وقفة مع كتاب
"ظاهرة التثاقف وآثارها المدمرة" على السّرد للناقد وليد أبو بكر
فراس حج محمد
يندر بشكل مقلق وجود مؤلفات نقدية في الساحة الأدبية العربية بشكل عام، والفلسطينية على وجه الخصوص، مقارنة بالأعمال التي توصف بالإبداعية شعرا وسردا، وصارت ولادة كتاب نقدي احتفالية عظيمة الأثر والدلالة، وقد أشرتُ في تحقيق صحفي حول الثقافة الفلسطينية في عام 2016 أجراه الصديق أيمن دراوشة لبعض المواقع الأدبية الفلسطينية إلى ندرة ولادة الأعمال النقدية، واقتصر النقد على كتابة المقالات الانطباعية من الهواة، وانشغل النقاد بما هم مشغولون به من مجاملات لا تنفع الأدب والأدباء وساهمت في زيادة التردي والخواء الذي نشاهد مظاهر تفشيه بما تلفظه "مؤخرات" المطابع من زيف الأدب وسفيه الكتابات، وصار مصطلح "فوضى النشر" حاضراً، وبقوة، مع أن الكلّ يشكو من هذه الظاهرة، إلا أن الكلّ يمارسها عن سبق الإصرار والترصد.
من هنا تأتي قيمة هذا الكتاب "ظاهرة التثاقف" للكاتب وليد أبو بكر، والصادرة طبعته الأولى عن دار الرعاة في رام الله، 2017، في (181) صفحة من الحجم المتوسط، وجاءت أهمية الكتاب من عدة زوايا؛ أهمها ما أشرت إليه سابقا من قلة الأعمال النقدية الجادة، وإغراق الساحة الأدبية بمؤلفات وهميّة إيهاميّة لكتب لا تصلح للنشر أساسا، فضلا عن قراءتها أو التنويه بها وبكتّابها، وقد أشار الكاتب كذلك إلى تراجع دور الناقد الأدبي الذي أصبح مجاملا أكثر منه ناقدا أدبياً بفعل خضوعه لسلطات متعددة، من مثل سلطة السائد، وسلطة المجتمع، أو سلطة المال، أو سلطة شهرة الأدباء أو غيرها مما أشار إليه في مقدمة الكتاب.
بالإضافة إلى أن الكتاب يؤسس لمصطلح نقديّ أفاض الكاتب في توضيحه وتأصيله، معتمدا على اللغة العربية وإمكانياتها الاشتقاقية التوليدية، مع مناقشة معمقة للمصطلحات التي قد تشكل التباسا مع مصطلح التثاقف وأهمها مصطلحان، وهما المثاقفة والتناص.
لم يقتصر الكتاب على التأصيل للمصطلح الجديد والتباسه وقربه أحيانا من المصطلحات النقدية الأجنبية، وإنما شفع المصطلح بتطبيقات نقدية مستفيضة لأربعة أعمال سردية؛ روايتين لأحلام مستغانمي "عابر سرير" و"الأسود يليق بك"، ورواية ربعي المدهون "مصائر- كونشرتو الهولوكوست والنكبة"، ورواية أثير عبد الله النشمي "في ديسمبر تنتهي كل الأحلام"، وقد بين الناقد تطبيقات عملية لكل جوانب مصطلح التثاقف ومظاهره الذي اقترحه ليكون مدخلا لدراسة هذه الأعمال السردية وغيرها.
تناولت تلك المناقشات النقدية للروايات سالفة الذكر اللغة وما فيها من مظاهر التثاقف المقصود، إذ يتغيا الروائي من خلالها استعراض ثقافته على القراء لأنها كما يرى الكاتب لا تخدم السياقات التي جاءت فيها، بل على العكس تماما ساهمت في تدمير بنية السّرد الروائي وجعلته خاسرا. كما بين اكتظاظ البنى السردية في تلك الأعمال بالأسماء الأدبية والفكرية والمنقولات الفكرية والمقتبسات سواء أكانت اقتباسات استهلالية أم في متن النص، مما جعل الروائي يلجأ إلى ليّ عنق النص ليستطيع إقحام تلك المعارف في البنية الروائية ما سبب في فساد تلك الروايات فنيا وجماليا، عدا ما وقع فيه الكتّاب من أخطاء معرفية أو لغوية أو خيانات تطبيعية حسبما يرى الكاتب.
لم تمنع شهرة الروائيين وانتشارهم الناقد وليد أبو بكر، متمردا بذلك على سلطة شهرة الكتّاب، كما أشار في المقدمة، من أن يقول ما أراد أن يقوله عن تلك الأعمال السردية، ويرى فيها ما رأى من ظاهرة التثاقف التي تنمّي نزعة النرجسية لدى الروائي الذي يريد أن يظهر بمظهر المثقف العارف أمام قرائه الذين ستنطلي عليهم هذه الحيلة، والمكشوفة لكاتب وناقد يدقق بين السطور، بل إنه ليكشف أيضا عن طريقة كتابة تلك الروايات والقصدية في إقحام تلك المعارف المتعددة والمحتشدة في النص، وهنا يرى المؤلف أن في ذلك بعدا عن الكتابة الجيدة التي تفترض نوعا من التداعي وليس الاستدعاء المبيّت من أجل تعزيز ثقة الكاتب بنفسه أو تعبيرا عن نرجستيه.
ومع أن الكتاب مخصص لبحث ظاهرة خطيرة في صنعة الكتابة الروائية إلا أن الكاتب يلوم القارئ أيضا الذي أصبح غير مهتم بالقراءة الجادة "وكثيرا ما يكتفي بما ينعش لديه بعض الأحاسيس فيبحث عن الاستسهال فيما يقرأ"، ولم يكن القارئ هو وحده من يستسهل هذا النوع من قراءة هذه الكتب بل أيضا ينتقد المؤلف كذلك هذا الاندفاع الجارف من الكتاب الجدد نحو كتابة الرواية، ويعده تطاولا "على هذا الميدان الكتابي الذي لا يسهل اجتيازه".
يشكل الكتاب إضافة نقدية نوعية، حتى لو اختلف بعضنا مع الكاتب، ولكنه طرح مسألة في غاية الخطورة في الأدب، ولم تقتصر على الكتابة وحدها، بل تظهر كذلك في سلوك المتثاقفين من الكتّاب، فيظهر شيء من حذلقات هؤلاء خلال تلك الأحاديث مع الكتاب، فهم يحبون التباهي بالأسماء الأجنبية والقراءات الأجنبية مع أنهم لم يكونوا قرأوا تلك الأعمال وإنما سمعوا عنها وفي أحسن الأحوال يكونون قد قرأوا مقالة عن ذلك العمل، وهذا ما أشار إليه من قبل الروائي "باولو كويلو" في مقال ساخر في مقدمة كتابه "النهر الجاري": "هناك دائماً كتاب واحد يثير إعجاب الكاتب ومجايليه، وهو كتاب: عوليس لجيمس جويس. لأنه لا يوجد بين الكتّاب من يقلل من شأنه، ولكن ما أن يُسأل أحدهم عن محتواه، إلا ويعجز عن التفسير ويثير الشكوك حول صحة قراءته له". نعم، إنّ مثقفينا في الغالب على هذه الصورة البليدة الساذجة، هذا أيضا عدا استشهادهم بالفن والموسيقى الغربيين ونسوا وبشكل متعمد الفن العربي الأصيل فغدا محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطراش أسماء غريبة عنهم.
إن هذه الحالة المزرية للكتّاب والكاتبات سواء في السلوك الشخصي أو الكتابة لتظهر كذلك على صفحاتهم على الفيسبوك، إذ يتعمد ثلة منهم أتقنت فنّ "القصّ" و"اللصق" إلى نقل أقوال الأدباء الغربيين، وينقلونها بما فيها من أخطاء لمجرد أنها لكاتب غربي مشهور. مع أنهم – في الغالب- لا يعرفون من أيّ ماء شرب هؤلاء الكتاب، ولا أسماء كتبهم. فقط لمجرد التظاهر بالثقافة والمعرفة، إشباعا لنرجسية "تستدعي العلاج" تمنحهم "بريستيجا" مهما أمام متابعيهم من القراء، الذين هم في الغالب مبهورون من ثقافة هذا الكاتب أو تلك الكاتبة، كما أشار لذلك المؤلف أيضا وهو يناقش الغاية من مثل هذا الفعل التّظاهريّ الأجوف.
ولعل من أغرب حالات التثاقف المرضي ما كتبه أحدهم عن رغبته في التخلص من كتابات عربية مزدحمة في مكتبته لتمدّ الأعمال الأجنبية رجليها على الرفوف، وأخذ في تعدادها؛ متباهيا بها، مع أنه ذكر بعض الأعمال العربية على سبيل الخجل ليس أكثر، ليبدو أنه منحاز، وبشكل كبير وربما ساذج، إلى أسماء بعينها في الأدب الأجنبي على سبيل التظاهر، وهذا ما قصده الكاتب بمصطلح "التثاقف".
لا شك في أن هذا الكتاب يرجّ الوعي رجّا عنيفا بما جاء بين ثناياه من لغة نقدية حادّة وجادّة غير مجاملة اقتربت أحيانا إلى حدّ التهكم والسخرية من العمل الأدبي لسذاجته وسذاجة كاتبه، وحريّ بكل كاتب وقارئ وناقد وصاحب سلطة وناشر أن يعي تلك الرسائل الموجه في هذا الكتاب، فالكتابة ليست عملا بسيطا أو هواية لدغدغة المشاعر ولا مجالا لاستعراض العضلات الثقافية، وإنما لا بد من أن تكون شيئا آخر تماما أقله مرتبة أن يضيف الكتاب الجديد- عبر مراعاته لشروط الفن الذي كتب من خلاله- شيئاً ذا قيمة للقارئ، فيساهم في رفع مستوى الوعي الثقافي والحس الوطني والإنسانيّ، وليس العكس.