الكتابة ومصافحة البؤس الاجتماعي
[قراءة في مجموعة "طقوس للعودة" للكاتب السيد إبراهيم أحمد]
بقلم:د. ديانا رحيّل
في كثير من الأحيان ترتبط الخطى الأولى، والبدايات الممهدة في ميدان الإبداع ببعض التلعثم والقفز في الهواء، أو كثرة الفجوات التي تتخلل البناء المنجز في المرحلة المبكرة، لكن الكاتب المصري في مجموعته القصصية الأولى حاول تجاوز العثرات المرتبطة بالبدايات، عبر ما نلحظه من محاولة التماس الضروب الأقرب للوضوح أكثر من البحث عن متاهات القول. وبالرغم من بساطة لغته، إلا أن نصوصه تنطوي على مكون قصصي نابض، تتدفق فيه انسيابيا عواطف وأحاسيس وتأملات ما زالت تحتفظ ببكارة السؤال فيها.
يتأسس النص السردي القصصي من تركيبة معقدة ينصهر في بوتقها الوجدان واللغة والواقع والآمال والآلام، لتشكل نسيجا من الرموز المتآلفة والمنفتحة على فضاءات واسعة، والمبدع جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، فإن العناصر الأدبية والاجتماعية هي التي تحدد النتاج الإبداعي للمؤلف.
وفي مجموعة (طقوس للعودة) للكاتب المصري السيد ابراهيم، يظهر ان حلم الرجوع الى البيت الأول هو الهاجس الأكبر عند الانسان، وهنا انزاح فعل العودة عن معناه العام، اي مجرد من مجرد رغبة في الرجوع الى فعل مقاومة وتحد، عودة إلى الأصيل من عاداتنا وتقاليدنا.
فالرجوع أو العودة في المجموعة القصصية ليست عودة إلى بلد بل الى الأصل من البلد، الى الخير، والأخلاق. والعودة هنا هاجس إذ تتخطى حدودها اللغوية الى الاصرار على التواصل والرجوع الى الجذور.
تعد مجموعة طقوس للعودة ذات بعد اجتماعي، فضلا عن الجرأة التي تناول الكاتب جملة من القضايا والهموم الحياتية. فمجموعته تضم خمس عشرة قصة، هي؛ عندما تكلمت المرأة، لجظة دفء، صداقة، عم جابر أفندي، الجبل، الاقتحام الخاطئ، سلطان عرش الدخان، عندما تكلمت المرأة، القطار، طقوس للعودة، رجل وامرأة وموظف، لحظة انسحاب، رغم أنفه، وزر الأخرى. تعالج مواضيع انسانية وعلاقات اجتماعية، فالبطل لديه مكافح يبحث عن حياة شريفة نقية، خالية من التعقيد ومتاهات العصر وبهرجة الحضارة. يعتمد الكاتب على البوح عن أحاسيس ومشاعر أبطاله، ربما كانت نقطة تحول في حياة هؤلاء الأشخاص.
اقترب كثيرا من هموم الإنسان العربي ومعاناته ذكرًا كان أم أنثى، وهو في هذا الاقتراب ضاقت دائرته أم اتسعت يحاول تلمس العقبات والعثرات التي تعترض طريق هذا العربي الطامح لبناء غدا أفضل.
الالتزام والواقعية الاجتماعية بنيت عليها المجموعة، إذ تبنى الكاتب قيم الرؤية الواقعية في الأدب، وجاءت مجموعة متسمة بطابع زمانها، فكان أول ما ميزها أنها عكست واقع الحال، فكانت قصته محكومة بالغضب وبالنبرة العالية الصاخبة الضاجة بالاعتراض الى درجة يحس معها القارئ أن ضربات قلبه تزداد، ودمه يعلو ويثور.
تبدو الفكرة هي الأساس في المجموعة، فقصصها تستمد قوتها من قضايا المجتمع، وهموم الناس، في عصر تماوجت فيه الأفكار وتصادقت، وتلاقحت فيه الآراء وتنافرت، فالنصوص تحاول الوقوف عند بعض القضايا، وأهمها التربية والإصلاح الاجتماعي.
حاول بجرأة أن يعبر عن الجانب الاجتماعي للمرأة، وتجسيد حالتها ووضعها في ظل التقاليد والمفاهيم المسيطرة. فالمجموعة تعالج قضايا لها أهميتها في إعداد وتطوير المجتمع.
كان حضور حواء بارزا في المجموعة، إذ حضرت في تسع قصص بشكل فعلي، وكان حضورها ضمنيا في القصص الأخرى، بمعنى أنها وإن لم تحضر في السرد كشخصية إلا أنها حضرت كمضمون يحرك السرد، ويسيطر عليه.
وهذا دليل أن السرد يمارس نوعا من النقد الاجتماعي الفكري لبعض الممارسات تجاه المرأة. وفي خضم ضواغط النسق الفحولي المهيمن القامع للأنوثة الطامح لتدجينها يحاول صوت المرأة استعادة شيئا من كبرياء الذات المسلوبة المكبلة بأغلال العادات والتقاليد، لكن النتيجة دائما سلبية محمّلة بدلالات التأكيد لنتيجة الصراع النسقي باتجاه تكثيف عتمة الواقع ومرارته المتكئة إلى ثقافة اجتماعية تبيح نظرتها المتدنية إلى الأنوثة وتغييب كينونتها ومصادرتها في مقابل اعلاء صرح الحضارة الذكورية.
ورسم أيضا صورة للمرأة الخانعة المضطهدة من قبل المجتمع، التي تتمسك بالرجل وتحتمي به مهما كان ضعيفا، وتتخذه حاميا في وجه مجتمع الذكورة الظالم، وساعد تصوير الكاتب للمرأة في المجموعة إلى فضح الإحساس المتنامي بضمور الأنثى فكريا، وعكس صورة شاذة لطبيعة العلاقة المهزوزة التي تربطها بالرجل، الذي أدى إلى حتمية سقوطها معه، فالسقوط للمجتمع الذي يدّعي المثالية.
حاول التعبير عن المفارقات ما بين المستويات المرغوبة والظروف الواقعية، وهذه المفارقات تمثل اضطرابا وتعطيلا لسير الأمور بطريقة مرغوبة. وتتصل المشكلات الاجتماعية بالمسائل ذات الصفة الجمعية التي تشمل عددًا من أفراد المجتمع بحيث تحول دون قيامهم بأدوارهم الاجتماعية.
طرق الكاتب مواضيع اجتماعية متعددة كالزواج المبكر وزواج القاصرات، فوجود هذه الظاهرة بشكل أو بآخر يتطلب إعادة التربية، وتغيير الأفكار السائدة، وفارق السن والعقلية والمستوى الثقافي والاجتماعي، كل ذلك بمثابة قنابل موقوتة، قد تنفجر في كل لحظة مخلفة ضحايا: أرامل وأطفال. فالكاتب يحاول استنهاض الهمم من أجل تغيير النظرة الاجتماعية، في سبيل تربية فاعلة واعية، الهدف منها إعداد الفتاة لعشرة التآلف والتعاون والتساكن، لا عشرة الخضوع والإذلال.
ربط الكاتب الأحداث بشكل موضوعي، وكان ميله واضحًا لترك بعض الأحداث ليستشف القاريء نتيجتها دون التوقف عندها. والنص ثري ومفعم بالقضايا الاجتماعية والقيم والكثير من التفاصيل الحياتية. وامتازت لغة التعبير بالخيال الواسع، عبر تصويره للواقع والبيئة، بأسلوب قصصي متميز دون اللجوء الى الغرابة والتعقيد.
عبر الكاتب في أربع عشرة قصة عن الواقع الاجتماعي، وعبر في قصة واحدة هي "لحظة انسحاب" عن الجانب السياسي، دون انفصال بينهما، بل أثبت أن الواقع السياسي أصبح ضالعا في ثقافة الحياة اليومية، ولم يعد مقصوراعلى النخبة من المثقفين والسياسيين، لقد صار الشارع سياسيًا بامتياز، والناس أصبحت تدرك الموضوع السياسي أينما كان، سواء على صفحة الجريدة أو على قناة تلفزيونية أو على شبكة الانترنت، مادام الخطاب متواصلا مع وعي الناس ومعبرًا عن همومهم السياسية التي تمس حياتهم اليومية.
يبقى أن الكاتب قد نجح في الإعلان عن نفسه كقاص يسعى لهذه الغاية بهدوء وإدراك تام لمشروع التأليف والكتابة، وقد وظف مخزونه واستدعى جملا تراثية معروفة وزج بها في نصه.
ساحة النقاش