّياق الثّاني لمفردة "حرف" فقد جاءت في السّطر الرّابع مستقلّة استقلالا تامّا، فاصلة النّصّ إلى قسمين متساويين، ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها، فجاءت كأنّها الحدّ الفاصل بين كيانين أو شيئين، وقد فارقت النّصّ ذا الجمل الفعليّة كذلك، في أنّها جاءت جملة اسميّة. وبذلك يصلح في هذا السّياق وصفها أنّها "الأداة الّتي تسمّى الرّابطة لأنّها تربط الاسم بالاسم والفعل بالفعل"، فقد ربطت جزْأيِ النّصّ وانتهت إلى دلالة جديدة، فبعد أن كانت اللّغة خادعة، تؤوّل (واللّغة معنى من معاني الحرف) إلى هذه اليقينيّة المنافية للشّكّ والمحقّقة للطّمأنينة مخالفة معنى آخر من معاني الحرف، ومشار إليه أعلاه: "تجذّرت لغة اسمك في نفسي".
هذا الحرف الّذي تجلّت معانيه الأخرى في النّصّ غير معنى اللّغة، فإنّه يعني كذلك الكلمة والطّريقة والوجه، ويحفل النّصّ بهذه المفردات وغيرها، ما يعني تحقّق هذه الغائيّة في نفس الشّاعرة، فهناك ألفاظ "ضمائر، بلاغة، الكلمة، اسمك"، وكلّها تنتمي إلى اللّغة/ الحرف انتماء عضويّا أصيلا.
وبهذه التقنيّة من البناء والتّعبير يقدّم النّصّ فكرته الّتي تماوجت على الحدّ ما بين الإبانة والغموض، ليبقى هناك مخاتلة للمعنى تفرض نفسها على القارئ، أبعد من الوصول إلى فكرة الاندماج بين الذّاتين واللّغة، كاشفة عن بلاغة معنويّة ليست "بلاغة هشّة" بكلّ تأكيد. معيدا ما قاله الإمام الرّضي: "واعلم أنَّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيئته الحروف الّتي جعلها أصلاً لكلّ شيء ودليلاً على كلّ مدرك، وفاصلاً لكلّ مشكل". ومن هنا تبرز أهميّة ما جاء في العنوان المقترح لهذا النّصّ "قدسيّة الحرف المشترك"، اشتراكيّة فاعلة بين الذّات، داخليّا وخارجيّا، وفاعليّة مقدّسة قداسة الكلمة والحبّ الّذي أنطق النّصّوص بفكرتها بجماليّة الوضوح والإبانة على ما فيها من غموض شفيف.
<!--[endif]-->
* نُشر النّصّ في الصّفحة الشّخصيّة للشّاعرة على (الفيسبوك).