دكتور السيد إبراهيم أحمد

 

أجهد علماء المسلمين أنفسهم فى البحث عن مشروعية تعدد الزوجات فى الإسلام ، وخاصة التعدد الذى اختص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فراحوا يفتشون فى الديانات والحضارات السابقة على الإسلام ، وعن الأنبياء الذين عددوا عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ،
وكأن الإسلام كدين ، ومحمد بن عبدالله رسول العالمين ، فى موضع الاتهام ، ووجب عليهم الدفاع عنهما ، واثبات براءتهما من هذا الفعل المشين .

ينسى من يقومون بهذا ـ ومقصدهم نبيل على كل حال ـ أن الإسلام كدين جاء ختاماً لرسالات السماء ، فليس هناك دين سيأتى بعده ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو ختام عصر النبوات ، فلا نبى بعده ، وبالتالى فليس هناك كتاب سماوى بعد القرآن الكريم ، وبداهةً ليس هناك تشريعات جديدة بعد شرع الله الذى أنزله الله عز وجل على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم .
لهذا فقد جاء النبى صلى الله عليه وسلم ممثلاً للطاقة البشرية كلها ، يتمثلها فى كل حالاتها ، لتستمد منه الأجيال القادمة ـ على اختلاف ألوانها ، وجنسياتها ، وجغرافيتها ، وألسنتها ـ الدروس ،والقدوة ، والمثل ، والحلول لمشاكلها ، فرغم ما ذكرناه من اختلاف إلا أن الطبيعة البشرية لا تكاد تختلف فى الميول والغرائز ، وغيرهما ..

ضرب رسول الله المثل للشاب الذى يتزوج ممن هى أسن منه ، وأغنى ، وكيف يتقى الله فيها وفى مالها ، وقد تجسد هذا فى قصة زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضى الله عنها ، كما ضرب المثل فى زواج الرجل الكبير سناً ممن تصغره ، وكيف يكون ليناً  فى معاملتها ، يعلمها دون تأنيب أو تعنيف ، وقد تجلى هذا فى زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضى الله عنها ، ثم ضرب المثل للرجل الذى يفقد زوجه أم أولاده وقد تركت خلفها من يحتجن لرعاية الأم كفاطمة وأم كلثوم ، وهو المضطلع بعبء الرسالة الثقيل ، وكيف لم يخطب لنفسه حتى جاءته من تخطب له ، ليختار من تكبره ولاتماثله وربما لم تتق نفسه إليها مؤثراً بنتيه عليه ، كما يختارها أرمل لشهيد فى سبيل الله ، ثم يضرب المثل فى بشريته التى طالما تفاخر بها ولم يتبرأ منها ، فيحركه نزوع نفسه نحو الجمال ، فيتزوج الجميلات ، ليعلم من يأتى بعده أن الجمال نعمة طالما تحلت صاحبته بقيم الدين ، وفضائل الأخلاق ، والأصل الكريم ، وليس الجمال هدفاً فى ذاته ، كما تجلى ذلك فى زواجه صلى الله عليه وسلم من جويرية ، وزينب بنت جحش رضوان الله عليهما .

وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم قصة وسببا في زواجه منها . وهن فيما عدا زينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث , لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال كانت عائشة - رضي الله عنها - هي أحب نسائه إليه . وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر - إلى جانب جاذبيتهن - ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا , ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينبفلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم . إذا حلا لأعدائه أن يتهموه ! فقد اختير ليكون إنسانا . ولكن إنسانا رفيعا . وهكذا كان . وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه صلى الله عليه وسلم على اختلاف الدوافع والأسباب .

كانت عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم فى حياته داخل جدران بيته مع أسرته كما كانت خارج بيته لقد صدق فولتير حين قال فى كلمته المشهورة :... إن الرجل لايكون عظيماً فى داخل بيته ، ولابطلاً فى أسرته  ... وذلك لأن المعايشين له يرقبونه عن قرب ، ويعلمون تصرفاته الظاهرة ، ويسمعون ويتسمعون لدواخله الباطنة ، فلا يشهدون له لا بالإعجاز ولا البطولة )، إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ويشهد بهذا باسورت سميث : (إن ماقيل عن العظماء فى مباذلهم لايصح ـ على الأقل ـ فى محمد رسول الإسلام.. فلم يمتحن رسول من الرسل أصحابه كما أمتحن محمدأصحابه ، فأول من آمن به أهله : زوجته وغلامه وبن أخيه ، وأعظم الناس لايأذن لزوجة واحدة بأن تحدث الناس عن أحواله ، فما بالك برجل ٍ له تسع زوجات ، ولم يصدر اليهم أمراً ديكتاتورياً كهذا بل أذن لهم بأن يحدثن أصحابه لا بكل الأحوال المعروفة نهاراً فقط ، بل بالمخبؤ عنهم تلفه خلوات الليل ).

فكل علماء الحديث يعرضون كل ما يتعلق بالنبى صحيحاً أم سقيماً ، حقاً أو باطلاً ، ثم نقلوا إلى المسلمين جيلاً بعد جيل كل أحوال رسولهم ، مما يظن الذين يثيرون الشبهات حولها أنهم قد وقعوا على كنز ٍ دفين ، ليخرجوا من مخبؤاته كل فترة مايلوث سمعته صلى الله عليه وسلم من غمز ٍ له فى زواجه أو أزواجه الطاهرات ، وكأنهم أفذاذ فى ميدان البحث العلمى والتأريخ الرصين واستكناه الأسرار ، واستخراج الشبهات ، ولو تحروا العظمة فى أوج قمتها ، لوجدوا أن هذا إنجاز لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلميحسب له لاعليه ، ولو مارس الصحابة (الإنتقائية)بحسب وجهة نظرهم فيثبتوا ويحذفوا ماشاءوالما وجد أحدهم ما يظن أنه شبهة ، فنحن نعترف بكون رسولنا بشر ولم نرفعه لمصاف الآلهة فنخفى أفعاله الإنسانية ونبررها بتبريرات خائبة لاتنطلى على عاقل .
    
فالسيرة النبوية هي جزءٌ مهمٌّ موثقٌ من تاريخِ الإنسانية وتراثها والحمد لله ليس فيه مانخجل من عرضه ، وقد كان يعلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الذى يعيش بين أطيافٍ مختلفة من الديانات والملل والنحل ومنهم من هو متربصٌ به وبكل مايخرج عنه ، وكذلك كان مستشرفاً آفاق المستقبل بما أوحى إليه ربه من غيب المستقبل له ولأمته من بعده ، فلو أراد أن يكتم أمر بيته لألزم أزواجه بهذا، ولكنه كان يعلم أنه صلى الله عليه وسلم مُرسل للإنسانية كلها وهو هاديها ومعلمها وخاتم الرسل ولن يرسل الله من سيعلم البشرية بعده .

ولهذا قال الدكتور مصطفى السباعى: ( فلا تمتلك الإنسانية اليوم سيرة كاملة شاملة بهذا المعنى ، سلطت الأضواء عليها من كل مكان فكانت مثالية  - مثاليةَ الواقع لا مثالية الخيال  - ، ولذا فهي تراثُ الإنسانية جمعاء ، يرجع إليها المسلم تديُّنًا وتأسِّيًا وحُبًّا ، ويقرؤها غير المسلم من ذوي الإنصاف ليرى نفسه أمام العظمة وقد جُمِعَتْ من أطرافها ، ويعرف لهذا الرسول حقَّه).
أن الذى ميز حياة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أن حياته وسيرته وشمائله كلها قد حفظها لنا التاريخ ، فليس ثمة غموض في أي ناحية من حياته وسيرته . وقد اعترف بهذه الحقيقة كبار المؤرخين الغربيين . فالمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي يقول: ( الذين يريدون أن يدرسوا السيرة النبوية العطرة يجدون أمامهم من الأسفار مما لا يتوافر مثله للباحثين في حياة أي نبي من أنبياء الله الكرام) .

والحياةُ تنشئ علم التاريخ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء - صلوات الله عليهم - تجعل التاريخ هو الذى ينشئ علم الحياة ؛ فإنما النبي إشراقٌ إلهيٌ على الإنسانية، يُقَوِّمُها في فلكها الأخلاقي، ويجذبُها إلى الكمال في نظامٍ هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.

وليس توينبى وحده هو الذى يشهد بوفرة المعرفة عن حياة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بل طائفة من المنصفين تتالى أقوالهم لتعزف وحدها أهزوجة الحقائق متتالية متناغمة ،ومنهم غوستاف لوبون ، والكونت كاتيانى ، وبودلى وغيرهم التى تشهد بالوفرة فى المعلوم عن حياة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .

إذن .. كانت زيجاته صلى الله عليه وسلم غارقة فى النفع والأهمية ، علمها صلى الله عليه وسلم ، وطوت جوانحه سرها ، وغايتها ، ومردودها على المسلمين ، لما فى زواجه صلى الله عليه وسلم من حكمة.. إما تعليمية أو تشريعية أو سياسية أو اجتماعية.. ستنتهى حتماً بانتهاء زمانها و المراد منها  إلا الحكمة التعليمية فبقاؤها مرهون باتصال الزمان ، وامتداد المسلمين رقعةًوتعداداً ، كما عرف صلى الله عليه وسلم أن عمره القصير على سطح كوكبنا لن يفى وحده بتعليم المسلمين كل أمور دينهم من التفاصيل الصغيرة التى سوف يحتاجها الناس دوماً ، فالأحكام تتناهى وحاجات الناس لاتتناهى ، ولهذا فقد ترك لهم أزواجه ـ رضوان الله عليهن ـ ، وأصحابه ـ رضى الله عنهم ـ ينقلن وينقلون عنه صلى الله عليه وسلم ، ذلك الرعيل الأول  الذى عاصرالوحى وهو ينزل من السماء ، والرسول المعلم والزوج والقائد يبلغ ويحدٍّث فى مسجده ، وغزواته ، وفتاواه ، وأقضيته ، ومعاهداته، وفى بيوته ، وبين أزواجه ؛ فتبليغه وحى ، وكلامه سُنة ، وفعله قدوةصلى الله عليه وسلم ، ورضى الله عن أمهاتنا الطاهرات .

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 535 مشاهدة
نشرت فى 3 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

68,249