دكتور السيد إبراهيم أحمد

 

هذا هو الجزء الثاني من المقال الذي جاء ضمن الفعاليات الثقافية لمعرض الكتاب الإلكتروني في دورته الأولى عام 2016، تحت رعاية السيد الأستاذ مروان محمد مؤسس دار حروف منثورة للنشر الإلكتروني، الذي وجه لي دعوة كريمة منه لتقديم ندوة موضوعها "السرد بين الرواية والسينما، وتوظيف الحكي فيهما"، وقد حددتُ لها عدة محاور، هي: مفتتح نقاشي حول سيادة الرواية في الآونة الأخيرة، مفهوم السرد والسردية، مفهوم السرد في الرواية، مفهوم السرد في السينما، العلاقة بين النص السردي في الرواية والسينما.

وسنتعرض في هذا الجزء لأسئلة المشاركين في الندوة والإجابة عليها: سأل الدكتور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب: بالرغم من تقدم وسائل النشر والتواصل الحديثة إلا أن الرواية السردية تراجعت في كف التكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن سرعة الإيقاع العصري الذي حرم القاريء من متعة الصورة الذهنية التي تستمد من نسيج السرد الممتد، لماذا؟

وجاءت الإجابة كالتالي: المفكر الموسوعي الدكتور محمد حسن كامل، سؤالكم الاستهلالي المتعدد يحمل في جنباته قضايا ما زال الصراع محتدمًا وقائمًا بين أصحاب الأجناس الأدبية بشأنها، وهو الذي حدا بي إلى طرح مفتتح استهلالي لندوتنا يناقش مكانة الرواية وسيادتها، وبين رفض وقبول كل فريق، وعلى الرغم من تقدم وسائل التكنولوجيا فقد استوعبها النص السردي الروائي وطوعها لتكون إحدى تقنياته في الحكي أو السرد، وهذا ما يتيح للنص الروائي السيولة والتحول والامتداد، ولهذا فمهما طالتها ـ أي الرواية ــ موجات التكنولوجيا العاتية، استوعبتها ولفتها بين طياتها، ولأن لغة الرواية الكتابة، فقد احتاجت إلى الصورة المبسوطة على الشاشة لتستوعب بذلك الصورة الذهنية والنص السردي معًا، ولذلك كان تعريف السرد عند "ميتز" بأنه مجموع الوقائع والأحداث التي ترتب في نظام أو توالٍ "سلسلة" من المشاهد، يحاول الفيلم تقديم تلك المشاهد من خلال قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقًا لأفكار مسبقة أو مستعارة، إنما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان؛ إذ الكاتب ــ عند ميتز ــ يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها... وهذا ما يضمن للرواية امتدادها، لأنها الخطوة الأولى للسينما، وبالتالي فقد أضاف القاريء/المتفرج متعة فوق متعته عندما يشاهد فيلمًا سينمائيًا مُعدًا عن رواية.

سأل الأستاذ عمرو ع ـ م: هل السرد يعتمد على التخاطب اللفظي فقط؟

وقد أجبته بأن الخطاب اللفظي أو المنطوق هو ما قُصَّدَ به لغة السرد الروائي،ولقد شكلت لغة السينما قضية حاربتها بشدة كافة الاتجاهات التقليدية السينمائية، ينطلق جان ميتري في مؤلفه "جماليات وسيكولوجية السينما" في معالجة هذه القضية، من منظور مختلف إلى حد ما عن ميتز، وينتهي، بعد عرض أفكاره، إلى أن السينما أيضاً لغة، لكنها تختلف عن اللغة المنطوقة، على الرغم من أنه يراها في النهاية لغة طالما إنها تشارك اللغة اللفظية في خاصية إيصال المعنى، لأن الفيلم أولًا هو نظام صور لأشياء هدفه وصف تتابع إحداث معينة، يطورها إلى سرد. وهي صور تذعن، وفقًا لطريقة السرد المختارة لنظام من العلامات والرموز، ومن هنا فقد صنف "جان ميتري" السينما في تصنيف يختلف عن اللغة الكلامية، لأنه يجد الصورة تختلف عن الكلمة التي تقارن، ولان الصورة تتطابق مع أشياء الواقع. ويوضح ميتز، بأنه من اليسير مناقشة أن كل لغة ينبغي أن تشبه اللغة المنطوقة، تجعلنا نستنتج أن لغة الفيلم لاختلافها عن اللغة المنطوقة هي بالتالي ليست لغة، وقد حاول "مارسيل مارتن" في كتابه: "مفهوم آخر للسرد" العمل على تقسيم التوليف "المونتاج" إلى توليف روائي وتوليف تعبيري، تاركًا للأول مهمة بناء الرواية من خلال تسلسل تاريخي أو منطقي يدفع الأحداث إلى الأمام، أما الثاني فيؤسس على تراكب اللقطات تراكبًا هدفه إحداث تأثير مباشر في ذهن المتفرج باستخدام مؤثرات قائمة على القطع وليس الارتباط.

سألت الأستاذة حسناء الحساني: ماذا تقصد بكون الرواية قادرة على صهر أجناس الفنون الأخرى في شخصيتها؟ كما أني أرى أن المسألة ليست مسألة من يفوق على من في الرواية والشعر فكلاهما جنسان أدبيان يستحقان القراءة، المسألة هي كيفية النهوض بالآداب عامةً وتشجيع الإقبال عليها، فما رأيكم؟

ويأتي سؤال الأستاذة حسناء الحساني متفقًا مع سؤال الأستاذ أحمد حمدي: الرواية حاضنة بالفعل للفلسفة والتاريخ والاجتماع بل الشعر ذاته، ولكن يبقى للشعر أنه النبع الثري للمشاعر والعواطف الإنسانية، والوسيلة المباشرة للتعبير عنها بلا اختفاء وراء الشخوص والأحداث المختلفة، الشعر له أهميته والرواية لها حضورها أيضًا، فما قولكم؟ الإجابة عن سؤال الأستاذة حسناء كون الرواية قادرة على صهر أجناس الفنون الأخرى، أكده الأستاذ أحمد في سؤاله، وأجيب بالموافقة على ما قاله الأستاذ أحمد، غير أن الشعر أيضًا يستطيع أن يكون حاملًا لكل ما ذكر، وقراءة سريعة ستحيله للقصائد التي أرخَّت لحقب مهمة في تاريخنا العربي والإسلامي، ولم تغب الحكمة وهي المرادف للفلسفة عند العرب في شعر المعري والمتنبي وهكذا.. وهذا لاينفي ما تتمتع به الرواية من خاصية التناص، واحتضان الشعر والفلسفة والتاريخ والفكر، غير أن مسألة المباشرة والتقريرية حتى في الشعر تقتله، وإن كنتَ تقصد شخص الشاعر فهو أيضًا مثل السارد في الرواية إن كان ينقل لنا تجربة غيره، أما إذا كان سردًا ذاتيًا فيلتقي مع سارد الرواية من حيث المباشرة، ولكن الفارق يكمن في استحداث تقنيات أوسع وأرحب مجالًا وتقبلًا للتطوير في النص السردي الروائي والسينمائي عنه في النص الشعري العمودي/الخليلي، وإن كان من الممكن أن يتقبله النثر في قصائده سواء اختلفنا على كونه شعر من عدمه!.. وبالطبع لكل جنس أدبي أهميته، ولهذا فأنا أؤمن بالتجاور بين الأجناس الأدبية، بل بالتجاور بين الأضداد داخل الجنس الأدبي أو الفني الواحد.

سألت الأستاذة حسناء الحساني: أرى أن المسألة ليست مسألة من يفوق على من في الرواية والشعر فكلاهما جنسان أدبيان يستحقان القراءة، المسألة هي كيفية النهوض بالآداب عامةً وتشجيع الإقبال عليها، فما رأيكم؟ كما أن إرجاع تفوق الرواية على الشعر إلى الأسباب التي ذكرت، وأيضًا صعوبة تذوق الشعر مقارنةً بالرواية فيه الكثير من الصواب، لكن أردف على ذلك تراجع الحس الفني لدى الناس وحتى تراجع اللغة العربية التي بدأت تختفي حتى على ألسنة الأدباء والمثقفين لصالح العامية، أرجو منكم التعليق؟

وكانت إجابتي: رائع ما قالته الأستاذة حسناء الحساني، وهذا في الواقع ما أشرت إليه في التعقيب وأوردت رأي الدكتورة أماني فؤاد، ولو راجعتِ مقالي ــ مشكورة ــ "النثر ..قصيدة تأبى الرحيل" لبان لكِ أني من أشد الأدباء الذين يؤمنون بالتجاور بين الأجناس الأدبية.. كما أني أشد على يد الأستاذة حسناء في تتبعها التاريخي في ثنايا سؤالها الثاني الذي يتضافر مع العامل الفني، وأضيف لكل ما ذكرتْ ذلك الذي ذكرته في إجابتي على سؤال الدكتور محمد حسن كامل، كما أن هناك عوامل تأتي مجتمعة يزاحم فيها فن فنًا آخر فيزيحه عن مكانه فترة ما من الزمن، ثم يعاود هذا الفن عودته لمكانته إذا جدت عوامل أخرى مُعِينة له، وتذكرين حتى داخل الفن الواحد كيف يزيح نوع نوعًا آخر؛ ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت التراجيديا هي التي تتسيد فن السينما في مصر بينما تأتي الكوميديا في مكانة تالية لها، وهو ما يختلف مع حاضرنا الآن من تسيد الكوميديا وتراجع التراجيديا، وذلك مرجعه عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، تتصل اتصالًا وثيقًا برفاهية المجتمع/الجمهور، ولهذا فلا قلق من تزاحم الأجناس ما دام لكل جنس مكانه ومكانته، فالتزاحم غير التقاتل والإقصاء.

ويأتي في نفس السياق، سؤال الأستاذ أحمد حمدي: أرى أن أزمة الشعر مرحلية، فالشعر كجزء أصيل من الثقافة العربية يمر بكبوة وركود كبير، والرواية تنتشر الآن لأنها تعتمد على الحكي والقص وهي أقرب للقاريء العادي الراغب في التسلية، وذلك بسبب انتشار ورواج روايات تافهة وسطحية، لأن الثقافة في أزمة، ولا يوجد جمهور حقيقي يميز الغث من الثمين، هذه كل الحكاية، ولكن الشعر لم ولن يموت، فهناك من يكتب شعرًا جميلًا، ولكن لا يوجد جمهور يتلقى، وعندما تفيق الثقافة من كبوتها سيعود الشعر مزاحمًا للرواية ومنافسًا لها، فما رأيكم؟

أشكر الأستاذ حمدي على سؤاله، وأحترم ما ذهب إليه، وأنا في الأصل شاعر، وأتمنى معك أن يعود الشعر إلى اعتلاء صهوة الريادة من جديد، ليكون ديوان العرب كما كان، وحالة الشعر في التراجع تصيب ليس المجتمع العربي وحده بعامة والمصري بخاصة، بل رصدتُها في فرنسا وأنا أعرض هذا السؤال على الأستاذين خشان خشان رائد العروض الرقمي حيث كنت أحاوره في أول كتاب سيصدر عن العروض الرقمي وستصدره حروف منثورة إن شاء الله تعالى، ومع الدكتور عمر خيتي، والمسألة تعود إلى الذائقة، وحقب تاريخية وأجيال، وعصر بأكمله تتضافر فيه كل المعطيات الحضارية في خلق أجيال جديدة بأمزجة جديدة، ولكن ما زال للشعر بتعدد مدارسه جمهوره.

جاء سؤال المهندسة هدى: الرواية التي نقرأها في أيام تختلف كثيرًا عن الفيلم الذي راه في ساعتين، وأرى أنهما لا يتشابهان إلا في العنوان والمضمون فما رد حضرتك؟

وقد أجبتها: المهندسة هدى لها مني جزيل الشكر والتقدير، ومداخلتها ثرية، وقد تعرضتْ لموضوع جد كبير وواسع، تناولته الدراسات الطوال حول إشكالية الزمن في النص السردي، وإشكالية الزمن الروائي، والذين ينظرون للرواية يعرفونها بأنها فن يقوم على الزمن مقابل فنون المكان مثل النحث والرسم، ولهذا حاولوا أن يميزوا بين زمن الحكاية، وزمن الكتابة، وزمن القراءة، وهنا يتضح أن الرواية أيضًا توجز أو تلخص فترات زمنية تمتد لسنوات طوال، عبر صفحات مهما بلغت لن تكفي أو تفي زمن الأحداث في الواقع، غير أن العناصر التي تأتي متفرقة في الرواية تكون مجتمعة في الفيلم عبر الصوت والصورة والحركة والموسيقى، ولهذا فقد قاربت زمن الرواية بتقنياتها المتعددة. كان سؤال الأستاذة إقبال المطيري: لماذا قصرت السرد على راوٍ واحد؟ وقد أجبتها، بأن الاقتصار على سارد واحد، لأنه هو الكاتب، أو الراويأ أو الحاكي، وبالنسبة لعلماء السرد هو المرسل، ولذكلك فقد اقتصر على راوٍ واحد، ولهذا يقول جينيت: (لا يوجد قص بلا راوي، وربما لم أصادف ذلك بعد)، فالمؤلف له وجود حقيقي خارج النص، بينما الرواي وجوده داخل النص.

سأل الأستاذ أحمد حمدي: ألا توجد تقنيات أخرى في السرد غير الراوي العليم، والأصوات المتعددة؟

وهذه آخر إجاباتي: بالطبع هناك تقنيات سردية قائمة، وتقنيات أخرى ستجد بطبيعة الحال ومنها تضمينات (باختين) النظرية التي مفادها: أن اللغة تحضر داخل النص الروائي كقيمة دلالية، وكطرح أيديولوجي فتكشف عن منظور المتكلم، ولذا فقد صاغ (باختين) هذا التصور للشخصية –الصوت في نظريته من خلال ما اصطلح على تسميته بـ "تعدد الأصوات" وهو مفهوم يسمح بانفلات النص من تحكم المنظور الواحد. نظراً لكونه يتأسس على تعدد الأصوات التي تعني في جوهرها تعدد المنظورات. فمع هذا المفهوم يغادر النص الروائي أحادية المنظور الموجه للنظام السردي في الرواية التي تتقدم فيها الأحداث تبعاً لوجهة نظر واحدة تحقق إمكانية تواجد وجهات نظر أخرى مناقضة لها من جهة، وتفرض على القارئ حقيقة واحدة من جهة ثانية، ومن هذا المنطلق تمكن "دوستويفسكي" من أن يسمع داخل كل صوت "صوتين متجادلين" في كل تعبير استطاع أن يكتشف أزمة واستعدادًا للانتقال في الحال إلى تعبير مغاير تمامًا، وهذه الخاصية هي التي تنتج فعل "التعدد الصوتي".. ولذا فسوف نفاجأ بتقنيات جديدة معقدة لأنها في الأساس متداخلة،‮ ‬وفيها نوع من عدم الترتيب،‮ ‬أو العودة إلي الماضي،‮ ‬أو تداخل الشخصيات،‮ ‬وغير ذلك من فنون وتقنيات،‮ ‬فالتقنيات الجديدة التي جعلت من الرواية فنا‮ ‬يحتاج إلى امتلاك ثقافة عميقة حتي‮ ‬يمكن تلقيها واستيعابها‮.‏

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 109 مشاهدة
نشرت فى 13 مارس 2016 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,071