اللُّغة في الرّواية
إلى من يهرفون بما لا يعرفون
فراس حج محمد
هل يصحّ أن أقول مثلا: إنّ اللُّغة مكوّن أساسيّ من مكوّنات الرّواية، وإذا كان هذا صحيحا ألا تعدّ اللُّغة مكوّنا أساسيّا في الشِّعر، وفي المسرح، وفي الفنون القوليّة كالخطبة مثلا؟ افتراض بدهيٌّ يجب ألّا يطرح أساسا. فكأنّنا إن طرحناه نسلّم بمنطقيّة طرح هذا القول: إنّ الجسد أحد مكوّنات الإنسان. هل تصحّ كينونة الكائن الحيّ دون جسد؟ وكذلك الأدب فلا يصحّ فكرا وواقعا دون لغة.
ولذلك سأتّجه نحو طبيعة لغة الرّواية، وحتّى تُفهم اللُّغة في العمل السّرديّ عامّة، والروائيّ بشكل خاصّ، لا بدّ من التّذكير أنّ الرّواية عالم متخيّل لواقع ما وكأنّها استعارة لغويّة كبرى لما تحيل عليه من واقع خارج معمارها الفنيّ، إذن سيكون هناك مستويات لهذه اللُّغة، لغة السّارد ولغة الشّخصيّات، وإذا حافظ السّارد على طبيعة لغويّة واحدة، فإنّ الشّخصيّات يجب أن تحافظ كلّ منها على لغتها، باعتبار اللُّغة جزءا واقعيّا من الشّخصيّة الإنسانيّة، وفنيّا يجب أن توازي ذلك الواقع. هنا لا بدّ من أن تتعدّد مستويات اللُّغة في الرّواية، وألّا تظلّ أسيرة السّارد/ الكاتب الّذي أنطق كلّ شيء، بصفته المتحكّم والعقل الأكبر الّذي يحكم حياةً ما، تخيّلها على شكل رواية، تحاول أنْ تصوّر واقعا ما أو تتشبّه به في أدنى الأحوال، فلا يجوز أنْ يسلب السّارد من الشّخصيّات لغاتها، عليه أن يتركها تمارس حرّيّتها في الحديث كما تشتهي، أليست مخلوقا له كيان مشخّص فنيّا، فلماذا تتم السّيطرة عليه تحت ذرائع شتّى، يحكمها الوهم والتصوّر العبثيّ لهذه الصّنعة المسمّاة "رواية"؟
لقد كثر أدعياء الأباطيل النّقديّة، وصار الأغلب يهرف بما لا يعرف، وصار حفظ المقولات وترديدها دون فهم سمة المتحدّثين المتفيهقين. وانتشرت غوغائيّة الأدب والأدباء. وحدث الخلط الّذي ينمّ عن فقر معرفيّ وجهل حقيقيّ في أمور الأدب، سواء بسواء، كما انتشرت فوضى في السّياسة وفي الديّن، هناك فوضى في النّقد، وفي الشّعر، وفي الرّواية، وفي مصطلحاتها، كما هو في كلّ مجالات الحياة، واختلط الحابل بالنّابل، وتساوى الجاهل بالعارف، بل صار الجهل في اقتراف المقولات النّقديّة متاحا، ويُسوّق على أنّه وجهة نظر محترمة.
وفي العودة إلى موضوع لغة الرّواية أقول: إنّ هناك ادّعاء لإمكانيّة وجود سماتٍ شعريّة للغة السّرد، كما أنّ هناك سمات نثريّة للغة الشِّعر، وأن لعبة التّجنيس لم تعد قائمة فتداخلت الأجناس، وصار الشِّعر سردا والسّرد شعرا، وما إلى ذلك من هذيان!
إنّ من يدعّي ذلك لا يعرف الشِّعر، وإن أصدر الدّواوين الشّعريّة، ولا يعرف الرّواية، وإن خلّف على رفوف المكتبات عشرات الرّوايات، ونال الجوائز، ولا يعرف النّقد، وإن تصدّر البرامج في الفضائيّات والمؤتمرات، فكيف سيكون الشِّعر بلغته المكثّفة البرقيّة الحادثة في لحظة إلهام غيبيّ حاضرا في جسد لغويّ واقعيّ يحاكي لغة الشّخصيّات ويتماثل مع واقعيّتها؟ أم أنّه سيكون في السّرد، وهنا ستكون المسافة اللّغويّة كبيرة، مع أنّ ذلك لن يجعل النّصّ شعريّا، ولن يستفيد الرّوائيّ غير غربة مضاعفة، تجعل النّصّ أعرج أعمى، يتخبّط في ضياع المتاهات الملتوية.
وهنا لا يجوز القياس على الشِّعر القصصيّ والملحميّ، ولا على الشِّعر المسرحيّ؛ لأنّ هذه ليست شعرا بالمفهوم الحقيقيّ للشّعر، وإنّما هي قصص اتّخذت من النّظم والوزن قالبا لها، فليست "قصائد" أحمد شوفي للأطفال شعرا ولا مسرحياته كذلك، ولا ملحمة هوميروس التّاريخيّة شعرا، ولا ما كتبه صلاح عبد الصّبور من مسرحيات بقالب الشِّعر هي من الشِّعر، ولا النّظم التّعليميّ القديم، كالألفيّات والدّينيّات السّيريّة تعدّ شعرا، إنّما كلّ ذلك سرد، أو "كُتَلٌ لغويّة" اتّخذت من القالب الخارجيّ للشّعر ملمحا خادعا ليكون شعرا، وهو في الحقيقة بعيدٌ عن الشِّعر بُعْد مشرق الشّمس عن مغربها!
فكيف إذن ستكتب الرّواية بلغة الشِّعر؟ عدا أنّ الرّواية خاضعة لمنطق محكم مدروس، والشِّعر ذو قانون خاصّ لا يخضع إلّا لقوانين خاصّة ينشئها لنفسه في كلّ لحظة إبداع، بحيث لا تتكرّر هذه اللُّغة، لأنّ اللّحظة لا تُكرِّر ذاتَها، هذه الطّقوس من الولادة الشّعريّة لا تعاني منها الرّواية، إنما الرّواية بناء لغويّ، وليس ولادة قسريّة بلغة خاصّة كما هو الشّعر، وهذا فارق دقيق بين اللّغتين، لغة تنضح من واقع ولغة تتنزّل من عالم الماوراء حدود منطق اللُّغة المعهود، واقتراف الرّوائيّ جملا تصويريّة خلال السّرد لا يجعل من اللُّغة شعرا، وإنّما يزيد من غربة الرّواية عن عالمها، فيؤدّي ذلك إلى تشويهها فتصبح "شيئاً ما" متداخل الخلقة كالكائن الحي الّذي لا تدري أهو ذكر أم أنثى!
ولكن، لماذا يلجأ الرّوائيّون إلى هذه الجرائم اللّغويّة؟ هل يعتقدون أنّهم يحسنون صنعا روائيّا؟ أظنّ أنّ من يفعل ذلك إمّا "روائيّ" هارب من الشِّعر فكان "شاعرا" عقّ الشِّعر وعقّه، فلجأ إلى الرّواية حاملا معه جينات ميّتة من بقايا شعر ميّت، فحاول إيهام القرّاء الجاهلين بطبيعة الأدب أنه يكتب رواية "تجريبيّة"، وهو لا يدري ما معنى التّجريب، فيرى أنّها تضيف الجديد بلغتها المميّزة، وهو لا يدري أنّه "يقبر" في متنه الرّوائيّ المشوّه آخر ما تبقّى من شاعريّته المهزومة!
وإمّا أنّه روائيّ ضحل في لغته، فيغرّب فيها ويشرّق ويتطفّل على الشِّعر، فيسرق منه ما لا يحسن له توظيفا، وكأنّ تلك المواد المرصوفة المسروقة ستحميه من الضّحالة وبؤس البناء، فيكون بذلك قد أضاع الرّواية وحكم عليها بالفشل الذّريع، ولكن مع ذلك لا تعدم من أن تجد من الأتباع والمرتزقة والكتبة الانطباعيّين الصّحفيّين الفاشلين أو المبتدئين من يروّج لهؤلاء تلك السّخافاتِ البِدْعيّةَ ويقول: إنّها الإبداع والتّجديد والتّجريب والتّجديف في بحر لجّيّ، والتّحديث والتّحديق والتّحليق، وما إلى ذلك من تاءات وتفعيلات وتوصيفات لا تقنع قارئا متمرسا، فما بالك بناقد خبير، فإذا به يمارس التّخريب الممنهج.
وقد يدّعي بعض الأرباع من المثقّفين أنّ الرّوائيّ قد يكون محكوما بلغة الشِّعر، لوجود شخصيّة الشّاعر في الرّواية، وهنا من حقّ المرء أن يسأل هؤلاء عن صنعة الرّواية ومهمتها، هل جاءت الرّواية لتعيد الشِّعر بصورة مشوّهة أم جاءت لتتحدّث عن شخصيّة ذلك الشّاعر، على الرّغم من أنّ معظم الرّوايات الّتي استطعتُ أن أصل إليها وتحدّثت عن شعراء، سواء أكانوا شخصيّات حقيقيّة أم بوصفهم "كائنات" روائيّة لم تنجح في إبراز الشّاعر وسيكولوجيّته الإبداعيّة وشاعريّته؛ لانعدام فهم الرّوائيّ لشخصيّة الشّاعر في حقيقة الأمر، ولهذا الفارق بين الشّخصيّتين الرّوائيّ والشّاعر، ولذلك العداء الخفيّ بين الشّاعر والسّارد فنيّا على الورق، وهذا العداء هو عداء لغويّ بالضّرورة، مع أنّ الأمر لا يخلو من أبعادٍ تنافسيّة بينهما على أرض الواقع، يتنازعان المكانة والشّهرة، ويعتدي كلّ منهما على حقوق الآخر اللّغويّة والفنّيّة، تحقيقا للذّات الّتي تضخمّت وغدت مرضا ثقافيّا مستفحلاً.
إنّ تمسّح الرّوائيّ باللُّغة "الشّعريّة" أشبه بنكتة "حاضر يا مولاي"، تلك النّكتة البائسة الشّائعة بين أوساط المعلمين، إذ كانت ردّا على معلم اللُّغة العربيّة الّذي طلب من التّلاميذ التّحدُّث باللُّغة الفصيحة بحضرة "المشرف التّربويّ"، فما كان من الطّالب الذّكيّ إلا أن فضح هذا السّياق المفتعل لمعلّم محتال، وهنا سيكون القارئ/ النّاقد "غير المجامل"، وما أندر وجوده! فاضحا للرّوائيّ الّذي وظّف لغة في غير سياقها الطّبيعيّ والمعتاد، مع ملاحظة فارق بسيط بين الموقفين غير الضّروريّ بيانه هنا، مكتفيا باستعارة التّشبيه لبعض دلالة جامعة.
منشور في جريدة الرأي الأردنية:
http://alrai.com/article/10398849