في نقد الرواية:
التّخييل الذّاتي في رواية "بنت من شاتيلا"
فراس حج محمد/ فلسطين
لعلّ رواية أكرم مسلّم "بنت من شاتيلا"[1] رواية محظوظة؛ فقد استُقبلت بحفاوة كبيرة في الأوساط الثقافيّة والإعلاميّة، حتّى أنّها خلّفت متنًا إضافيًّا مهمًّا على هامش الرواية ذاتها، بل يواكبها ويسير معها، ليس شارحًا فقط، بل مساعدًا الآخرين على إنعاش الذاكرة ونبش الوجع الّذي لن يجفّ؛ فالجرح الفلسطينيّ نازف في مناطق كثيرة من هذا الجسد، مَنَحَ الفلسطينيّ قدرة على الاختزال، أو على التمثّل، أو على الحكي، أو على الوقوف أمام الجميع على خشبة العالم، بوصفه مسرحًا لا ينتهي لجرائم متناسلة، بحقّ الضعيف من البشريّة لا بحقّ الفلسطينيّين وحدهم، ليحكي تاريخه بنفسه؛ فأدلّته وشواهده لا تموت، وهي معه ومفرّقة في كلّ بقاع الأرض؛ وكأنّنا رَجْعٌ لأوديسّا معاصرة، فيها من الجبروت والواقع أكثر ما فيها من التخيّل والأسطورة، وإن شابهت أحيانًا الأسطورة في كثير من الأقدار السيزيفيّة، الّتي على الفلسطينيّ تلقّيها والعيش معها، وربّما مصادقتها.
تحفل الرواية بالكثير ممّا يُقال فيها وحولها، وتدفعك إلى التفكير في كثير من القضايا الفنّيّة أوّلًا قبل الفكريّة والسياسيّة؛ فالروائيّ بعامّة يجنح نحو الفنّ موظّفًا الأحداث لمصلحة الفنّ، وليس العكس، فمادّة التاريخ عجينة الروائيّ، وعليها يعتمد في صنع أيقونته الفنّيّة. ومن هنا تبرز في الرواية قضايا نقديّة متعدّدة، أهمّها: التخييل الذاتيّ، والمفارقة، وتوظيف المسرح، ونمذجة الشخصيّة الرئيسيّة وأيقنتها، والآخر وعقدة الذنب. وتحتاج كلّ قضيّة من هذه القضايا إلى تفصيل خاصّ.
أكتفي هنا للحديث عن القضيّة الفنّيّة الأولى "التخييل الذاتيّ"، لأهمّيّتها في الكشف عن تحقّق الرواية واقعيًّا، ووصولًا إلى ما كنت كتبته عن أكرم نفسه في رواياته السابقة، وخاصّة "التبس الأمر على اللقلق" (2013) و"سيرة العقرب الّذي يتصبّب عرقًا" (2008)؛ فعالم أكرم الروائيّ ليس بعيدًا عن حياته الشخصيّة الريفيّة، وإن اقتصرت في "بنت من شاتيلا" على مشهد واحد فقط، كما سأشير في ما يأتي.
من أكثر المفاهيم النقديّة لفتًا للانتباه في الرواية المعاصرة موضوع "التخييل الذاتيّ"[2]، وهو يُشير إلى "توظيف للذات بالاستسلام لتداعياتها المبتذلة لتزييف الحقائق، ورتق الذكريات، ومعاودة النظر في الماضي الشخصيّ في ضوء سياقات تداوليّة جديدة، وتحويل الواقع المستعاد إلى سيرة تخييليّة، عن طريق إدماجها في قالب تخيّليّ روائيّ"[3].
يحيل المقتبس السابق إلى الصورة الّتي حضر فيها المؤلّف في روايته الجديدة "بنت من شاتيلا"، وكيفيّة ذلك الحضور. في فقرة قصيرة كتبها أكرم مسلّم على صفحته في الفيسبوك، وأعاد مضمونها باختصار في اللقاء التلفزيونيّ مع "قناة العربي"، يُشير فيها إلى الدافع وراء كتابته الرواية. كتب أكرم ما يأتي:
"في أيلول 82، وقف أبي حائلًا بيني وبين شاشة التلفزيون؛ كي لا أرى أكوام الجثث، ومنذ ذلك اليوم يسكنني هول ما رأيت خلسة، على حافّتين يتوسّطهما جسد لم يفلح في إخفاء الشاشة تمامًا، ومنذ يومئذٍ أحاول أن ’أشوف‘ أكثر، ومنذ أدركت نفسي كاتبًا، شعرت بدَين شخصيّ تجاه أكوام الجثث تلك، علّ روايتي تسدّد بعض الدين، علّها وعلّ هذا يُسهم بشيء ما في زمن تتحوّل فيه المجازر، وما يؤدّي إليها، إلى حدث شائع، في ما يحاول القتلة تقديم جرائمهم كمسؤوليّة ثقافيّة، بل وكاقتراح أخلاقيّ وإنسانيّ. تحدث أشياء من هذا القبيل، للأسف، ليس بعيدًا عن شاتيلا ذاتها"[4].
هنا يقدّم أكرم إضاءة على عمله، ويشكّل شهادة بالغة القيمة؛ فيكشف عن أشياء قد تكون مخفيّة في عالم الرواية. يعود أكرم إلى عام 1982 حين كان طفلًا في الـ 12 من عمره، وقد مُنع من أن يرى جثث الضحايا، وليس شرطًا أن تكون الضحيّة هنا فلسطينيّة، إنّما مشهد الجثث كفيل بأن يحفر في الوعي ليستعيده وهو في أواخر الأربعين محمّلًا بالرؤيا والسرد. في هذه الإشارة ترى الذاكرة المختزنة تعود من جديد لتنبش الماضي، ومحاولة "لرتق الذكريات"، ولكن لا "لتزييف" الحقائق في ما يخصّ المجزرة وأحداثها.
هذه الشهادة القصيرة الّتي كتبها أكرم، مثبَّتة في الرواية، ومن هنا تصحّ الموازنة بين الرواية عملًا تخييليًّا وهذه الإشارة بوصفها علامة مرجعيّة واقعيّة. كتب أكرم سردًا عن "الشابّ الأنيق": "تزامن ارتكاب المجزرة مع دخول أوّل جهاز تلفزيون إلى بيته، كان في السادسة من عمره، وتعمّد أبوه المذهول أن يقف بينه وبين الشاشة، لكن حذر الأب لم ينجح في كبح فضول الابن، لقد رأى بوضوح الجثث المنتفخة، رأى أكوام موتى، وسمع صراخ مفجوعين" (ص 13 -14). وفي موضع آخر من الرواية، يُعيد تأكيد هذه الملاحظة: "ما زالت ذكرى جسد أبيه الضخم وهو يحجب مشاهد الجثث على الشاشة الصغيرة، كأنّها حدثت بالأمس القريب" (ص 19).
يلعب الروائيّ أكرم، بوصفه كاتبًا متحكّمًا في السرد، بعمر السارد؛ فيدخل المتن الحكائيّ في بعض "التزييف"، فأكرم من مواليد عام 1971، وليس عام 1976؛ فسنّه - إذن - قريبة من اثنتي عشرة سنة، وليس ستّ سنوات، مع أنّ الإحالة التاريخيّة في حدّ ذاتها مضبوطة بالتاريخ المحدّد، ليست ذات دلالة؛ فكلتا السِّنَّين داخلتان في حدود الطفولة المعذّبة، هذه الطفولة الّتي اكتوت بنار الحرب، وقادرة على الاحتفاظ بالأحداث كما لو أنّها حدثت بالأمس القريب، كما قال.
إنّ إشارة أكرم مسلم إلى الطفولة، وارتباطها بحدث صادم كحدث المجزرة، واختزان هذا الحدث في الذاكرة، يحيل بقوّة إلى مقولة علم النفس: "الطفل أبو الرجل". في الرواية يقود الطفل أكرم الرجل الروائيّ أكرم نحو المجزرة، ليكتب عنها من خلال تتبّع "بنت من شاتيلا". وترصد هذه الرواية العذابات الّتي تعرّضت لها الطفولة، ابتداءً من هذه الناجية وانتهاءً بأطفال الاغتصاب، وهذا المونولوج الرهيب الّذي ختم به أكرم روايته، في المشهد الافتتاحيّ المستمرّ؛ إذ تنتهي الرواية بعرض مونودراميّ[5] مؤثّر، يستغرق خمس صفحات تقريبًا من الرواية؛ فما ذنب طفل لكي يموت؟ وما ذنب أمّ لتقتل طفلها/ حبيبها؟ ألأنّه ابن الآخرين بطريقة غير شرعيّة، وليست شرعيّة فقط، بل وحشيّة بطريقة ساديّة؟
لم يقتصر حضور الروائيّ في متن روايته من خلال الإشارة أعلاه فقط، الّتي توضّح سبب كتابة الرواية والحافز البعيد الغور في ذهن الكاتب، وإنّما يحضر "الشابّ الأنيق" الّذي يزور هامبورغ عام 2004، ليحاضر حول مجزرة "صبرا وشاتيلا"، هذا "الشابّ الأنيق" غير المُسمّى في الرواية من رام الله (ص 14)، وهو "طالب دراسات ثقافيّة عليا في ’جامعة بير زيت‘، يشارك في برنامج تبادل أكاديميّ" (ص 16). وبآليّة التحليل ذاتها الّتي تحيل إلى مرجعيّاتها الواقعيّة؛ فإنّ أكرم - بوصفه هذا "الشابّ الأنيق" - لم تتجاوز سنّه عام 2004 ثلاثًا وثلاثين سنة. ربّما ثمّة "تزييف" لبعض التواريخ ولبعض الأمكنة الواردة في الرواية، واختلافها عمّا حدث في الواقع، وهذا لن ينفي عنها صفة "التخييل الذاتيّ"، والتجربة الذاتيّة للكاتب الّتي التقت مع المهمّة الّتي ذهب من أجلها "الشابّ الأنيق" في الرواية، كما أنّ الشابّ الأنيق - كما يظهره السارد في الرواية - "لم يدع قصاصة ورق كُتبت عن المجزرة دون أن يقرأها"؟ (ص 19).
يؤكّد المقتبس الأخير استعداد الروائيّ لتقديم رواية متماسكة؛ فقد اطّلع على أهمّ ما كُتب عن المجزرة، وهذا يحيل القارئ والناقد إلى مقارنة الخطاب الفكريّ للرواية والخطاب السياسيّ المثبت في الوثائق والتحليلات، ما يعني الإحالة الواقعيّة لأحداث الرواية والشخصيّات، بوصفهم ضحايا تعرّضوا للقتل الوحشيّ، في مجزرة لم ترحم أحدًا، ولم تفرّق بين رجل وامرأة، أو بين صغير وكبير، أو بين مولود وجنين؛ فكلّهم كانوا سواء تحت وطأة هذا الفعل غير الإنسانيّ، بل الوحشيّ بامتياز.
إنّ أكرم - كما قال - يسدّد دَينًا ما تجاه ما رآه على شاشة التلفزيون وهو صغير؛ ولذلك فهو يكتب أفكاره تجاه المجزرة وما حدث فيها، ويريد أن يقول فيها ما يجب عليه أن يقوله، ولذلك فإنّ الرواية تذهب في محاكمة غير هادئة لمرتكبي المجزرة، لكنّها محاكمة موضوعيّة مع شيء من التحيّز الإيجابيّ للضحايا، وتحديدًا ضحايا المجازر الإسرائيليّة، وخاصّة مجزرة "صبرا وشاتيلا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] صدرت الرواية عن "الدار الأهليّة للنشر والتوزيع"، 2019، في 157 صفحة من القطع المتوسّط، وتتألّف من 12 فصلًا مُعنونًا.
[2] انظر: فراس حجّ محمّد، "التخييل الذاتيّ في الرواية الفلسطينيّة"، ملامح من السرد المعاصر - قراءات في متنوّع السرد، ط 1 (أمّ الفحم: مؤسّسة أنصار الضاد، 2019).
[3] ليدية المنصوري، آليّات اشتغال التخييل الذاتيّ في رواية "رجالي" لمليكة مقدم (الجزائر: جامعة مولود معمري، مذكّرة تخرّج لنيل شهادة الماجستير، 2019)، ص 2.
[4] صفحة الروائيّ أكرم مسلم على الفيسبوك، ونشر شهادته القصيرة هذه في تاريخ 18 حزيران (يونيو) 2019.
[5] المونودراما فنّ من الفنون الدراميّة، وهي من أشكال المسرح التجريبيّ، وتُعَرَّف بأنّها خطبة أو مشهد مطوَّل يتحدّث خلاله شخص واحد، وهو نصّ مسرحيّ أو سينمائيّ لممثّل واحد"؛ ففي المشهد الأخير من الرواية تدخل المرأة - إحدى ضحايا المجزرة - وقد تعرّضت للاغتصاب حينذاك، لتحكي عن معاناتها في الاغتصاب وفي التخلّص من آثاره؛ فقد تخلّصت من طفلها وقتلته.