سجل الفيلسوف اليوناني أفلوطين في "تاسوعاته" أن الجمال في متناول البصر والسمع، وهو ينتج أيضًا من تنظيم الكلمات، ويوجد في الموسيقى.كما كان الجمال عند الفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه هو علم التعبير الشامل الذي يضم لغة الشاعر، ولوحة المصور وأنغام الموسيقى على السواء، بينما ينصب اهتمام الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر بحياة الخيال عند الإنسان، ويرى أن الخيال يباعد بين الإنسان والواقع؛ إذ تكمن وظيفة الخيال عنده في تقديم عالم آخر يكون بديلا ًللعالم الواقعي، وأن للخيال قدرة على نفي الواقع الذي لن يكون أبدًا شيئاً جميلًا، ولذا فهو يرجع الخبرة الجمالية إلى النشاط الخيالي عند الإنسان، فالجمال قيمة مطلقة لا تنطبق إلا على الخيال فقط. غير أن الشاعر المصري فوزي محمود يستخرج الجمال من الواقع بخيال، كما يضفي الخيال على الواقع فيعيد ترتيب الأشياء، ويحرك الجمادات بل يهبها حقها في الحياة وممارسة العادات الإنسانية، وهو لايتجرد من نظرته الجمالية تلك في كل الأماكن التي يرتادها أو يتناولها، غير أنه لا يغتصب المعاني الجمالية في تشبيهات بلاغية مفعمة بالصنعة أو الاستعارة من تشبيهات الأقدمين، بل تأتي صياغاته اللفظية الموحية الدالة محملة بانفعاله الشخصي اللحظي الصادق من تأثير المادي والملموس عليه وفيه، فيعيد بلورته في أبيات يتصرف فيها بحرية وتلقائية وانطباعية يكتبها كأنه يتكلم أو يحادث نفسه، مرددًا مع الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا: "أحببتُ أن أقتفي فيما لاتدركه الحواس وعبر كل ما هو ضئيل أثر روح الكون الشعرية".
ولا تنفصل حرية الشاعر عن الجمال بل هي كما يراها العقاد أسس من أسس الجمال حين يمارس الإنسان حريته عند ممارسة الفنون في المفاضلة بين شيئين جميلين لا يبغي من وراء هذا التفضيل اجتناء منفعة أو حاجة سوى إثبات القيمة الجمالية، وهذا عين ما يفعله الشاعر فوزي محمود حين ينتقل بين أشطر قصائده التفعيلية والعمودية على السواء في حرية وبساطة، غاية في التعقيد حين يتطرق إليها، وغاية في العذوبة حين يتناولها بل حين يرشد أبصارنا وأذواقنا دون ادعاء أو تعالٍ إلى ما فيها، وكأن وعى كلمات العقاد حين يقرن الحرية بالجمال، فيقول: "انظر إلى بيت من الشعر وتصرف الشاعر فيه، إنه مثل حق لما ينبغي أن تكون عليه الحياة من قوانين الضرورة وحرية الجمال، فهي قيود شتى من وزن وقافية غير أن الشاعر يعرب عن إطلاقة نفس لا حد لها حين يخطو من كل هذه السدود خطوة اللعب، ويطفر من فوقها طفرة النشاط ويطير الخيال في عالم لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل".
من قصيدة للشاعر بعنوان "ملهمتي": نسجتُ من وحي الجمال قصيدتي لا عن خيال نُظِّمتْ أبياتي ينقلنا الشاعر فوزي محمود إلى "مملكة القطب الساخن" تلك القصيدة التي رسمها مشاهد قصيرة في شبه مسرحية تمثيلية يؤطر فيها لحاجة الرجل للمرأة وحاجتها إليه غريزيًا ووجدانيًا، يسرق القاريء من مقعده إلى تلك المملكة لينضم إما لمملكة القطب الموجب أو السالب بحسب النوع وقد نفض عن عينيه التقريرية والمباشرة حول موضوع قد لاكته الأقلام والأفلام، وهو ما يحسب للشاعر من ذكاء في الالتفاف حوله بتناول آخاذ ولفظٍ صريح جريء كان يحاول تغميضه وترميزه وتلغيزه فيفلح حينًا ويستعصي اللفظ عليه أحيانًا، ولئن كانت اللقطة خيالية مقتطعة من تربة الواقع إلا أن الجمال والإدهاش لم يفارقها.
وإذا كان سارتر يرى أن الشعر فن يقوم على الإحساس بوقع الكلمات من حيث شكلها وصداها لا من حيث المعنى وحده، فإن قاريء شعر فوزي محمود ليحس إحساسًا حقيقيًا بالكلمة شكلًا ومعنى في آن، حين يقرأ قصائد ديوانيه: "تائهٌ في المنخفض"، و"عاشق البحر"؛ إذ لا يفرط في استخدام مفهوم "الانزياح" بخروج القول من غير مخرج العادة مع اعتماده على المطابقة التي تعني موافقة اللفظ للمعنى، وموافقة اللفظ للفظ، ويمارسهما الشاعر فوزي محمود خلال قصائده دون افتعال أو مسارعة لإحداث إدهاش أو تحقيق صدمة جمالية للقاريء، والحق يقال أن النفس الهاديء عبر مسامات ورئات كلماته يأتي طاغيًا وغامرًا دون نفور أو جلبة حيث ترك بصمته دون الإكثار أو اللجوء إلى الاحتفاء باحتفالية بصرية صاخبة، أو محاولًا التلاعب بالألفاظ، واصطناع زخارف براقة جوفاء. لا يكف فوزي محمود ـ الإنسان ـ يده عن البحث في واقعه بل يزج بها إلى شقوق النفس، ولا يمانع أن يتحمل لدغ زنابير من ينقد أو ينتقد، غير أنه يستطيع أن يمسح بشاعريته على جِيد الوقائع التي يظن الظان أنها مستهلكة فلا يقربها فيبعثها بعثًا جديدًا وقد علاها الرواء واللمعان، وذلك كما صور لنا في قصيدته "صهيل الفارس الجائع" ذلك الصراع القديم الجديد والذي لن ينتهي بين الإنسان في أي زمان وفي كل مكان وهو يحاول كبح جماح ثورته الفائرة بطاقة الليبيدو الشرهة نحو شهواته التي لا تتوقف، ويتم كل هذا عبر قصيدة قصيرة مشحونة بالتصعيد والانفعال والثورة والهمود في النهاية لينتصر الفارس حينًا ولا يتوقف الفرس عن صهيله وغَلَبتِه أحيانًا عبر ألفاظ موحية ومكثقة وقصيرة تناسب إيقاع الأنفاس والتنهدات والزفرات.
ظن الشاعر فوزي محمود أن دور الشاعر ينتهي في صب القصيدة بناءً في الديوان أمام القاريء ويمضي، ولهذا فلم يحالفه الحظ كثيرًا في اختيار العناوين لبعض قصائده الهامة، بل استسهل حين كان يضع العنوان استيحاءً من أول كلمة فيها، وفاته أن العنوان يعتبر عتبة نصية بالغة الأهمية يمكن من خلاله الكشف عن دلالات شتى حين التعامل معه سيميائيًا كعلامة لفظية تنطوي على دلالات رمزية، كما يقول الدكتور محمود غنايم في توصيفه لغواية العنوان.
لا يميل الشاعر فوزي محمود إلى استخدام التشبيهات وأدواتها بكثرة، ويستعيض عنها بالاستعارات، فأكثر ما يلجأ إليه التصوير دون افتعال، والاتكاء على الموسيقى المبثوثة في بناء قصائده بعفوية شديدة، فلا يحاول أن يحاكي في صوره من تقدم عليه من شعراء عاصرهم أو سبقوه، بل يأتي إحساسه من تأثير المشهد الواقع عليه سواء كان من الطبيعة، أو مركوزًا في ذهنه تخيلًا كأنه يراه، ويرى أن عقل القاريء سيستوعبه ويتقبله منه في عبارات بسيطة تجافي التعقيد وتنفر من الغموض والتكلف، غير مُخالفةٍ لطبعه السهل في الكتابة والقول والإحساس. فالشاعر يقف خارج اللغة، وبدلًا من أن يعرف الأشياء أولًا بأسمائها، يبدو أنه يتصل بهذه الأشياء اتصالًا صامتًا، حتى إذا التفت بعدئذ نحو ذلك النوع من الأشياء التي عنده الكلمات، فلمسها وجسها،وقلبَّها بين يديه، اكتشف فيها شبهًا بالأرض والسماء والماء وسائر الأشياء، إن اللغة هي عند الشاعر "مرآة العالم" كما يقول الدكتور سامي الدروبي.
لم يضخ فوزي محمود في شعره كلمات بل ضخ صورًا وموضوعات لا يستطيع غيره أن يقترب منها، ونقل لنا حيوات من واقعه ضمخها بعطر خياله الثري اللا محدود، بقراءة جديدة فيها الكثير من التجديد والجديد الذي لم يُلتفت إليه، وللقاريء أن يعاين قصيدته "انتفاضة" وما فيها من خيال وجمال، وكذلك قصيدته "عاشق البحر" التي يعانق فيها الخيال الجامح الطبيعة، ولنظراته الفاحصة الناقدة الرافضة في قصيدته "قال الفيلسوف"، والقصيدة الغارقة في المصرية والرمزية والألفاظ الجريئة الجديدة في وصف بعض مشاهدها "جارتنا"، يمكننا أن نقول أن الأشياء التي يخلقها الشاعر في موضوعنا أو الفنان تعكس أعمق ميوله، ولكن هذه الأشياء لا تعبر أبدًا عن غضبه أو قلقه أو فرحه كما تعبر عنها الكلمات، إنها مشربة بهذه الانفعالات ولكنها ليست تدل عليها، وهذا ما يميز بين الناثر والشاعر عند سارتر، فيقول ما مجمله: "إن مجال الدلالات هو النثر، أما الشعر فهو كالرسم والنحت والموسيقى، لاشأن له بالدلالات، ولذلك لا يُطالب الشاعر بأن يكون ملتزمًا.... إن الشاعر قد انسحب دفعة واحدة من الموقف الذي يعد اللغة أداة، واختار نهائيًا الموقف الشعري الذي يرى في الألفاظ أشياء، لا علامات أو إشارات"، ولو عاين القاريء قصائد فوزي محمود لما رآه خرج عن ذلك قيد أنملة.
لم أعمد إلى جلب الشواهد من الأبيات، لأني انتويت التوقف عند رائعة الشاعر فوزي محمود "السلام"، تلك القصيدة التي تدل خير دلالة على شاعرية صاحبها السلسة، وهي قصيدة لن تجد أسهل ولا أوقع ولا أحوى ولا أوجز منها في ترجمتها عن السلام كمعنى ومضمون، ويسرها في ترجمتها إلى اللغات الأخرى، فهى رسالة عالمية، لم يعمد فيها الشاعر إلى التفصيلات بل إلى المضامين والعناوين التي تفي بالإجمال، تحوي الفلسفة كما تحوي الحكمة، غاصة بالإنسانية، حالمة، مسالمة، رسالة هادئة لا تعتمد الصراخ والعويل، ولا تفتقر إلى تبشيع صورة الحروب في الأذهان:
سلامٌ على النَّاس
من كل دين.. ومن كل لون
وفي كل دار
فلا خير يأتي بغير السلام
ولا شمس.. تأتي بغير النهار
ولا الحُب يأتي.. بغير التآخي
ولا الحَب يأتي.. بغير الثمار
كفى الناس في الأرض .. شر الحروب
فلن تجلب الحرب .. غير الدمار
سلامٌ.. فبالسلم يحيا الفقير
ويحيا الغني ..معًا في ازدهار
يمد القوي يدًا للضعيف
ويحنو على جاره كل جار
يرد الحقوق إلى فاقديها
ويسعى إلى الصلح بعد الشجار
فهيَّا إلى عالم مستنير
يعم السلام.. بكل الديار
ونمحو من الأرض لفظ "هزيمة"
ونمحو من الأرض لفظ "انتصار"....
ساحة النقاش