ضمن الفعاليات الثقافية لمعرض الكتاب الإلكتروني في دورته الأولى عام 2016، تحت رعاية السيد الأستاذ مروان محمد مؤسس دار حروف منثورة للنشر الإلكتروني، الذي وجه لي دعوة كريمة منه لتقديم ندوة موضوعها "السرد بين الرواية والسينما، وتوظيف الحكي فيهما"، وقد حددتُ لها عدة محاور، هي: مفتتح نقاشي حول سيادة الرواية في الآونة الأخيرة، مفهوم السرد والسردية، مفهوم السرد في الرواية، مفهوم السرد في السينما، العلاقة بين النص السردي في الرواية والسينما.
بدأتُ الندوة بسؤالين متتاليين اقتطفتهما من حواري مع الأديب السوري الكبير الدكتور محمود عمر خيتي، كانا يدوران حول تسيد الرواية التي سلبت الشعر مكانته، وعن النهضة الأدبية في عالم النشر، وجاءت إجابة الدكتور خيتي رافضة لهذا القول لأن الشعر مركبه صعب، وأن الذين يكتبون الرواية يظنونها فن سهل وأنها عملُ مَن لا عملَ له، ويسأل متعجبًا كيف صار بعض الشعراء يكتبون الرواية على حين لا ينتقل الروائيون إلى الشعر؟!، كما يرى أن الذين يهتمون بالشعر ويسمعونه ويقرؤونه طبقة مثقفة حتمًا وهذا ليس حال نوعية القاريء مع الرواية؛ إذ يمكن لأي فرد يفكُّ الخط أن ينتصر على أميته ويتسلى قليلاً ويقرأ صفحة من رواية فإذا به يندمج في الأحداث فيتابع قراءته، كما يرى الدكتور عمر أن هناك نهضة خادعة في وفرة دور النشر ومراكز بيع الكتب ومعارض الكتاب، ووفرة بالروايات العربية والمترجمة "أكثرها بوليسي أو عشق وغرام" في مكتبات البيع وعلى الأرصفة وعلى منصات التحميل المجاني.
حين يرى الدكتور فهد حسين أن الرواية لم تعد حالة طارئة في المجتمع العربي، وإنما راحت تتجذر في تكوين الكتابة العربي، وتسعى إلى أن تكون ملكة الأجناس الأدبية كلها، غير أن الدكتورة أماني فؤاد لها وجهة نظر مختلفة، حيث ترى أن كل نوع من الأنواع الأدبية، وكل جنس من أجناس الفن، يغني جانبًا في وعي المتلقي ووجدانه، بل وتتكامل الفنون كافة في تشكيل إنسان أكثر قدرة على تطوير إمكاناته البشرية.
بشيء من الإجمال سأعرض لأهم النقاط التي تناولتها في الندوة، تاركًا المساحة الأكبر لأسئلة الحاضرين، والإجابة عليها، تناولتُ المحور الأول وكان عن مفهوم السرد والسردية، ولأن التعاريف في أكثرها معقد وملغوم، فقد حاولت التبسيط، وعرَّفت السرد بأنه كل الأعمال التي تتميز بخاصيتين: وجود قصة وتوفر شخص واحد لا أكثر يحكيها أو يقصها، وهو التواصل المستمر بين المرسل والمتلقي، وكما يقول غاستون بلاشار: (إن ما أنشأ البشرية هو السرد)؛ فالسرد في الأصل وسيلة اتصالية، لنقل الحكايات عن الآخرين لنا، ونقل حكاياتنا للآخرين في المقابل،وهو يوافق اللغة المكتوبة واللغة الشفاهية المنطوقة، والصورة سواء كانت ثابتة أو متحركة.
وعلى هذا فالسرد هو الطريقة أو الآلية التي يختارها الكاتب المبدع عن طريق مجموعة من التقنيات يشكل من خلالها الصورة التي يريد رسمها في ذهن المتلقي. والسردية كما يعرفها فاضل الأسود: (هي مجموعة الأحكام والقواعد التي تنتظم شكلًا أو كيانًا محددًا، وتنظيماً منطقيًا والتي تختص بمناقشة الأجزاء والمقاطع والنصوص التي يتشكل منها السرد)..كما أن الرواية قادرة على توظيف تقنيات أجناس الفنون المختلفة : الأنواع الأدبية، أو غيرها من الفنون مثل: الموسيقى، والفنون التشكيلية، والسينما وغيرها من وسائط الاتصال التكنولوجي الحديث، وصهرها في شخصيتها.
وحين انتقلتُ إلى محور السرد في الرواية، تلك الرواية التي يعرَّفها الدكتور عبد الملك مرتاض بأنها "هي كل فعل أو عمل سردي مطول نسبيًا، معقد التركيب والبناء، وقائم على تقنيات للكتابة معروفة"، كما ترصد الدكتورة أماني فؤاد تاريخ المنظومة السردية، فتقول: (إن هناك مستويات من التطور في الآليات الفنية، فبعد الراوي العليم المفارق علي سبيل المثال وجدت تقنية "تعدد الأصوات"، بما يتيح تنوعا في سردية الرواية من وجهات نظر مختلفة: التطور في تقنية كتابة الرواية، لايخضع للأجيال المختلفة، وإنما يعتمد علي إبداع الكاتب وقدرته علي مواكبة ذلك التطور)، كما يلاحظ الدكتور حامد أبو أحمد أنه خلال العقود الأخيرة حدث تطور كبير في التقنيات الروائية في كل أنحاء العالم: (فلم تعد الرواية هي ذلك العالم الإبداعي القائم علي حدث صاعد يبني علي الحكي أو المضمون، وإنما صرنا نفاجأ بتقنيات جديدة معقدة لأنها في الأساس متداخلة، وفيها نوع من عدم الترتيب، أو العودة إلي الماضي، أو تداخل الشخصيات، وغير ذلك من فنون وتقنيات، فالتقنيات الجديدة التي جعلت من الرواية فنا يحتاج إلى امتلاك ثقافة عميقة حتي يمكن تلقيها واستيعابها).
أما عن السرد في السينما وهو المحور الثالث في ندوتنا، فإن المتفحص لتاريخ السينما ونشأتها سوف يلاحظ الأهمية الكبرى للحكي/السرد، لأنه الخطوة الهامة والضرورية لصياغة النص الفيلمي، والنظام الضروري لتحديد المعنى والتحكم فيه بل هو قاعدة ضرورية ولازمة وليس اختيارًا يتبع الأهواء، وقد تزودت السينما حين دخلت عالم السرد بعناصر ثرية متنوعة غيرت من مفاهيمها، كما تطور فن الفيلم كثيرًا.
يأتي تعريف كريستيان ميتز للفيلم غير بعيد عن تعريفه للسرد السينمائي، إذ الفيلم عنده: "يروي لنا قصصًا مترابطة، ويقول لنا أشياء كثيرة، تقولها أيضا اللغة المنطوقة، لكنه يقولها بطريقة أخرى، إن الذهاب إلى السينما يعني رؤية هذه القصص، ليس لأن السينما لغة تستطيع أن تروي لنا قصصًا جميلة، إنما لأنها روت لنا هذه القصص فأصبحت، بذلك، لغة".
أما السرد عند "ميتز" فهو مجموع الوقائع والأحداث التي ترتب في نظام أو توالٍ "سلسلة" من المشاهد، يحاول الفيلم تقديم تلك المشاهد من خلال قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقًا لأفكار مسبقة أو مستعارة، إنما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان؛ إذ الكاتب ــ عند ميتز ــ يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها.
ومما تقدم يمكننا القول بأن النص الروائي يعبر تعبيرًا ظاهريًا عن الأحداث والشخصيات مستندًا لمبدأيِّ المقروء والمتخيل، أي قراءة جوهر النص ثم يأتي التخيل ليصنع الصورة الشكلية لهذا الجوهر، بينما النص السينمائي فإنه يعبر بوسائل ثلاثة "المرئي، المسموع، المتحرك".
نجح النص السينمائي "السيناريو" في الانفصال عن الإخراج وصار مستقلًا بنفسه وخلق أساليبه السردية الخاصة به وذلك حين ابتكر رائد السينما لأمريكية "ديفيد جريفيث" أساسيات اللغة السينمائية باعتماده على الصورة دون الكلمات؛ فلم يكن جريفيث يستعمل الكتابة الجانبية أو المواد العارضة لوصف أحداث الفيلم مثلما كان شائعًا في السينما الصامتة آنذاك، حيث تظهر لوحة مكتوب عليها ما لا يستطيع المخرج قوله بالصورة، ولقد أدرك رائد السينما الخالصة، الروسي "سيرجي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين" أن الوحدة الأولية للفيلم وهي اللقطة، لا تختلف عن درجة اللون أو الصوت في أهميتها، فهي تستولي مباشرة على عقل المتفرج وذهنه وحواسه. وكان يرى ضرورة أن يمنح المخرج السينمائي نفس القوة التي يتمتع بها الرسام أو المؤلف الموسيقي، فقد كان يرى في السيناريو بأنه مجرد وصفة تلخص التأثير العاطفي العام للفيلم على الجمهور، أو الضغط الذي سينشأ بالضرورة على نفسية الجمهور، ويرى أن دور كاتب السيناريو محدود قياسًا إلى دور المخرج الذي سيتعامل مع هذا السيناريو.
مع كوني كاتب سناريو استرعى انتباهي أن الفارق بين السيناريست وبين مؤسسة الإخراج كبير جدًا، فمهما بلغ وصفي ـ كسيناريست ــ لمقطع عن نهاية العالم بحسب تصوري السردي للحدث، فإنه لن يبلغ مدى التأثير في المشاهد مثلما يراه مشهدًا في فيلم، غير أن الفارق ــ من وجهة نظري ـ أن السيناريست في النهاية فرد بينما الإخراج مؤسسة ــ كما قلت ــ فهو لا يعمل وحده، ويبقى أن النص السردي السينمائي هو الخطوة الضرورية الهامة في بناء الفيلم، وتقديم الفيلم منتوجًا كاملًا للمشاهد بكل عناصره تبقى الخطوة الأكثر أهمية والنهائية في تلقي المشاهد، وهي الموجة التي ستدفع موجات كبيرة وكثيرة في عقله ــ أي القاريء ــ لأوقات تطول وتقصر، وقد حدد "كريستيان ميتز" الفروق الجوهرية بين الصورة والكلمة، منها: محدودية عدد الكلمات في اللغة، بينما عدد الصور الممكنة غير نهائي، ولا ينفي كون المتكلم مبتكرًا للمعاني إلا أنه يستعمل ويستخرج كلماته من المعجم، وهو ما يأتي على عكس الصورة التي يبتكرها متصورها مباشرة من تلقاء نفسه ودون مرجعية، ولثراء الصورة وتنوعها يستطيع المتلقي أن يستقي الكثير من المعلومات التي تكون أكثر للغاية من تلك التي يستخلصها من القراءة أو السماع.
خُتِمَت الندوة بالمحور الرابع والأخير، الذي يدور حول العلاقة بين النص السردي في الرواية والسينما، والتي حاولتُ فيها تسليط الضوء على الخلط الواقع بين السرد والحكي في الذهنية العربية، من حيث أن السرد لا يخرج عن كونه تركيبًا أو نسقًا مبني على الترتيب، بينما هو بحسب تعريف جيرار جينيت: "تمثيل لحدث أو مجموعة من الأحداث الحقيقية أو التخيلية عبر اللغة"، وهو ما يستدعي وجود أحـداث متسلسلة، شخوص متعدّدة يقع عليها عبء القيام بهذه الأحداث من خلال إطار لهذه الأحداث الذي يتمثل في المكان والأشياء، ثم التقسيم الزمني للأحداث، واللغة تأتي ممثلة في سارد الحكاية أي من يرويها، والحاية التي يحكيها أو يحكي عنها عبر زاوية أو زوايا نظر متعدّدة ، لآخر مستفيد وهو متلقي الحكاية أي المسرود له.
مما تقدم يتبين لنا أنّ الفرق بين السرد والحكي يكمن في الاختلاف في الوسيلة ليس إلا؛ إذ يمكن أن نجد الحكي في الصورة أو في الحركة والإيقاع، أمّا السرد فهو أخص منه لأنّه يتصل فقط باللغة، كما أن الحكي يحتوي المادة القابلة للحكى، أمّا السرد فيتعلّق بطريقة تقديم الحكي.
وعلى الرغم مما يبدو من توافق إلى حدٍ ما بين النص الروائي والسينمائي في تعريفهما للسرد، إلا أن عملية السرد في النص السينمائي تتميز على النص الروائي بالمساحات الشاسعة التي يمنحها النص السينمائي بجمعه لجميع الفنون الإنسانية وهصرها لتساهم في تكوين اللغة السينمائية، ولقد ذكرت سابقًا أن وسائل التعبير عن المحتوى الروائي تختلف عنه في المحتوى السينمائي "الفيلم"، إذ أن المشاهد السردية الروائية تتكون نتيجة التوهم بين النص والقاريء، بينما تأتي المشاهد السردية السينمائية تجميعًا بصريًا تعطي المتفرج معطيات مرئية تسمح له بالتماهي معها أو الانفصال عنها، وعلى هذا فما يجمع الفنين هو النص السردي في أصله الروائي اللفظي، وتقديمه في نصه السردي السينمائي مصورًا.
وسنتناول في الجزء الثاني من المقال أسئلة المشاركين في الندوة....
ساحة النقاش