في تأمّل تجربة الكتابة:
يا ليتني أكون ذلك الشاعر الذي أتمناه!
فراس حج محمد
في مقالة مطولة بعنوان "أنا والكتّاب" كتبتها بعد حصولي على عضوية اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين مطلع العام 2015، ونشرت في كتاب "يوميات كاتب يدعى X" انحزت إلى الشعراء واعتبرتهم أنقياء وأصفياء وقدّيسين، لا يبدر منهم ما يعكّر مزاج الوحي فيهم، وفي رسالة إلى شاعر واعد حذرته من الدخول في معمعة الهجاء، فالشاعر يجب ألا يهجو أو يسرق أو يكذب أو يغشّ أو أن يكون سياسيا دكتاتوريا، فهو أسمى وأجل من تلك الحماقات البشرية، فمن يحلق مع الملائكة إلهياً، لا يصلح أن يغرق في الوحل.
وفي ديوان "وأنت وحدك أغنية" اتخذت الموقف نفسه في قصيدة قصيرة بعنوان "هم" قاصدا الشعراء، فـ (هم وحدهم الحقيقيون في هذا العالم)، أعدت نشر هذه المقطوعة القصيرة ضمن مجموعة "منمنمات"، وهي قصائد قصيرة تحت عنوان "منمنمة لأصدقائي الشعراء":
يرتبون نبض الشمسْ
ويجمعون الكراريس ويكتبون الحدسْ
لا يعرفون الكره في أحلامهم لا يعرفون اليأسْ
يستولدون الضوء من عليائهم
يستفتحون الهمسْ
أعود للكتابة عن الشعراء وعن الشعر قصائد كثيرة إلى درجة تأليف ديوان خاص يتحدث عن الشعر والشعراء والقصيدة وكل ما يتصل بذلك، ف "الشعر سيدة ما مسّها بشر"!
ما زلت أحب الشعر وأمجّد الشعراء طامحا أن أكون نقيا مثلهم!
في كتاب البطولة والأبطال لتوماس كارليل تمجيد خاص للشاعر في الفصل الذي يحمل عنوان "البطولة في صورة شاعر"، وفي كتاب "موسم تقاسم الأرض" للكاتب الليبي إبراهيم الكوني ثمة صورة جميلة للشاعر الحاكم وفلسفة عميقة لدور الشعر ورؤاه. وفي غمرة الانشغال في تأليف كتاب: "بلاغة الصنعة الشعرية" وقع بين يدي مسرحية بعنوان "الشاعر" لإدمون روستان، ترجمة مصطفى لطفي المنفلوطي، لأكتشف أن هناك الكثير من الأعمال المسرحية والروائية التي تناولت شخصية الشاعر.
ما بين المأمول والواقع فجوة كبيرة. أو ما بين أحلامي الطفولية وبين الواقع مسافة كبيرة. من هنا جاء حديثي في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية" عن "ظواهر سلبية في مسيرة الشعراء". وبقيت صورة الشاعر التي كانت كما هي في مخيلتي وكتبت عنها مجموعة قصائد وديوان شعر ثم كتابا نقديا "بلاغة الصنعة الشعرية"، هذا الكتاب الذي قال عنه أحدهم، وهو أكاديمي جامعي أنه يحتاج إلى دكتور متخصص في التاريخ ليستطيع الحكم عليه.
لم يوجعني شيء على كثرة أوجاعي كما أوجعتني هذه الجملة. شعرت للحظة أن عملي ذهب سدى ولا قيمة له. مع علمي أن هذا الأكاديمي الجامعي الدكتور العلامة الكبير الذي طفا فجأة على مياه الثقافة السطحية لم يقرأ الكتاب، فتهيب من قراءة (400) صفحة، فاختلط عليه التاريخ بالجغرافية وتاه في معارج الشعر!
على كل حال، لهذا الكتاب قصة قد تبدو مقحمة في سياق الحديث عن الشعراء. لعلي أخصّص له وقفة متأنية أتحدث فيها عن تجربة تأليفه! هذا الكتاب أفادني أي إفادة في تركيز البحث في شخصية الشاعر، وتتبعت كثيرا آراء الشعراء، وأعتقد جازما أن ما قاله سعيد عقل في توصيفه لنفسه، يجب أن يكون قاعدة أساسية للحكم على الشعر والشاعر. قال سعيد عقل: "أنا شاعر، ولكن لا أي شاعر، أنا أنتمي إلى ضرب معين من الشعراء، هو الضرب الذي يسمي الواحد منه شاعر معرفة. شاعر معرفة هو الذي ما أن تقرأ له، تشعر أن وراءه العلم، والفلسفة، واللاهوت والفن، لا هذا الشاعر الذي يوجعه قلبه أو الذي خانته حبيبته وراح ينحب ويندب حظه. شاعر المعرفة، ذاك المثقف ثقافة شاملة تذهب من ذرة إلى إيل الخالق. لكن نتاجه حول هذا الأمر الضخم مقدم إلى الناس بشكل جوهرة الجمال".
كلام سعيد عقل هذا لا يشرح ولا يفسر، فقط على الشعراء والنقاد أن يتأملوه ويرتفعوا لمستوى القصيدة الخالدة، والشاعر الخالد الذي تهزم الموتَ قصيدته، وتظل تشع بالحكمة والعاطفة والجمال الذي لا يذوب ولا يضمحل مهما تتطاول الزمن وغاب الشاعر جسدا.
يا ليتني أكون ذلك الشاعر الذي أتمناه! لعل ما بين الأمنية وتحقيقها ضربة حظ تجانبني أو بذل جهد يخونني، أو قطع مسافة لا تستطيع قدماي قطعها. ربما أموت كما مات كثيرون شبه شاعر وشبه عاشق ولا أحمل سوى شبهة من ظلال كاتب عاش ظلا ومات في العتمة!