دكتور السيد إبراهيم أحمد

 


  حين تقرأ تلك القصيدة التي تأرجح فيها اللفظ بين الفصحى والعامية التي أصابتها نشوى الذكر، فتاهت مع شاعرها الذي حين تسمعه كأنما يترنم بتهويمات، يكاد لا يخرج سامعها من مثل تلك الحالة من اللذة التي لا يدري  كنهها أو منبعها، وإذا أمسك ذات مرة بتلابيبها، عجز عن وصفها، لا لغيره فقط بل لنفسه أيضًا، لكنه عن رغبة منه، ودون إرادة منه، لم يسعه التوقف، وآثر المضي، وهو أيضًا لا يدري لمَّ آثر المضي، وكان عليه أن يتخذ قرار الاكتفاء من هذا الانتشاء اللامفهوم، ولكنه استعذبه فأعجبه فطلب المزيد، وطاب له المزيد، فقد ذاق وعرف، وغرق واغترف..
   هذه الحالة التي وقف عندها الشاعر الشاب يحي السيد حين دلفت روحه إلى عالم التصوف، وربما جذبته التائية الكبرى للشاعر الكبير عمر بن الفارض فهام في أجوائها، وقبس من اصطلاحاتها، وطفق يرسم لوحته التشكيلية التي تنبيء بأن حرقة الوجد قد لامست يده لا كبده بالكاد، ولكنه من سناها نثر ذلك العشق المدلهم، وبذر أرض القصيدة بكل أزهار القوم على سرها الموقوف عليهم، ومثلما حار ويحار القوم في فك طلاسمها، تركنا يحي السيد نحار في فك طلاسمه، وبدأ أبياته بوصف حالة من الحسية الغزلية التي برع فيها أسلافه من الشعراء المتصوفة، وكنى عن معشوقته بضمير الغائب، وباللفظ المباغت شفا العين، وللعين أهداب، وللفم الشفتين، ولكنه بدأ مسافة القرب بأنه كان قاب قوسين أو أدنى، ولكنه استعصم من الوقوع في الهوى باليقظة من خارجه [لكنت هويت]، والهوى هنا من الهاوية أي الوقوع:
وكنتُ علي شَفَا عينها
ولولا أنّي مِسكت إديّــا من بره  
لكـنت هـويــت..
   لا تستطيع أن تبتعد عن دلالات الشاعر بالالتجاء إلى غيرها طبقًا للمنهج الدلالي، ولا ترى من صوره التي زجها في طريق القاريء بين الحسي والمثالي، والتي تزخر بأفعال الماضي والمضارع وكأنها كانت وكائنة في ذات الوقت، أي ما زالت تفعل فعلها أو أن القصيدة مازالت تكتب نفسها بيد الشاعر:
وانا اللي كنتَ سبت عينيا ف الملكوت
تلمّ الباقي من جِسمك
لحد النور ماخنِّي عميت..
  المألوف أن النور في ذاته يعين على كشف الأشياء والحقائق في العالم المادي، وهو الذي يغمرنا فيكشفنا ويكشف لمن أراد لهم ربهم الكشف، غير أن الشاعر خانته أنوار الملكوت حين أطمأن لها وترك عينيه ترعى في حماه ــ أي حمى الملكوت ــ فطغى على بصره حتى أعماه، ولكنه خلاه فحلاه، ثم جلاه حتى صار سلامًا وتشكل وردة، فصار محلاً لتلقي الأسرار العلوية الرحمانية:
فكنت سلام
وكنت أقرب إلي ورده
بتشرب ريئك الشفاف
ندي معصور من الرّحمن.
ولولا إني ماكنتش ف الأثر وحدي،
فكان فيا.. 
   ولا أدري أقصد الشاعر اتحاده بالأثر جريًا على العادة في محاكاة أشياخه في الحلول والاتحاد أم أنها على سبيل التوهم والأنس، والغالب هكذا.
   في نقلة مباغتة كضربة موج عاتية، يبعدنا عن جو القصيدة لينقلنا إلى مفتتحٍ كأنه قصيدة أخرى، بل ونظن أنه أخذته الشفقة بقارئه فكاد يفك له مغاليق الأسرار، لنكاشف أنه ليست إلا كمينًا من الشاعر، وليس هناك ثمة انفراجة، ولكنها حَنية صغيرة ستدلفنا إلى دهليز مغلق ينتهي بنفس اصطلاحات القوم من السكر، والوجد بالاتحاد، وضم المشاهد إلى بعضها حين يستطيع أن يحل بذات الجسد الواحد في عدة أماكن، في آنٍ واحد، حتى يسلِم قارئه إلى الحيرة من جديد وأنه ما زال أسيره، ووثاقه بيده، ولن يمنحه صك الحرية، حتى تفوز روحه أولاً بالانعتاق:
صبيه شقيه بضفيرتين
بتخرج من ضفايرها
فتبقي فَراشه صوفيه،     
وضحكه فارده فستانها ف قلب الكون
فضحكة ليه ؟!
وضحكة جوه جسمك ليه
وسابت دمي ليه  بارد ف بير زمزم
فكانت سرَ للنشوة
ونبته خضره ف ضلوعي بترقص ذكر ف الحضرة
فسكرت روحي في روحك،
 وفي صورة مشابهة من استدعاء أداة الشرط تلك التي استكثر منها ابن الفارض في أبيات متتالية في تائيته، يأتي بها الشاعر يحي السيد منفصلة ومفصلية عند نهاية المقاطع، وكأنما يصرح بمكابدته بين الإقدام والإحجام، فتأتي من أول القصيدة حتى نهايتها على هذه الوتيرة:
ولولا إني ماكنتش ف الأثر وحدي،
فكان فيا.. 
.........
وهذه التي تتكرر أكثر من مرة بأكثر من صورة:
ولولا اني ماكنتش ف الأثر وحدي
لكنت دخلت..
..........
ولو سألـــــوني انت هـويت
.........
  وتمضي بنا القصيدة في أجواء من الصوفية التي هام بها الشاعر يحي السيد ولملم الكثير من ثمارها، التي أعياه جمعها الطواف في بساتينها، وجاء بها  ليزين بها أبياته، بصنعة وحرفية، فلم يكن يسوقها اعتسافًا، أو محاكاةً بدون تعقل، بل كان ذلك منه على هدى وبصيرة، وإن كان أجمل الشعر ما غمض، إلا إني أناشده الرفق بنفسه وبقارئه؛ فجميلٌ أن يصنع أسلوبه، ولكن الجميل أيضًا أن لا يفقد قارئه.
   إن قصيدة واحدة لاتدل ــ في الغالب ــ على جودة ونبوغ الشاعر وأصالته، ولكن قصيدة من هذا النوع الثقيل التي يسمح نصها بقراءتها بأكثر من قراءة، وعلى أوجه متعددة من التلقي، لتنبيء بأن الشاعر يحي السيد صوت واعد وقادم بقوة، وله أسلوبه المتفرد الدال عليه، وأنه يمتلك أدواته، ولايتملكه الغرور، ونحن في انتظار مزيده وجديده:  
فهل أصلي من الممكن
يعدي في مسام الروح
ويخلق جبهتين واحد
يقيدوا قدس من بنور
يعانق لهفة العاشق
فيوجد شوق ولد ماسك
فطرف البرزخ الواسع ، وشفّ الروح
وريق مريم يوازي كعبة التايه
وضوء مسموح الى كلّ الجهات الست
صلاه واسعه بلا قبلة
لانه ثمّ وجهُ الله  
فولي وجهي لعينيها
لحد السكر .. سكر الجنه بي ريدي
فقصي طرف عين نسيت تبوح بالسرّ ف النجوي .
وقلبي براح وبي ظاهر وقلبك هوّ لي باطن
ف كان كلي دليل ليكي
وانتي بيكي بي برهان
وانا معمي الدليل عنك
وكلّي سر برهانك .
ف بي طمعك وما يسري الي دمي ،
فلمي الخوف
ما انا حنجرتي ناي مكشوف
تجلي لي,
وقاصر طرفي ما ملّي
تجليكي،                                                                     
وجسمي كفيف بيتعكّز على روحي
وروحي همزه لي روحك
فسيبي خطوتي للجرف
وايدي الخارجه عن جسمي
سيبيني أهوي الي الكلية في ذات "ك"
ولو سألـــــوني انت هـويت
هقول طعم السكوت أفضح..

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 96 مشاهدة
نشرت فى 19 أكتوبر 2014 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,135