دون أن أدري تسللتني على مهل، وفي شيءٍ من الاستسلام القدري سلمت لها وجداني طواعيةً، هل لكونها في طول أصغر بناتي التي ألمح في جنبات عينيها نفس إصرارها وجديتها؟ هل لكونها وهيئتها وآلتها "الفلوت" الذي تحمله كسلاح تحاول أن تشهره في وجه من يشوشون ويشغبون علينا صفو حضارتنا، وصفاء أحلامنا، ومخاض الأمل فينا؟ هل لأنها من أمهر عازفي الفلوت في مصر والوطن العربي وحسب؟
لا.. لم يكن وحده أو كل ما ذكرت هو السر في حصاري بهذا الطغيان الهاديء حينًا والهادر أحايين أخرى، ولكن لكون "الدكتورة رانيا يحي" حالة مصرية فريدة لاتقيسها بمعيار الأنوثة والرجولة؛ فهي كلٌ في كل يمتزج فيها العلم بالفن، واحترام الذات بالوطنية الصميمة، والوعي بالحاضر مع استحضار الماضي بعراقته، والمنهجية المعرفية بتبسيط العلم، والتواضع في اعتزاز، والصرامة الحانية.
لم أتشرف بسماع عزفها، ولكنني أُخِذتُ بالإنصات لصرير ومنتوج قلمها المبدع، ثم أبحرت فتوغلت في عالمها، فإذا هيَّ سواحل عدة تطل من مشارفها على أنهار وبحار وبحيرات متنوعة العمق والاتساع، فإذا ظننت أنك علمت عنها التأريخ الموسيقي وحده، باغتك سيفها البتار في النقد، وإذا استنمت لفكرة أنها محصورة في النقد الموسيقي فقط، أيقظتك براعتها في التناول النقدي في السينما والمسلسلات والبرامج، وإذا بدا لك من سمتها الرقة التي تطل من حنوها على آلتها، أظهرت لك الثورة والتمرد والعصيان حين تنتفض في نقدها السياسي لبعض برامج التوك شو بل وتلك السياسات والممارسات الخاطئة داخل الأوبرا والحقل الثقافي، حتى وإن جرت عليها الخصومات والثارات والزوابع.
يدهشك ذلك التنوع الثقافي الخلاق، والمتأطر بالمنهج العلمي المدروس؛ فلا قفزات بهلوانية، ولا دس للأنف بفهلوية ابتغاء الشهرة أو طمعًا في المال أو سعيًا لمنصب، هيَّ شخصية متصالحة مع نفسها، منسجمة مع مبادئها في اتساق غير صارخ، لاتفرض نفسها على العيون بالفتون ولكن بالفنون، فنون القول السديد، وفنون العزف الرصين الرشيد، تدور كالنحلة بين أرجاء العالمين الغربي والعربي تنقل الحدث وترصده وتنقده وتفنده وتحلله، إن اتصل الفن بالطب وجدتها، وإن اتصل الفن بالدين ألقت بنفسها في أتون التحليل والتحريم غير هيابة ولا وجلة، وإن اتصل الأمر بالدولة ومؤسساتها أبحرت بقاربها في معركة غير مدعوةٍ لها، وإن اتصل الأمر بدينها السمح الحنيف ورأت من يشوهه أو يحاول بسوء تصرفاته الحمقاء، نزلت إلى الساحات ودافعت جماعات الإرهاب ليقلعوا ويعودوا عن غيهم، ولا تخش أن تكون في مهب الريح وحدها.
إنها الدكتورة رانيا يحيى الطالبة المثالية على أكاديمية الفنون، والحاصلة على بكالوريوس الكونسرفتوار بتقدير عام ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1998، وفي نفس العام حصلت على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة عام 1998، وفي عام 2000حصلت على دبلوم الدراسات العليا من الكونسرفتوار بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، ورغم فرحتها بالحصول على ماجستير الفنون من الكونسرفتوار بتقدير ممتاز عام2006 إلا أن هذا العام كان بالنسبة لها بمثابة عام الحزن؛ إذ لبى أحب الناس إلى قلبها والدها اللواء يحي سعد نداء ربه، فلعقت أحزانها بعد زمنٍ غير قصير لتشد الرحال صوب الشوط الأخير من مشوارها العلمي، فحصلت على الدكتوراه في فلسفة الفنون من المعهد العالى للنقد الفنى عام 2011 بتقدير مرتبة الشرف الأولى، لتنال العديد من الجوائز من المجلس الأعلى للثقافة والتي هي عضو به، كما مثلت مصر في العديد من المهرجانات الدولية بالخارج.
أصدرت كتابين مهمين، هما:"غذاء الروح"، وثانيهما:"موسيقى أفلام يوسف شاهين"، ولعل من تابع المؤلفات التي حاولت تقريب فن وعلم الموسيقى إلى أذهاننا نحن العامة من غير المتخصصين، مثل: كتاب "الموسيقا للجميع" للموسيقار عزيز الشوان، وكتاب "تعالى معي إلى الكونسير" للأديب يحي حقي، وكتاب "مع الموسيقى" للدكتور فؤاد زكريا"،وكتاب "الموسيقى السيمفونية" للدكتور حسين فوزي، أو تابع برامج الدكتور يوسف شوقي بالبرنامج العام، والدكتور حسين فوزي بالبرنامج الثاني، سيشعر ويقر بأن كتاب "غذاء الروح" يأتي درة مهمة في هذا العقد الرائع ويستكمل مسيرة السابقين؛ إذ حاولت الدكتورة رانيا تقريب الموسيقى الكلاسيكية للمتذوق العربى عامةً والمصري خاصةً وذلك بتبسيط المفاهيم الموسيقية وتقديم تعريفات بعائلات الآلات فى الأوركسترا، ثم عرضت لأهم الصيغ الموسيقية وشرح لأهم العصور الموسيقية الهامة فى تاريخ الموسيقى العالمية منذ عصر النهضة وحتى القرن العشرين مع إلقاء الضوء على أهم المؤلفين الموسيقيين في كل عصر.
وقدمت الدكتورة رانيا من خلال كتابها الثاني: :موسيقى أفلام يوسف شاهين" عرضًا تاريخيًا شائقًا لمشوار يوسف شاهين الفني مع استعراض جماليات الصورة السينمائية والعلاقة بين الموسيقي والصورة داخل الفيلم السينمائي، ولم تكتفِ بهذا بل تناولت موسيقي الأفلام منذ نشأة السينما في العالم بالإضافة لجزء آخر للسينما المصرية. مع عرض تحليلي لجماليات أهم "15 فيلم" تغطي مساحة زمنية قاربت النصف قرن من رحلة يوسف شاهين والتي تعاون خلالها مع مؤلفين موسيقيين كبار لهم دور بارز في مجال موسيقي الأفلام أبرزهم الموسيقار عمر خيرت والراحل علي إسماعيل والملحن جمال سلامة والملحن إبراهيم حجاج وفؤاد الظاهري.
لعل البوليفونية تحكمت في جانب من حياة الدكتورة رانيا العلمية حين درست الحقوق إلى جانب الموسيقى، وذلك لأنها عاشت هذا التعدد الصحي في بيئتها بين والد وجد من رجال الشرطة حيث التعليمات الصارمة، وأم تنتمي لمملكة الشعر الحالمة، فشكل هذا في شخصيتها توازنًا بين الجمال والواجب، والدفاع عن الحق مع من كان وضد من كان، مما أكسبتها دراستها القانونية الالتزام والحيدة والعدالة، وأكسبتها الموسيقى التزام النظام والدقة، بينما طعَّمت دراستها الحقوقية دراستها النقدية بالتريث والحزم في اطلاق الأحكام النقدية دون أن تخشى في الحق لومة لائم.
ولم يغادر التناسق والهارموني ساحة حياتها العملية والإجتماعية، فوازنت بين التحصيل العلمي، والإلتزام العملي في تأدية وظيفتها، والقيام بهمة وجد بأعباء حياتها وبيتها كزوجة وأم تمثل هذا في تنشئة ابنها وابنتها على تلك القواعد والأسس التي تربت عليها، خاصةً وأن نموذج بيتها وأسرتها يعتبر امتدادًا، ونموذجًا محاكيًا لتلك البيئة التي عاشتها من قبل مع والديها؛ إذ هي تنتمي لعالم الفن، بينما ينتمي زوجها لجهاز الشرطة.
لن تخطيء عين قاريء مقالات الدكتورة رانيا رشاقة عناوينها، وإيجازها أو إسهابها، مع تحميل العنوان بكل ما يريد القاريء معرفته عن فحوى الموضوع قبل قراءته، كما سيلاحظ خفة دمها، وسخريتها المصرية، مثل:"فؤاد الظاهري مبدع بألف وجه"، "الزوجة الثانية يحلق بموسيقى الظاهري وواقعية أبو سيف"، "عطية شرارة: "شرارة" الكمان.. و"فارس" الألحان"، "عصا "عباسي" تلملم شتات الشرق والغرب"،"من لعب عيال لفجاجة كبار"، وتبلغ أقصى السخرية في التقابل بين الكلمات في عنوان: "أقول لخرسا ليس الآن وقت الكلام"، وقد اعتمدت على اسم المذيعة رولا "خرسا" والخرس ضد الكلام بداهةً، والمعنى مثير كيف تأمر خرساء بالكف عن الكلام؟!
تتخطى الدكتورة رانيا حدود المحلية لترعى الإبداعات العربية،حين تناولت السينما السعودية وفيلم "وجدة" كتابة وإخراج هيفاء المنصور، ثم تناولت السينما العمانية من خلال تقديم الدعم والمؤازرة لرئيس الجمعية العمانية للسينما ورئيس مهرجان مسقط السينمائي الدولي الدكتور خالد الزدجاني ضد من يحاولون النيل منه والانقضاض على هذا الصرح الهائل الناجح، ثم تابعت السينما المغربية من خلال تناولها للفيلم المغربي "يا خيل الله" لنبيل عيوش، كما تخطت المحلية والعربية للعالمية حين تناولت الأفلام الحائزة على الأوسكار عام 2014، وكانت قد تناولت من قبل أحد أفلام الدورة السادسة لبانوراما الفيلم الأوروبي 2012.
أتاحت دراسة النقد الفني والأدبي للدكتورة رانيا يحي قراءة والفرجة على العمل الفني والحكم عليه من عدة مستويات قد لا تتاح لناقد غيرها؛ إذ قلما وجدنا اهتمامًا ينصب على تتر المسلسلات، أو اهتمامًا بنقد أو حتى تناول الموسيقا التصويرية ولعل من يتابع مقالتيها: "نظرة متأملة في تترات مسلسلات رمضان" و "في دراما رمضان تراجع دور الموسيقا" سيلاحظ هذا الاهتمام النقدي العلمي لا الإنطباعي، والذي أرى أنه سيكون حافزًا للشركات المنتجة في الأعوام المقبلة من التركيز على موسيقى وأغاني أعمالهم لظهور عين راصدة ستتابع وتنقد، كما تناولت الدكتورة رانيا بالنقد ودق أجراس الخطر في عدة مقالات نقدية هامة عدة أعمال فنية وبرامج، مثل:"من لعب عيال لفجاجة كبار"، "قلوب" يطيح بعادات وتقاليد الأسرة المصرية، "المسلسلات المدبلجة ..ناقوس خطر".
وتشكل تلك الثلاث مقالات الأخيرة، مع مقالات: "الدولة ومكارم الأخلاق" و"داعش.. لقد أسأتم للإسلام" و "هنيئًا شهيد شهادة الحق" ركنًا هامًا في البنيان الفكري والعقدي في شخصية الدكتورة رانيا يحي واحترامها لمباديء الدين الإسلامي الذي تعتنقه وأنه من مرجعياتها الهامة برافديه القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكذلك توقيرها للديانيتين السماويتين اليهودية والمسيحية، وانحيازها التام للهوية المصرية والعربية وللخصوصية الثقافية لمجتمعها، ورفضها التام للسباحة في فلك العولمة التي تحاول بث أفكارها، وبذر جذورها في أرضنا، على حساب القيم التي رُبينا ونشأنا عليها.
لاتعيش الدكتورة رانيا حبيسة نغماتها، أو متترسةً في البرج العاجي بمعزلٍ عن الناس وهموم الناس في بر مصر، بل هيَّ من تسعى طواعيةً وبدون دعوة في تسخير علمها وخبرتها، وطرح أفكارها وآرائها على صفحات الجرائد ليلتقطها أهل الحل والعقد وأصحاب القرار ويفعلونها لو أرادوا، فتطالب بعودة الفن إلى المدارس في مقالها "إيثار المعلم" وتناشد المسئولين الاهتمام بالطرق بديلاً عن الكوارث، في مقالها "حوادث الطرق"، وتطالب بعودة الحفلات الفنية في المناسبات الوطنية دون أن تتحمل القوات المسلحة أجور من يقدمونها، وذلك في مقال "رسالة للمشير السيسي..الفنانون جنودك"، بل تؤكد في دعوة جادة توجهها إلى الهيئات والمؤسسات المعنية بالثقافة والفن لتوجيه الشارع المصري ليقف جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة والشرطة ضد الإرهاب، من خلال مقالها "في حاجة إلى الفن لمواجهة التحديات السياسية"، وقد قدمت مقالتها الجميلة على صفحات مجلة الهلال"سبع نغمات ساحرات تحدد مصير الجنين"، وليس نوعه، فالنوع بيد الله تعالى، والمصير هو ما يصنعه الوالدين والأم خاصة.
وحين يقترب الفلوت من شفتيها لتنفخ فيها من روحها، تنساب النغمات بشرقيتها تارة وبغربيتها تارة، فتنقلنا من عالم الجسد إلى عالم الروح، وتنتشلنا من الارتكاس في المادية البغيضة إلى السمو بأفكارنا وأحلامنا في فضاءات وسماوات التمثل بالطير، والفراشات الهائمة، والأنسام المسافرة، والأغصان الميادة، والاقتراب من خلوات الزهاد، ومنشدي الأبيات، واللهج بالتسبيحات، والانكفاء على الذات تارة، ومحو الذات تارة، وانعتاق الأسرار والأفكار من الصدور إلى السطور بحبور...وكسر قضبان الأحزان، نحو نشدان الفرحة الضالة في فيافي النفس..
فأي سحرٍ فيكِ هذا الذي تطلقينه فينا يا "بنت يحي" تارةٍ بالقلم وتاراتٍ بالنغم؟!
ساحة النقاش