حول كتاب استعادة غسان كنفاني:
"ما تبقّى لكم" بعد "أن ودّعتكم"
وفاء عمران محامدة| فلسطين
ماذا بقي للفلسطينيين؟ أتبقّى لهم الأعمال التراثية الخالدة التي جسدها الأدب الفلسطيني الخالص؟ فما بين مُسنّة تغنّي أغنية شعبيّة قديمة عن رحيل فلسطين، وما بين شاب كاتب ترك أدباً خالداً ليذكّر الناس بمعاناة الفلسطينيين وتشرُّدهم، ماذا بقي؟ أشلاء وطن وبقايا قضية.
"ما تبقّى لكم"، رواية الكاتب الفلسطينيّ غسّان كنفاني، وهي روايته الوحيدة الفائزة بجائزة، رغم أنّ كلّ رواياته وقصصه يجب أن تحصل على جوائز، وهذه الرواية أصبحت مثلاً ليقال عن كلّ خسارة جديدة، لقد خلّدت المعاناة كما خلّد التاريخ غسّان كنفاني رغم عمره القصير، وأصبح موضوع روايات غسّان وإنجازاته محلّ صناعة كتب أخرى، ففي كتاب "استعادة غسّان كنفاني" للكاتب "فراس حج محمّد" يشير إلى أهمّيّة الإنجاز ومسابقة الأيّام لأنّ العمر لا ينتظر، وكأنّ غسّان كنفاني كان في سباق مع يد الموت التي ستخطفه، وفي صراع مع الوقت، ففي مقدمة كتابه تحدّث كيف أنّ عمر غسّان كنفاني قصير في الحياة الدنيويّة" لكنّه فعليّاً ممتدّ إلى آخره، فالكاتب حج محمّد يشير إلى أن مساهمة غسّان في الأدب الفلسطيني لا يقف على كتاباته بل تعدّاه إلى كلّ من كتب عنه، لقد استوحى غسّان قصصه من واقع فلسطينيّ مؤلم وعميق ومؤثر وإبداع في صياغة الأحداث تجعلك تشعر كأنّك تعيشها لحظة بلحظة، واستوحى الكتّاب كتبهم من رواياته، فيقول الكاتب:" فها هو غسّان بعد ما يقارب من نصف قرن على اغتياله ما زال داخلاً في صلب النقاش السياسيّ والثقافيّ والإبداعيّ الفلسطينيّ، حاضراً رغم الغياب، متنوّعاً في تجلّيات هذا الحضور، متعالياً على كلّ ما هو جانبيّ وتافه وغير حقيقيّ أو غير عمليّ، وسيظلّ غسّان حيّاً ما دامت السموات والأرض، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها".
لماذا ما زال يُكتب عن غسّان؟ يرجع الكاتب في كتابه أن السبب يكمن في أنّ كنفاني لم يكن يمثّل الأدب فقط، وليس لأنّه طبق قواعد الأدب، بل لأنّه مثّل "صورة المثقّف الواعي الذي نحتاج لسيرته ومواقفه في الوسطين السياسيّ والثقافيّ"، ذلك لأنّ دور المثقّف الواعي مهمّ جدّاً في إظهار حقيقة الصراع، ولذلك فإنّ الكاتب فراس يشير إلى دور المثقّف في تزييف الوعي من خلال الإشارة إلى كتاب "ذاكرة المغلوبين– الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافيّ الفلسطينيّ" للناقد "فيصل درّاج"، وفيه تحدّث عن محمّد حسين هيكل الذي تعاطف مع اليهود، ومعه أشار إلى الشاعر الكبير أحمد شوقي الذي لم يتحدّث عن القضية الفلسطينيّة رغم أهمّيّتها، لذلك فالحرب الثقافيّة لا تقلّ أهمّيّة عن أشكال الحرب، خاصّة ما نراه من تزييف الإعلام العالميّ للحقائق حول ما يحدث في فلسطين وتصوير الفلسطينيّ المسلوبة أرضه إرهابيّاً، بينما يتعاطف الرأي العالميّ مع الاحتلال، وكأنّه يدافع عن حقّه، وذلك لأنّ الإعلام والمثقّفين يزوّرون الوعي كما ورد في صفحة (27) من كتاب "استعادة غسّان كنفاني".
يشير أيضاً الكتاب إلى دور المثقّفين في صناعة الديكتاتور عندما تتوافق مصالحهم الشخصيّة، لكنّ الحقيقة الظاهرة أنْ ليس فقط المؤسسات والأحزاب هي التي تتوافق مع مصالحها، بل "الناس بمجموعهم مؤّهلون ليتقبّلوا ذلك، فهم يميلون دوماً للبحث عن مصالحهم الشخصيّة الضيّقة، ويتناسون الأفكار الكبرى والانحياز إليها، ولذلك اجتمعت على الناس مصائب شتّى".
والمحنة الجديدة التي أصابت بعض المثقّفين والكتّاب هي هرولتهم إلى التطبيع، بل بعضهم يشجّع عليه، بينما يقول غسّان كنفاني عن نفسه "لقد حاولوا أن يذوّبوني كقطعة سكّر في فنجان شاي ساخن، وبذلوا-يشهد الله- جهداً عجيباً من أجل ذلك، ولكنّني ما زلت موجوداً رغم كلّ شيء". وربّما يتحدّث الكاتب عن تلك القضية لأنّه ذاته انتقد الكتاب الذي يطبّعون في أكثر من مقال وربّما اعتبر غسّان قدوته في ذلك، ولا يخفى على عاقل قوة القلم التي جعلت من غسّان هدفاً للاغتيال السياسيّ.
لماذا "رجال في الشمس"؟
في كتاب "استعادة غسّان كنفاني" يفرد فراس حجّ محمّد فصلاً كاملاً عن "رجال في الشمس"، الرواية الأكثر شهرة لغسّان كنفاني والمأساة الخالدة التي تتحدّث عن الهجرة ورحلة البحث عن العيش لرجال فلسطينيّين عاديّين وأناس باحثين عن لقمة عيش لعائلاتهم التي بقيت في فلسطين بلا بيتٍ أو أرض.
يحلّل فراس الرواية وأبعادها الاجتماعيّة والسياسيّة، فيبدأ من العنوان إلى شخصيّات الرواية مروراً بالحدث والعقدة والزمان والمكان واللغة والأسلوب الذي اعتمد فيه غسّان على سرد ضمير الغائب وتقنية التقطيع السينمائيّ والحوار الداخليّ والاسترجاع الزمنيّ، وتظهر الحداثة في الكتاب في تتبع فراس حج محمّد لوسائل الاتصال الاجتماعيّ التي تحدّثت عن روايات غسّان وخاصّة "رجال في الشمس"، وتظهر الرواية في تغريدات المدوّنين عندما يفقد مهاجرين شباباً حياتهم في البحر أثناء رحلتهم إلى أوروبا، إنّها نفس الحكاية البحث عن حياة أفضل لتكون النهاية أسرع ممّا كان الظنّ، وهذا يقودنا والكاتب فراس حج محمد أيضاً هل حقّاً لم يعد هناك رجال ليسوا في الشمس؟ ما زلنا تحت الشمس، ما زال الأفق غائماً، وما زال المستقبل غير محدّد الملامح.