في تأمّل تجربة الكتابة
أمّي هي التي خلقتني بعد الله!
فراس حج محمد/ فلسطين
كنت منذ صغري أهتم بملاحظة الجمال والأناقة في الأشياء من حولي، ويلفت نظري اهتمام أمي بترتيب البيت وتنظيفه، وإعدادها للطعام، وكنت أسمعها دائما تقول (العين هي التي تأكل). كانت أشياؤنا وملابسنا دائما نظيفة ومرتبة، حتى وأمي تنشر الغسيل على الحبل كانت تهتم بنشره متناسقا على هيأة واحدة، وأمي بنفسها كانت تنصب حبال غسيلها بطريقة هندسية، فتعلق القمصان كلها متتالية بطريقة واحدة، ثم البناطيل حتى تنتهى إلى قطع الملابس الصغيرة، وخاصة الداخلية فكانت ترتبها بطريقة خاصة بعد أن تخفيها وراء الملابس، لكن كانت تحرص أن تكون في مكان يضربه الهواء وتصله الشمس.
لقد تعودت على رؤية كل شيء جميلا، كنت دائما أذهب إلى المدرسة نظيف الملابس ومرتبها، ذا منظر جميل، أمي كانت تهتم بنظافتي الشخصية، فتحافظ على تقليم أظافري أسبوعيا، وعلى مستوى معين من طول شعري. لم أكن أذهب وحدي إلى حلّاق القرية، كانت تصرّ على أن تقف فوق رأس الحلاق وتشاهد رأسي وتتفحص الحلقة وتتفقد مناطق معينة، كان الحلاقون يغشّون فيها، فتتفقد مقدمة رأسي ووراء أذنيّ ورقبتي. كل شيء على ما يرام، تنقد الحلاق الأجرة، تمسكني من يدي ونعود إلى المنزل مباشرة فتدخلني الحمّام لتغسّلني أمي بنفسها جيدا، وتلبسني ملابس نظيفة، كنت أشعر بالراحة، على الرغم من أنني كنت لا أحب الاغتسال في طفولتي.
أمي كانت جدا أنيقة في شبابها وتهتم بمظهرها وبنظافتها الشخصية، لم أر أمي ولو مرة واحدة وهي مغبّرة الملابس أو أن هناك شيئا يغطي جمالها أو يعيبه، كانت ذات قواعد صارمة في مثل هذه الأشياء. ولا تحب لي أن أخرج عن قواعدها نهائيا.
عندما دخلت المدرسة صاحبني ذانك الأمران حب الجمال ومشاهدته والنظافة الشخصية، فلم أكن أذهب إلى المدرسة إلا نظيفا مرتبا، وبعد استلام الكتب لا بد من أن تضع أمي بصمتها الجمالية على تلك الكتب، فتقوم أولا بتخييطها، إذ لم تكن المدارس في تلك الفترة تمتلك مدابس كبيرة لتدبيس الكتب، كانت أمي تخرم حافة الكتاب اليمنى بمسمار صغير ثلاث خرمات أو أربع ثم تدخل فيها الخيط وتربطه جيدا، وكم كانت شديدة الملاحظة بحيث كانت تطمئن أن تلك الخروم ظلت هامشية بعيدة عن المكتوب ليظل باستطاعتي قراءتها. ثم تأتي عملية تجليد الكتب والدفاتر، فيتم الأمر على أتم وجه.
من أمي تعلمت الجمال في الأشياء، أو إضفاء مسحة جمالية عليها، فكنت مثلا ألاحظ جمال الكتب وهندستها، وجمال الصور فيها، وجمال الخطوط، وجمال الأشخاص، وتعلمت من أمي أيضا أن أظل مرتبا ونظيفا وأنيقاً. كانت أحاديث أمي عن النساء يلفت نظري إلى جمال المرأة، فتلك ذات عيون واسعة، فيحضر تشبيه تلك العيون بأنها كفتحة الفنجان، وتلك ذات قامة طويلة وطولها مناسب "خاص النسوان"، هذه العبارة كانت تلفت نظري، كنت أدرك المعنى أي أن طول تلك المرأة هو الطول المخصص للنساء، بعد ذلك عرفت وقرأت ما قاله الشاعر العربي في وصف حبيبته "لا يشتكي قصرٌ منها ولا طولُ". النساء في نظر أمي يجب أن يكنّ ممتلئات العود، و"العود" مصطلح يعني القامة، أمي لم تكن تحبذ المرأة النحيفة، أو قصيرة العنق أو كبيرة الأذنين أو ذات فتحات أنف واسعة، او ذات قدمين كبيرتين، وكانت تحبذ مثلا المرأة ذات الفم الصغير، وكانت تمتعض أمي كثيرا من النساء ذات الأفواه الكبيرة وتعد ذلك من شديد القبح في المرأة.
في فترة طفولتي البعيدة كانت أمي معلمتي الصامتة، تعلمني كثيراً من الأشياء بالصمت وبالقدوة وبالممارسة، أمي كانت تواجه القبح بالسخرية المريرة. أمي تتقن السخرية، وتستطيع أن تحول المشاهد كلها إلى مشاهد ساخرة، ليست السخرية التي تثير الضحك والانبساط، بل السخرية السوداء التي تدعو إلى الحزن والامتعاض وربما الغضب. أمي كانت تواجه بشاعة الحياة بالسخرية السوداء ومنها تعلمت ذلك، كانت تراها طريقة عملية في تحقيق مرادها وبسرعة. كانت ترى أمي أن الحياة فيها الكثير من البشاعة ولا بد من أن تواجهها بسلاح فعّال، أمي لم تكن ضعيفة، هي التي كانت تحميني في صغري من الأطفال المعتدين، وهي التي كانت تذهب إلى المدرسة لتحميني من المعلمين والمدير عندما كنت أتعرّض للضرب منهم. المعلمون لم يكونوا أشرارا بالتأكيد، لكنهم لم يكونوا منصفين في أحيان كثيرة.
أمي هي التي جعلت أفهم الحياة وأحبها وأواجهها، كما هي التي جعلتني ألتفت إلى القهوة والنساء وأعضاء النساء (النهود والأرداف) وملابسهنّ، أمي هي التي ربطتني بالمدرسة وأجبرتني على أن أتعلم غصبا عني، أمي كانت ترى مستقبلي في الدراسة وإلا سأضيع، أمي هي التي أهلتني لأكون معلما وموظفا وكاتبا، أمي هي التي لم تقل لي يوما كلمة حب طفولية، لكنها كانت تعلمني كيف أحب بإخلاص، وأن أكون صادقا وقوياً. أمي هي التي خلقتني بعد الله لأكون أنا كما عليه الآن.