كان قدر ريحانة زيد بن عمرو بن خنافة بن سمعون بن زيد مع الإسلام تحيا به فى أخريات أيامها وتموت عليه ؛ فقد ساق الله لها النور صلى الله عليه وسلم حيث مرابع دارها وقومها .
فقدراً لم تجل ريحانة مع أهلها من بنى النضير فى العام الرابع من الهجرة امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم لهم : ’’ اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه ’’ وذلك نتيجة غدرهم به ، وهمهم بقتله وهو مسالمهم وفى ديارهم ، فقد كانت آنذاك متزوجة رجلاً من بني قريظة يقال له الحكم. فنسبها بعض الرواة إلى قريظة.
لم يسكت النضريون فذهبوا يؤلبون العرب على المسلمين وطافوا في القبائل مثل بني فزارة وبني مرة وبني أسد وأشجع وسليم وعرضوا عليهم مقترحهم فى غزو المدينة ، وافقتهم قريش وبنى غطفان ،فتشجعوا ومضوا صوب المدينة المنورة فى عشرة آلاف مقاتل وأسندت القيادة إلى أبي سفيان بن حرب .
ومثلما غدر بنو النضير ، خان القرظيون العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضموا إلى الأحزاب فى حربهم ضد المسلمين التى انتهت بعودة الرسول صلى الله عليه وسلم منتصراً إلى المدينة ، ولكنه لم يكد يدخل بيت أم سلمة ليغتسل إذ جاءه جبريل ظهراً يحمل له خبر ربه بزلزلة حصون الخونة من بنى قريظة وقذف الرعب فى قلوبهم .
ففرض النبي صلى الله عليه وسلم حصاراً على حصون بنى قريظة، مما حدا بزعيمهم كعب بن أسد أن يعرض عليهم عرضاً : (يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً: فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه؛ فو الله لقد تبين لكم أنه لنبيٌ مرسل, وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره!!.
قال: فإذا أبيتم على هذه، فهلُمَّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلِتي السيوف لم نترك وراءنا ثقلاً, حتى يحكم الله بيننا وبين محمد, فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه, وإن تطهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش بعدهم؟! قال: فإن أبيتم عليّ هذه فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمدٌ وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب من محمدٍ وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا علينا ونحدث فيه ما لم يحدثه من كان قبلنا, إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ!) .
وكان لعنادهم ورفضهم أن أنزل الله فيهم حكمه ، فسُبيت الذريّة ، وقُتِل المقاتلة ، وأُجليَ الباقون عن الديار، أما ريحانة فقد وقعت أسيرة في السبى ، وكانت باهرة الجمال ، تأخذ العين حين مرآها ، ولا تعدم البصيرة أن ترى فيها ذكاءً وحصافة ، وفوق كل هذا وفاء تبدت مظاهره حين علمت بمقتل زوجها أن قالت : لن أتزوج أحداً بعده .
وماتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مسلمة ، وإن كانت على غير الدين عرض عليها الإسلام ، وخيرها ، فما عهد عنه صلى الله عليه وسلم أن أكره أحد على الدخول فى الإسلام ، فلما عرضوها عليه صلى الله عليه وسلم ، عرض عليها الإسلام فأبت، فأرسل بها إلى بيت أم المنذر سلمى بنت قيس قائلاً لها : ’’ أخبريني إن حاضت حيضة واحدة ’’ ، ذلك أن النساء المسبيات في الجهاد الإسلامي تستبرأ أرحامهن بحيضة واحدة، يُعلم بها خلو أرحامهن من الحمل.
أما سر ارسالها إلى بيت أم المنذر الخزرجية النجارية ؛ فقد كانت إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم،وكثيراً ما كان يخصها بالزيارة، ويأكل عندها، ويشير إلى أنّ طعامها ذو بركة ونفع، وكانت رضي الله عنها تشتهر عند أهل المدينة بكثرة التمر والرطب في بيتها.
مرّت الأيام بريحانة قرابة الشهر ولم تزل في بيت أم المنذر تجتر ذكريات الأيام التى مرت بها منذ جلاء قومها ، وما نزل بقوم زوجها ، فأدركت أن هذا أقل ما يستحقونه نتيجة غدرهم وخيانتهم للعهود والمواثيق ، وربما لو أذعن القرظيون لزعيمهم كعب بن أسد وتابعوا محمد بن عبدالله على دينه وأسلموا لله بعد ما علموا وأيقنوا أنه الرسول المبشر به فى كتبهم ، لربما عاش زوجها وظلت عزيزة فى بيتها وبين قومها ؟! ، أحست أنها كقومها لزمتها الحجة بعدما علمت أنه رسول الله الحق بحق ، إذن فلما لاتؤمن به ، وتصحح خطأ وخطيئة قومها ،خاصةً وأن ما رأته من حال سلمى وصويحباتها من المسلمات من طهارة ، وصلاة ، ومحبة لبعضهن البعض، وحسن معاشرة لأزواجهن ، وتوقير وتعظيم المسلمين لشخص رسولهم ، ومحبة تفوق الوصف إلى حد الفداء بوالديهم وأنفسهم وأولادهم من أجله ، كل هذا جعلها تعيد تقييم الأمور ، وكيف فاتها وهى المشهور عنها رجاحة العقل والفطنة ، كيف نجاها الله من الجلاء مع قومها واستبقاها فى بنى قريظة مع زوجها ، حتى حاصرها المسلمون إلا أن الله قد أراد لها الخير ، ذلك الخير الذى فطن إليه من بقى من أهلها أحياء فأسلموا أفتظل هى على عنادها كشأن اليهود حتى تخسر دنياها وآخرتها ؟! ، وبينما هىَّ على هذا الحال إذ فاجأها الحيض ، فبادرت وأخبرت أم المنذر لعلمها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر الخبر ، وقد صدق حدسها ، إذ جاء مع أم المنذر ..
وتصف لنا ريحانة مادار بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَنَحَّيْتُ مِنْهُ حَيَاءً ، فَدَعَانِي ، فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : إِنِ اخْتَرْتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اخْتَارَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ ، فَقُلْتُ : إِنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمَّا أَسْلَمْتُ أَعْتَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَنِي وَأَصْدَقَنِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ، وَنَشًّا كَمَا كَانَ يُصْدِقُ نِسَاءَهُ ، وَأَعْرَسَ بِي فِي بَيْتِ أُمِّ الْمُنْذِرِ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِي كَمَا كَانَ يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ ، وَضُرِبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ )
وروي عن عمر بن الحكم عن ريحانة قالت: لما سبيت بنو قريظة،قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه’’ ، فقلت: إني أختار الله ورسوله. فلما أسلمت أعتقني
قال ابن سعد: هذا ما روي لنا في عتقها وتزويجها. وهو أثبت الأقاويل عندنا. وهو الأمر عند أهل العلم. وقد سمعت من يروي أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتقها. وكان يطأها بملك اليمين، ومن ذلك ما روي عن أيوب بن بشير. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: أن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي. فقالت: يا رسول الله أكون في ملكك أخف على وعليك. فكانت في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا دارت أقوال أهل العلم بين أن ريحانة كانت زوجاً للنبى صلى الله عليه وسلم أو ملك يمين ، والقول الأخير أرجحهما وعليه دار أكثرهم .
والأمر الذى لاشك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحبها كما أحبته ؛ فقد كان يمكث عندها كثيراً، ولا يرد لها طلباً، ولا تسأله شيئاً إلا أجابها إليه, وهو منشرح الصدر.
وأما قول الناصحون لريحانة لما رأوا من حال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة لأعتقهم ، فقالت: لم يخل بي حتى فرق السبى . فلا أعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيجيبها إلى مطلبها خاصة وأن اليهود حينما رضوا بحكم سعد بن معاذ الذى حكم به ، أجابه صلى الله عليه وسلم من فوره :’’لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ’’، فكيف كان سيرجع عن حكم الله مرضاة لامرأةٍ أياً كانت ، أريحانته فاطمة بنت محمد أهون عنده من ريحانة بنت زيد ، وذلك كما جاء فى حديث المخزومية،عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟’’ ، ثم قام فاختطب، ثم قال : ’’ إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’’.
وبادلته صلى الله عليه وسلم حباً بحب يدل على هذا أيما دلالة غيرتها الشديدة عليه صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يغضبه ، فطلقها ـ بحسب من رأى من أهل العلم أنهما تزوجا ـ ثم عاد إليها بعد انقطاع يسير ، لما علمه مما تعانيه من وحدة ، وشوق إليه ، فرق قلبه لها ، وعاودا المسير من جديد .
لما دخلت السنة العاشرة من الهجرة وفي شهر ذي القعدة أعلن المنادي بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حاج هذه السنة ، وقد رغب رسول الله زوجاته جميعهن، وأقاربه وأصحابه في الخروج للحج ، حيث حج معه زوجاته كلهن رضي الله عنهن ومعهن ريحانة التى أكملت عامها الخامس فى كنف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، و ما أن وطىء العائدون من الحج أرض المدينة حتى دق المرض أوصالها ، وربما ظن من حولها أنه ربما من مشقة السفر وستبرأ منه سراعاً، أو ربما أتعبها وأزعجها قوله لزوجاته : ’’إنما هى هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر ’’ ، فوقر فى نفسها أنه ينعى نفسه إليهن ، غير أنها وهى تستعرض فرحة ما من الله به من نعمة الإسلام ، وختم لها بحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لهىَّ أيام بالعمر كله ، وأحست بحب الله لها إذ ساق لها النور فى ركاب رسول الله يتقدمه رسول السماء جبريل ، لينتشلها من وهدة الكفر حيث نور الإيمان .. نظرت إلى السماء حامدة لله شاكرة ، لتتابعها روحها بالصعود إلى جوار ربها رضى الله عنها وأرضاها .
ساحة النقاش